يُعد ملف إعادة الإعمار في العراق من أهم الملفات في السياسة العراقية منذ الغزو الأمريكي عام 2003، وبدأت تداول هذا المصطلح عراقيًا من قبل الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، والذي أعلن عن مشاريع جاهزة لإعادة البنية التحتية العراقية التي لم يتم تحديثها تقريبًا منذ السبعينيات، والتي عانت من 3 حروب مدمّرة خلال الربع الأخير من القرن الـ 20.
في هذا التقرير الجديد ضمن ملف “كعكة الإعمار”، نستطلع واقع البنية التحتية العراقية اليوم، ونحاول الإجابة على أسئلة مهمة من قبيل: أين وصل ملف إعادة الإعمار؟ وما دور اللاعبين المحليين والإقليميين فيه؟ وما الذي يمنع من المضي قدمًا فيه؟
أولًا: واقع البنية التحتية العراقية
تعيش كل القطاعات في العراق حاجة ماسّة لإعادة إعمارها من جديد، بما يتلاءم مع متغيرات العصر وحاجة المجتمع العراقي وفق الزيادة السكانية فيه، فضلًا عمّا يتواءم مع التغيرات التي شهدها الاقتصاد العراقي منذ رفع العقوبات الدولية عنه، بعد غزوه على يد القوات الأمريكية عام 2003.
ففي القطاع الصحي، لم تواكب الدولة وتيرة الزيادة السكانية ومعها الاحتياجات الاجتماعية، إذ يبلغ عدد الأسرّة 1.3 سرير فقط لكل 1000 شخص، وتقول دراسة أجراها مجموعة من الأكاديميين في جامعة كربلاء، إنه ورغم إنفاق العراق نحو 53 مليار دولار كسيولة تشغيلية واستثمارية وأجهزة ومعدّات ومستلزمات طبية من موازنات حكومية لترميم المنظومة الصحية المتآكلة، إلا أنه لا يزال في المرتبة الثالثة الأسوأ عالميًّا في الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين وفق مؤشرَي Numbeo وCEOWORLD.
وضمن المحتوى الفرعي للمؤشر، سجّل العراق في المؤشر العام 32.55 درجة، وفي البنية التحتية الصحية 73.74 درجة، وفي معيار المهنيين والكفاءات 14.59 درجة، وفي التكلفة 53.81 درجة، وفي توافر الدواء 57.45 درجة، وفي استعداد الحكومة 88.36 درجة، وذلك وفق نتائج المؤشر.
تشير هذه المعطيات إلى تهالك المنظومة الصحية وضعفها في ضمان الرعاية الصحية المطلوبة للمجتمع، وهو أمر غير مقبول، بعد أن كان العراق يعدّ من الدول الرائدة في الرعاية الصحية.
أنفق العراق 53 مليار دولار كسيولة تشغيلية واستثمارية لترميم المنظومة الصحية، إلا أنه لا يزال في المرتبة الثالثة الأسوأ عالميًّا في الرعاية الصحية
ولأن الرعاية الصحية هي الأسوأ، تسبّب هذا في سفر العراقيين إلى الخارج للحصول على الرعاية الصحية، إذ تشير التقارير الطبية المصدقة لدى وزارتَي الخارجية والصحة أن “ما لا يقل عن 4 آلاف عراقي يغادرون شهريًّا بغية العلاج”، يكلفون الاقتصاد أكثر من 5 ملايين دولار شهريًّا، لعدم توفر الخدمة الصحية والعلاج حيث “يتوفر 12% من مجموع الأدوية الأساسية وهي 531 دواء”.
كما أن تقارير وزارة الصحة تشير أن ما يُصرف على المواطن سنويًّا أقل من 100 دولار، في حين تقدر التكلفة المطلوبة للرعاية الصحية للمواطن العراقي “بين 154 و161 دولارًا سنويًّا، وفقًا لمؤشرات البنك الدولي، وترتفع في أفضل مستويات التفاؤل إلى 239 دولارًا بحسب مؤشر The Global Economy”.
