بحث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، العلاقات التاريخية بين البلدين، وسبل تعزيز التعاون المشترك في مكافحة الإرهاب والتطرف، فضلا عن تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في اتصال هاتفي جرى بينهما أمس الأحد واستمر قرابة الساعة.
الاتصال بين سلمان وترامب والذي يعد الأول منذ وصول الرئيس الأمريكي الجديد إلى البيت الأبيض، يحمل الكثير من الدلالات السياسية – الإقليمية والدولية – فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الأمريكية السعودية، خاصة بعد التصريحات المسيئة للرياض وإدارتها الحاكمة، والصادرة عن ترامب خلال حملته الانتخابية الرئاسية.
القضايا التي تم التطرق إليها خلال الاتصال الهاتفي لاسيما المتعلقة بإقامة مناطق آمنة في سوريا واليمن فرضت العديد من التساؤلات حول مستقبل التدخل الأمريكي في سوريا، والدور السعودي الجديد، إضافة إلى رد فعل التحالف الروسي الإيراني حيال هذه المقترحات.
اتصال واحد وأربعة ملفات
تطرق الاتصال بحسب بيان البيض الأبيض إلى عدد من الملفات، كان من أبرزها:
أولا: مكافحة الإرهاب: حيث تضمن البيان اتفاق الزعيمين على بذل كافة الجهود لمحاربة الإرهاب وتجفيف منابع التطرف، وذلك من خلال تضييق الخناق على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومكافحة مختلف تحركاته في مختلف دول الشرق الأوسط، إضافة إلى دعوة العاهل السعودي لترامب لقيادة جهود الشرق الأوسط لهزيمة الإرهاب والمساعدة في بناء مستقبل جديد اقتصادياً واجتماعياً
ثانيًا: بن لادن والإخوان المسلمين: الاتصال تطرق إلى الحديث عن زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين، وتجنيده لبعض الشباب السعودي للقيام بالعمليات الإرهابية سواء داخل أمريكا أو خارجها، وأن مثل هذه العمليات لن تؤثر على العلاقات بين البلدين.
ثالثًا: الاتفاق الإيراني: البيان تناول أيضًا قضية الاتفاق النووي الإيراني وضرورة تنفيذه بصورة “صارمة” ورفض التدخل في الشئون الداخلية للدول، ما يعني وبحسب مصدر سعودي، تطابق وجهات النظر الأمريكية السعودية بشأن رفض السياسات الإيرانية ورفض تزايد نفوذها في المنطقة.
رابعًا: إقامة مناطق آمنة في سوريا واليمن: لعل من أخطر ما تطرق إليه الاتصال بين الزعيمين، هو إقامة مناطق آمنة في سوريا والعراق، حيث أفاد البيان أن : ترامب طلب ووافق الملك على دعم مناطق آمنة في سوريا واليمن فضلاً عن دعم أفكار أخرى لمساعدة كثير من اللاجئين الذين شردتهم الصراعات المستمرة.
زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن
تبدل الموقف من السعودية
من يقرأ تفاصيل الاتصال الذي جرى بين ترامب وسلمان، والقضايا التي تم مناقشتها، والتي تعكس تطابق وجهات النظر حيال عدد من الملفات، يشعر أن هناك حالة من التناقض بين ما جرى بالأمس وبين التصريحات التي أدلى بها ترامب في مارس 2016، حين شنّ هجومًا حادًا على الرياض، مطالبًا إياها بسداد فواتير محاربة واشنطن للإرهاب، مهددًا بمقاطعة شراء النفط السعودي والخليجي، وهو ما أثار حفيظة المملكة حينها.
لكن يبدوا أن ترامب الرئيس يختلف عن ترامب المرشح، فتغير موقف الرئيس الأمريكي الجديد من السعودية، والذي اتضح بشكل نسبي خلال اتصال أمس، يدفع للتساؤل حول أبعاد ودوافع هذا التغير، إلا أن وكما هو معروف، فليس هناك في السياسة خصومة دائمة، فالمصالح هي القبلة التي تحدد توجهات أي دولة بصرف النظر عن المواقف السابقة لها.
النفوذ الإيراني المتزايد في الشرق الأوسط، والذي بات يهدد المصالح الأمريكية، لاشك وأن له دور في تقريب وجهات النظر بين واشنطن والرياض، خاصة وأن الأخيرة تنظر إلى طهران كونها دولة عدو في ظل ما تراه من تدخلها في شئون الدول الأخرى، وفي مقدمتها سوريا واليمن ولبنان والعراق.
النفوذ الإيراني المتزايد في الشرق الأوسط، والذي بات يهدد المصالح الأمريكية، لاشك وأن له دور في تقريب وجهات النظر بين واشنطن والرياض
كما أن التحالف الروسي الإيراني التركي وسيطرته على مقاليد الأمور في الشرق الأوسط، دفع واشنطن إلى البحث عن تحالف مواز يعيد لها دورها الإقليمي من جديد، ومن ثم فليس هناك أفضل من السعودية بصورة خاصة ودول الخليج بصورة عامة للتحالف معها، خاصة في ظل ما تتمتع به من قدرات مادية تساعد واشنطن على إحياء دورها بدون تحمل أعباء إضافية.
