بعد أن حلف الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب اليمين، اختفت الملفات الخاصة ببرامج مكافحة التغير المناخي من صفحة البيت الأبيض، بعد أن تمكن مبرمجون بيئيون من جمع عدد كبير من المستندات البيئية الهامة من كافة المؤسسات الفدرالية الأمريكية للحفاظ عليها. لم تكن خطوة ترامب مفاجئة إذ أن الرئيس الأمريكي الجديد يرى أن الإحتباس الحراري خدعة صينية لإبطاء القدرات التصنيعية والإضرار بتنافسية صادرات الولايات المتحدة الأمريكية.
وتشي التحركات الحالية للإدارة الجديدة بالسياسات البيئية التي ستتخذها مستقبلاً إذ أنه من المتوقع التصديق على مشروعين جدليين لإنشاء الأنبوبين النفطيين المعروفين بـ”كيستون أكس أل” ((Keystone XL و”أنابيب عبور داكوتا” ((Dakota Access Pipelines. كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك اوباما قد ألغى المشروعين بعد جدل واسع على الأضرار البيئية التي يمكن أن تنتج عنهما.
وفي وقت تبدو فيه الإدارة الأمريكية الجديدة عازمة على شن هجمة واسعة على برامج مكافحة التغير المناخي وعلى المنظمات البيئية، تتعدى مخاطر تلك المخاطر الناتجة الإنتكاسة المحتملة التي ربما يشهدها التعاون الدولي حول هذا الملف إلى سلامة اقتصاديات العالم، البنى التحتية الحيوية، وأسواق النفط والغاز العالمية خلال الفترة المقبلة.
تستطيع جماعات الخضر شن هجمات مباغتة على منشآت نفطية وغازية يمكن أن تكون لها تداعيات خطيرة على إستقرار أسواق الطاقة العالمية وبالتالي أداء الاقتصاد العالمي
مع تطور وتعقد بنى الفضاء الإلكتروني، لم تعد التظاهرات ووسائل الإحتجاج التقليدية هي السلاح الوحيد الذي يتم اللجوء إليه للضغط على صناع القرار للرضوخ عن إتخاذ قرارات تضر بالسلامة البيئية، إذ طورت جماعات الخضر والمجموعات المدافعة عن البيئة قدراتها الدفاعية في الفضاء الإلكتروني تمكنهم من شن هجمات واسعة على المنشآت الحيوية المستهدفة بفضل أرتباط الأخيرة بشبكة الأنترنت. فتستطيع جماعات الخضر شن هجمات مباغتة على منشآت نفطية وغازية يمكن أن تكون لها تداعيات خطيرة على إستقرار أسواق الطاقة العالمية وبالتالي أداء الاقتصاد العالمي.
وتزيد أهمية ما سبق عند الأخذ في الأعتبار تقرير نشرته شركة “ماكينزي آند كامباني” للإستشارات الإدارية تتنبأ فيهما بتصاعد كبير في عمليات حوسبة قطاع النفط والغاز عالمي خلال العقد القادم. يشير التقرير إلى حدوث خمسة تغيرات هامة في مجال حوسبة القطاع خلال الفترة القادمة. وتتلخص هذه التغيرات في التالي.
أولاً: دمج إستخدامات الهواتف الجوالة في الاستحواذ وتنفيذ المشروعات. وفقاً للشركة، من المتوقع أن تتوفر لدى كل شركة نفط وغاز في العالم الغربي إلى تكنولوجيا اتصال من الجيل الرابع (4G).
ثانياً: تزايد إستخدام ما يسمى بـ”إنترنت الأشياء” (Internet of things)، أي الأجهزة التي تشكل البنية التحتية (المادية) للإنترنت، في القطاع من خلال ربط منشآت التكرير، الأنابيب، المضخات، والمنصات بالفضاء الإلكتروني لإدارتها عن بعد.
ثالثاً: تزايد إستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي في القطاع.
رابعاً: تزايد إستخدام وتطور الأنظمة الروبوتية المدارة إلكترونياً.
خامساً: تزايد إستخدام ما يسمى بـ”سلسلة الكتل” (Blockchain) لحوسبة التعاملات المالية في القطاع دون اللجوء إلى وسطاء بشريين، من أجل خفض التكاليف.
مع الإستخدام المتزايد للطائرات بدون طيار، الروبوتات، وأجهزة الإستشعار في قطاع النفط والغاز، قد تؤدي هجمات معقدة يقودها مجموعة من المخترقين المحترفين إلى تعطيل الإنتاج، التلاعب بالإتصال، قطع الإمدادات، وهي ممارسات يمكن أن يؤدي جميعها إلى إختلالات صغيرة أو كبيرة في أسواق الطاقة العالمية وخاصة أن بيع الوقود الأحفوري في الأسواق الفورية يتوسع الآن تدريجياً على حساب الاتفاقات طويلة المدى، وخاصة في مجال تجارة الغاز المُسال مع تزايد إستهلاكه. كمان أن هجمات كهذه الهجمات يمكن أن يكون لها تأثيرات سلبية على أسهم شركات طاقة مدرجة في البورصات العالمية. وكذلك، قد تؤدي هجمات إلكترونية على بورصات تستهدف التلاعب بأسهم شركات الطاقة العملاقة إلى إضعاف ثقة المستثمرين فيها وفي خططها المستقبلية. جميع تلك التكتيكات المحتملة التي يمكن أن يستخدمها مخترقون خضر/بيئيون، يسهلها الإنخفاض المتزايد لكلفة الحروب الإلكترونية مع تراجع تكاليف الحصول على التقنيات الضرورية.