أما في واقع التعليم، فقد أعلنت وزارة التربية العراقية أنها تحتاج إلى مليون مدرّس و8 آلاف مدرسة لمعالجة النقص في الكوادر والمنشآت، وجعل التعليم يتناسب مع الزيادة السكانية الحالية، بعدما اضطرت إدارات المدارس الرسمية إلى تطبيق نظام تقسيم الدوام إلى ثنائي وثلاثي وحتى رباعي من أجل استيعاب أكبر عدد من الطلاب، بسبب النقص الكبير في المباني الذي لا يتماشى مع عدد الطلاب الذين يدخولن مرحلة الدراسة سنويًّا، والذين يقدَّر عددهم بحوالي 1.25 مليون طالب.
وزارة التربية: العراق يحتاج مليون مدرّس و8 آلاف مدرسة لمعالجة النقص في الكوادر والمنشآت
من ناحية السكن، يعيش العراق واقعًا مماثلًا، حيث أكدت وزارة التخطيط حاجة العراق إلى أكثر من 4 ملايين وحدة سكنية، مشددة على وجود 4 آلاف مجمع عشوائي في عموم العراق، تضم هذه العشوائيات 522 ألف وحدة سكنية، لافتة إلى أن حصة العاصمة بغداد من هذه العشوائية هي الربع وبواقع 1022.
يحتاج العراق 4 ملايين وحدة سكنية
يضاف إلى كل هذا واقع آخر في المدن التي شهدت عمليات ضد “داعش”، فمحافظة نينوى شمال العراق وحدها شهدت تدمير ما لا يقل عن 60 جسرًا رئيسيًّا وفرعيًّا بفعل المعارك، بحسب المدير العام لبلديات نينوى، عبد القادر الدخيل، في تصريح لـ”الجزيرة”، حيث لم يتم إعمار سوى 12 منها.
المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية سيف البدر، كشف أن الحرب دمّرت عشرات المستشفيات في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين، 20 منها في نينوى، إضافة الى 6 مراكز تخصصية ضخمة، أما ما يتعلق بأعداد المنازل فتشير التقديرات أن الحرب تسبّبت في تدمير ما يقرب من 250 ألف منزل، بما يعادل 7.5 مليارات دولار، على اعتبار أن أقل تكلفة لإعادة الإعمار تقدر بـ 30 ألف دولار للمنزل الواحد، في حين أشارت تقارير حكومية إلى أن أعداد المنازل المدمرة لم تتجاوز 150 ألفًا.
يوجد في العراق 4 آلاف مجمع عشوائي نصف مليون وحدة سكنية
أما المتحدث باسم وزارة الكهرباء العراقية أحمد العبادي، فيؤكد أن الخسائر في قطاع الكهرباء في المناطق التي سيطر عليها التنظيم كانت باهظة للغاية، وتقدَّر بـ 12 مليار دولار، ويضيف أن قطاع الكهرباء نال الجزء الأكبر من الخسائر ليشمل محطات الإنتاج وشبكات النقل والتوزيع، ما أدّى بالعراق إلى أن يفقد جزءًا كبيرًا من البنى التحتية وقتها، بينما تقدر الخسائر الحكومية وحدها من مبانٍ وخزائن البنك المركزي والأسلحة التي تركتها القوات العراقية في تلك المحافظات بـ 36 مليار دولار.
بالذهاب إلى وزارة التخطيط العراقية التي نشرت تقريرًا مفصّلًا عن خسائر العراق عام 2018، كشفت عن أن عدد الوحدات الاقتصادية الحكومية المتضررة من الحرب يقدَّر بـ 8 آلاف و457 وحدة، لتشمل مختلف القطاعات الاقتصادية الحكومية في قطاعات النفط والكهرباء والتعليم والصحة والنقل والمستشفيات وغيرها.
ورغم أن التقرير شمل 7 محافظات عراقية، إلا أنه أشار إلى أن محافظة صلاح الدين (شمالًا) كانت الأكثر تضررًا على صعيد البنى التحتية الاقتصادية، بسبب الدمار الذي لحق بالمنشآت النفطية والكهربائية والمصافي التي كانت ترفد مختلف محافظات البلاد، أما قطاع التعليم فيكشف رئيس جامعة الموصل قصي الأحمدي أن 80% من الجامعات دُمّرت بالكامل بواقع 144 بناية، بالإضافة إلى تدمير المكتبة المركزية وغيرها.