وأخيرًا فإن الضغوط الممارسة على ترامب لإعادة النظر في توجهاته الخارجية التي كشف عنها من خلال تصريحاته إبان حملته الانتخابية تلعب دورًا محوريًا في تغير مواقف الرجل بعد تربعه على عرش البيت الأبيض، إذ أن المصالح الأمريكية – التي قد تتأثر بتوجهات ترامب الجديدة- خط أحمر، لا يمكن تجاوزه بالأهواء الشخصية والميول العاطفية، ومن ثم كان لزامًا على الرئيس الجديد أن يرضخ لمثل هذه الضغوط ولو بصورة نسبية.
لماذا الآن؟
فكرة إقامة مناطق آمنة في سوريا ليست وليدة اللحظة، بل مقترح تم تداوله على موائد النقاش الأمريكي طيلة السنوات الماضية، إلا أن إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، رفضته بشكل قاطع، لما قد يترتب عليه من تبعات عسكرية وسياسية واقتصادية تضر بمصالح واشنطن في المنطقة، كما سيرد ذكره لاحقًا.
كما أن إعلان ترامب عن إقامة تلك المناطق خلال اتصاله بالعاهل السعودي ليس الأول من نوعه، فقد تعهد في تصريحات سابقة بإقامة تلك المناطق، أبرزها تصريح له أمام مؤيديه في مدينة هيرشي بولاية بنسلفانيا الأمريكية في منتصف ديسمبر الماضي بإنشاء مناطق إنسانية آمنة في سوريا، لوقف تدفق اللاجئين إلى أمريكا ودول أوروبا، ومطالبة دول الخليج بتمويل هذا المشروع.
الرئيس الأمريكي في تصريحه السابق أشار إلى أن هذا الإجراء يهدف إلى مساعدة المدنيين، واصفًا ما يجري في سوريا بأنه أمر مؤسف للغاية، ملفتًا أن بلاده غير قادرة على إقامة هذه المناطق، بسبب تضخم حجم دينها العام، مضيفًا أنه سيطالب دول الخليج بتقديم الأموال المطلوبة.
وفي وثيقة نشرتها وكالة “رويترز” توقعت فيها أن يأمر ترامب وزارتي الدفاع والخارجية في الأيام القادمة، لوضع خطة لإقامة هذه المناطق خلال 90 يوما من تاريخ الأمر، لكن الوثيقة لم تقدم أي تفاصيل بشأن تلك المناطق، وأين ستقام على وجه التحديد ،ومن سيتولى حمايتها فضلا عن باقي التفصيلات المرتبطة بباقي فرقاء التدخل في الأجواء السورية.
لاشك أن خروج أمريكا بعيدًا عن المشهد السوري خلال السنوات الماضية، وسيطرة التحالف الروسي الإيراني التركي على مجريات الأمور، دفعت الرئيس الجديد إلى محاولة إحياء الدور الأمريكي الشرق أوسطي من جديد، من خلال العديد من أدوات الضغط.
ثم جاء الاتصال الأخير الذي أجراه ترامب مع كل من العاهل السعودي، وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ليؤكد عزمه الوفاء بما تعهد به، حيث طلب منهما إقامة تلك المناطق، وقد وافق الزعيمان على الفور، بما تتضمنه هذه الموافقة من تحمل تكاليف وأعباء الإقامة وما تتطلبه من موارد ودعم.
لاشك أن خروج أمريكا بعيدًا عن المشهد السوري خلال السنوات الماضية، وسيطرة التحالف الروسي الإيراني التركي على مجريات الأمور، فضلا عن الخطوات الأمامية التي نجح التحالف في اتخاذها لحلحلة الأزمة، وكان آخرها مؤتمر “أستانة”، كان له أثر سيئ على واشنطن، والتي اعتادت الحضور في مثل هذه الملفات، ما دفع الرئيس الجديد إلى محاولة إحياء الدور الأمريكي الشرق أوسطي من جديد، مؤكدًا أن الولايات المتحدة حاضرة في المشهد، وقادرة على التأثير في مجرياته، وإعادة رسم خارطته بالصورة التي تراها، من خلال العديد من أدوات الضغط وتحريك المياه الراكدة، وهو ما تم بالفعل من خلال الإعلان عن إقامة تلك المناطق التي جاءت بمثابة الصدمة للتحالف الروسي الإيراني، لكن يبقى السؤال: هل تعي الإدارة الأمريكية تبعات إقامة مثل هذه المناطق؟ وما هي درجة استعدادها لتحمل تلك التبعات؟
الوضع في سوريا دفع الجميع إلى ضرورة البحث عن مخرج لإنقاذ المدنيين
إقامة مناطق آمنة.. ماذا يعني؟
العديد من التحديات التي تفرضها مسألة إقامة مناطق آمنة سواء في سوريا أو اليمن، وإن كانت في سوريا أكثر قسوة وخطورة، ومنها:
أولا: إرسال قوات أمريكية لتأمين هذه المناطق، ما يعني التدخل العسكري الأمريكي المباشر ، والتراجع عن التصريحات السابقة بشأن التواجد العسكري داخل سوريا.