إندلعت سلسلة من الحرائق في معامل للبتروكيماويات في إيران أدت إلى تعطيل الإنتاج في وحداتها. اشتبهت السلطات الإيرانية آنذاك في تسبب فيروسات مزروعة في الأجهزة الحاسوبية للمنشآت في هذه الحرائق
تعرضت شركة أرامكو السعودية (الشركة السعودية للنفط) لأعنف الهجمات الإلكترونية في عام ٢٠١٢ حيث تسببت هجمة في تعطيل ما يربو ٣٥ ألف حاسوب. إضطر حينها موظفو الشركة إلى إستخدام آلات كاتبة من أجل كتابة التقارير. تمد شركة أرامكو السعودية العالم بما يقارب ١٠ في المائة من احتياجاته النفطية، حيث كانت الشركة تنتج آنذاك تقريباً ٩.٥ مليون برميل نفط يومياً. ولكن يبدو أن القدرات الهجومية للمخترقين كانت قد تطورت كثيراً منذ عام ٢٠١٢ إلى عام ٢٠١٦. في العام الماضي إندلعت سلسلة من الحرائق في معامل للبتروكيماويات في إيران أدت إلى تعطيل الإنتاج في وحداتها. اشتبهت السلطات الإيرانية آنذاك في تسبب فيروسات مزروعة في الأجهزة الحاسوبية للمنشآت في هذه الحرائق. تعد إيران ثاني أكبر منتج للمواد البتروكيماوية بعد المملكة العربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط. بالرغم من شراسة هذه الهجمات، لم تكن الأشرس على الإطلاق إذ أن إختراق الأنظمة الحاسوبية للمفاعلات النووية الإيرانية بواسطة الفيروس “ستاكسنت” ((Stuxnet واكتشافها في عام ٢٠١٠ كان كارثياً بالنسبة للسلطات الإيرانية. وبالرغم من ارتباط الهجمات الإلكترونية على منشآت الطاقة في الشرق الأوسط بالصراع الإقليمي، ربما تفتح هجمات كهذه الهجمات شهية المخترقين البيئيون على شن هجمات مماثلة في بقاع جغرافية أخرى.
إنخفاض كلفة الهجمات الإلكترونية ليست العامل الوحيد في تحفيز الهجمات الإلكترونية الخضراء على المنشآت النفطية والغازية في المستقبل، ولكن أيضاً تطور المسرح السياسي في أوروبا الذي يشهد صعوداً غير مسبوق للأحزاب اليمينية – القومية التي تجعل من عملية تشكيل تحالفات وائتلافات بين مجموعات بيئية وأناركية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما مسألة وقت. إذا إندمجت مجموعات، ربما يتبادل المخترقون التابعون لهذه المجموعات خبرات راكموها على مدار الأعوام الماضية بصورة تؤدي إلى تعزيز قوة هجماتهم الإلكترونية في المستقبل. ولكن في المقابل سيتزايد الإستثمار الحكومي وغير الحكومي في تقنيات دفاعية لحماية المنشآت الحيوية.
يلعب ما يسمى “تأثير الدومينو” (Domino effect) دوراً في تزايد هجمات الفضاء الإلكتروني. تأثير الدومينو هو تأثير تسلسلي يحدث عندما تبدأ مادة في دفع مادة أخرى إلى أخرى ودواليك. في هذا السياق، قد تحفز هجمات يشنها مخترقون تابعون لحكومات مجموعات أخرى (كالمجموعات البيئية) على شن هجمات مماثلة. وبسبب صعوبة تعقب مصدر الكثير من الهجمات الإلكترونية، قد تسيء شركات أو مؤسسات حكومية في قطاع الطاقة تأويل هذه الهجمات ومصادرها كحرب يشنها منافسون في السوق يرغبون في الأستحواذ على معلومات حساسة أو تأويلها كتحرك من قبل مؤسسة حكومية في دولة معادية. ولذلك، قد يكون لإنخراط المخترقون البيئيون في حروب خلال الفترة القادمة مع مؤسسات حكومية وشركات نفطية في ظل توسع التوجهات المعاجية لمكافحة الإحتباس الحراري.
بعيداً عن فترة رئاسة دونالد ترامب وسياسات إدارته المتوقعة في الملف البيئي، يتجه العالم على المدى البعيد إلى إعتماد استهلاك الطاقة المتجددة على حساب الوقود الأحفوري (النفط، الغاز، والفحم) ومشتقاته. وفي ظل التوجهات الأوروبية والآسيوية التي تستهدف التوسع في إستخدام الطاقة النظيفة في المستقبل، سيتعرض منتجي ومصدري الوقود الأحفوري إلى ضغوط من المستهلكين التقليديين، مع إستمرار محاولاتهم التأثير على هذه الأجندة. مع تزايد التنافس مستقبلاً، قد تتزايد صراعات اللاعبين في الفضاء الإلكتروني لتحقيق ريادة معلوماتية وإستخبارية تمكنهم من تحقيق هوامش ربحية أعلى في أسواق ربما تتمتع بشهية أقل. ولكن من المتوقع أن تكون لرئاسة دونالد ترامب تأثير كبير على صراعات الفضاء الإلكتروني في الفترة التي ستلي فترته مع إعادة تشكل الكثير من التحالفات في المشهد السياسي والاقتصادي الدولي.