ويؤكد الأحمدي -بحسب المشهداني- أن الجامعة فقدت أكثر من مليون كتاب علمي في مختلف التخصصات، فضلًا عن تدمير جميع المختبرات العلمية ونهب محتوياتها مع جميع الآليات والورش الصناعية.
بالمجمل، قدرت الحكومة العراقية حجم الخسائر والأضرار المباشرة التي لحقت بمختلف المحافظات العراقية المتضررة من تنظيم “داعش” بنحو 100 مليار دولار، في حين قدّر مسؤولون الاحتياجات الإجمالية لمشاريع إعادة الإعمار بنحو 88.2 مليار دولار على مدى 10 سنوات.
برامج إعادة الإعمار
يمكن تقسيم برامج إعادة الإعمار إلى 3 خطوط: برامج الحكومة العراقية، ومؤتمر الكويت، وبرنامج الأمم المتحدة.
1. برامج الحكومة العراقية
لم تعلن الحكومة العراقية عن برامج وتخصيصات محددة، لكنها أنشأت عام 2015 صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية، وذلك ليكون جهازًا ينسق بين المنظمات الدولية والوزارات العراقية في عمليات إعادة الإعمار السريعة، وينفّذ عمليات إعادة الإعمار متوسطة وطويلة الأجل في المناطق التي يتم تحريرها من سيطرة “داعش”.
شهد الصندوق تلكُّؤًا كبيرًا، ففي الوقت الذي تمَّ تأسيسه كانت كل عمليات التمويل أو أغلبها تذهب إلى المجهود العسكري، ولم يصدر النظام الخاص بعمل الصندوق إلا عام 2017 بقرار من مجلس الوزراء، بهدف “إعادة إعمار وتأهيل المناطق التي دمّرها الإرهاب وإزالة آثاره بما يحقق الأهداف التنموية، ومعالجة الأضرار الحاصلة في البنى التحتية، وتعويض الفرص التنموية المهدورة، وتحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية والإنسانية لعملية إعادة الإعمار”.
لا تفصح البيانات الرسمية عن الأنشطة الفعلية للصندوق أو تفاصيل عن منجزاته، لكنه أعلن عن مجموع المشاريع الواردة في خططه ما بين عام 2016 وعام 2023، وهي كالتالي:
- عدد المشاريع المخطط لها: 2053.
- عدد المشاريع المتعاقد عليها: 2041.
- عدد المشاريع قيد الإنجاز: 407.
- عدد المشاريع المنجزة: 1634.
- نسبة المشاريع المنجزة من المتعاقد عليها: 80%.
رغم أن الأرقام المذكورة أعلاه رسمية، لكن الحقيقة على أرض الواقع تقول إنها مبالغ بها، الإحصائيات الرسمية نفسها تدّعي إحالة ما يقارب من 99% من المشاريع في الخطة قيد التنفيذ، فضلًا عن نسب إنجاز تقدَّر بـ 80%، وهو أمر تُظهر بيانات أخرى من ديوان الرقابة المالية حول إنفاق الموازنة عدم دقته في أحد تقاريرها عام 2019، خاصة أن صندوق إعمار المناطق المتضررة من الإرهاب يتلقّى التمويل من الموازنة الاتحادية.
إذ أظهرت النسبة مثلًا أن نسبة تنفيذ الموازنة الاستثمارية التي كانت مخصّصة لإعمار الموصل لم تتجاوز 26%، وصلاح الدين 65%، وديالى 66%، ربما كانت الأنبار وحدها استثناء بتحقيق 176% ممّا تم تخصيصه بحكم المخصصات بأثر رجعي.
2. مؤتمر الكويت لإعادة إعمار المناطق المحررة
في المؤتمر الذي عُقد عام 2017 من قبل الدول الحليفة للعراق في الكويت، وصلت تعهُّدات الدول المانحة في اليوم الثالث والختامي لمؤتمر إعادة إعمار العراق المنعقد في الكويت، إلى نحو 30 مليار دولار بمشاركة 76 دولة ومنظمة إقليمية ودولية، و51 من الصناديق التنموية ومؤسسات مالية إقليمية ودولية، و107 منظمات محلية وإقليمية ودولية من المنظمات غير الحكومية، و1850 جهة مختصة من ممثلي القطاع الخاص.