ثانيًا: هذه المناطق تحتاج إلى إقامة مناطق حظر طيران، ما يعني عدم السماح لأي طائرات روسية أو إيرانية بالعبور من فوقها، وهو ما يمكن أن يتمخض عن التدخل لإسقاط أي طائرة تخرق هذا الحظر.
ثالثًا: الكلفة العالية لإقامة مثل هذه المناطق، وهو ما لا تتحمله الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن، ومن ثم طلبت من الدول الخليجية بتحملها.
رابعًا: الصدام المرتقب مع القوات الروسية المتواجدة، إذ أن التواجد العسكري الأمريكي وإقامة مناطق حظر للطيران، وتباين وجهات النظر بين الإدارة الأمريكية والروسية حول تواجد القوات الموالية لإيران، ربما يقود إلى مواجهات عسكرية بين موسكو وواشنطن، ما يدفع للتساؤل حول الموقف الروسي الإيراني من هذا الإعلان.
الطائرات الروسية تسيطر على الأجواء السورية
ماذا عن روسيا وإيران وتركيا؟
جاء إعلان دونالد ترامب عن إقامة مناطق آمنة في سوريا بمثابة الصدمة للإدارة الروسية، وهو ما كشف عنه المتحدث باسم الكرملين والذي أشار إلى أن موسكو فوجئت بهذا القرار، مطالبًا إدارة الرئيس الأمريكي الجديد بالتفكير في العواقب الممكنة لأي قرار محتمل بشأن إقامة مناطق آمنة في سوريا لحماية الفارين من العنف، بحسب وصفه.
القلق الروسي من الموقف الأمريكي المفاجئ عززه عدم تطرق ترامب خلال اتصاله بالرئيس فلاديمير بوتين أمس إلى هذه المسألة، حيث تمحور الاتصال في الحديث عن العلاقات بين البلدين، وسبل مكافحة التطرف، وتحجيم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، دون تنسيق بشأن فكرة إقامة المناطق الآمنة في سوريا، عكس ماتم مع العاهل السعودي، وهو مادفع بعض الخبراء إلى الحديث عن صدام مرتقب بين واشنطن وموسكو، وإرهاصات تحالف جديد مواز للتحالف الروسي التركي الإيراني.
القلق الروسي من الموقف الأمريكي المفاجئ عززه عدم تطرق ترامب خلال اتصاله بالرئيس فلاديمير بوتين أمس إلى هذه المسألة، حيث تمحور الاتصال في الحديث عن العلاقات بين البلدين وفقط
إيرانيًا.. فطهران أكثر المتضررين من هذا الإعلان، إذ أنه يعني إخراج القوات الموالية لإيران وعلى رأسها حزب الله من الأراضي السورية، كما نوه البعض، تماشيًا مع سياسة العقاب والمناهضة التي من المحتمل أن يتبعها ترامب ضد طهران، كان في مقدمتها الاتفاق مع السعودية على التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، فضلا عن التصميم على تطبيق الاتفاق النووي بشكل صارم، مع الإبقاء على العقوبات المفروضة عليها، إضافة إلى أن ما أثير بشأن رفض إيران المشاركة الأمريكية في مفاوضات “أستانة” كان له دور كبير في استثارة غضب ترامب وإدارته.
أما على المستوى التركي، فإن إقامة مناطق آمنة في سوريا، أحد أبرز المطالب التي طالما نادت بها أنقرة طيلة السنوات الماضية، لكن تغير خيوط اللعبة على أرض الميدان دفعها للتراجع عن هذا المطلب، ومن ثم فإن إعلان ترامب عن إقامة مثل هذه المناطق في الوقت الراهن يتماشى مع ما تريده إدارة أردوغان، وهو ما دفعها للتعليق على هذا القرار بأنها تنتظر نتائج هذا التعهد وآليات تنفيذه.
وبالرغم من حالة الجدل التي صاحبت تصريحات الرئيس الأمريكي الجديد بشأن المناطق الآمنة في سوريا، والتي تباينت مابين ترحيب خليجي، وترقب تركي، وقلق روسي إيراني، إلا أن التنفيذ وآلياته يبقى المحك الرئيسي لاختبار جدية هذا الجدل.. فهل يفي ترامب بتعهداته السابقة أم يضاف هذا الإعلان إلى سجلات تصريحاته “الطائشة”؟