من بين الدول المساهمة، أعلنت تركيا أنها ستخصص 5 مليارات دولار للعراق على شكل قروض واستثمارات، بينما قالت بريطانيا إنها ستمنح العراق تسهيلات ائتمانية في مجال الصادرات تصل إلى مليار دولار سنويًّا ولمدة 10 أعوام، أما الكويت فقد قررت تخصيص مليارَي دولار على شكل قروض واستثمارات، بينما تعهّدت السعودية بتخصيص مليار دولار لمشاريع استثمارية في العراق و500 مليون دولار إضافية لدعم الصادرات العراقية.
كما أعلنت الولايات المتحدة عن توقيع اتفاقية بين مصرف التجارة الخارجية الأمريكي والعراق، لمنح بغداد قروضًا بنحو 3 مليارات دولار، وبصورة عامة تم تخصيص هذه المساعدات على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات، للمساهمة في إعادة إعمار المناطق المتضررة من “داعش”.
3. برنامج الأمم المتحدة
في منتصف عام 2015، وبناءً على طلب من الحكومة العراقية وبدعم من التحالف الدولي ضد “داعش”، قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بإنشاء مشروع إعادة الاستقرار، لتنفيذ الأنشطة والمشاريع التي تخدم تحقيق الاستقرار في المناطق المتضررة من الصراع ضد “داعش”.
يقوم الموقع الرسمي لبرنامج الأمم المتحدة أنه عمل في 31 موقعًا عبر المحافظات الخمس المحررة، الأنبار وديالى وكركوك ونينوى وصلاح الدين، وفي 9 قطاعات رئيسية هي الكهرباء والصحة والمياه والتعليم والصرف الصحي وسبل العيش والبلديات والطرق والجسور والتماسك المجتمعي.
تركز أعمال برنامج إعادة الاستقرار على إعادة تأهيل البنى التحتية العامة، وتقديم الخدمات الأساسية للمجتمعات التي تعيش في المناطق المتضررة من النزاع، ويشمل ذلك إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء، وتوفير فرص عمل قصيرة الأجل من خلال مخططات الأشغال العامة، وإعادة تأهيل المنازل المتضررة، كما يتضمن أنشطة لدعم الحكومة في بناء مجتمعات مسالمة ومتماسكة، وبناء قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمجتمعات العراقية.
من خلال مشروع إعادة الاستقرار، استطاع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق توفير 1.55 مليار دولار أمريكي من 30 شريكًا دوليًّا، بما في ذلك الحكومة العراقية، ويشتمل برنامج إعادة الاستقرار التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على 3 أهداف رئيسية: تسهيل عودة النازحين العراقيين، وإرساء الأُسُس لإعادة الإعمار والتعافي، وحماية المجتمعات من تجدد العنف والتطرف.
تقول الأمم المتحدة إن البرنامج أنجز عدة مشاريع كما يلي:
- إعادة تأهيل وتجهيز 630 مدرسة و6 جامعات وطنية كبرى.
- إعادة تأهيل وتجهيز 19 مستشفى و148 مركزًا صحيًّا، ما يضمن الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الأولية.
- تمّت إعادة بناء 66 مركزًا للشرطة وكذلك المحاكم لتعزيز قطاع الأمن والعدالة، وإعادة تأهيل 142 محطة كهرباء فرعية، وكذلك 124 محطة لمعالجة المياه.
- تمّت إعادة تأهيل 36 ألفًا و913 منزلًا.
- أُعيد بناء 68 طريقًا وجسرًا، وإعادة ربط العمال بوظائفهم، والسلع بالأسواق، والناس بالخدمات الأساسية، كما تم ترميم 179 من المباني والأسواق المملوكة للبلدية.
كان هذا واقع المناطق المحررة من تنظيم “داعش”، والوعود التي بُذلت لسدّ الحاجة في إعادة إعمار تلك المناطق، وهو الملف الذي استحال إلى وسيلة لإثراء أمراء الحرب، ومجال للتنافس الإقليمي للاستحواذ على مشاريع الإعمار من قبل قوى محلية وإقليمية ودولية، دون أي إنجاز حقيقي على الأرض.