في الوقت الذي كان فيه ترامب يركز جهوده على بناء قوة بحرية لمجابهة الصين، اغتنمت بكين فرصة إرساء علاقات عالمية مع مختلف الأطراف التي كانت تحتكر واشنطن التعامل معها.
يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تعزيز صفوف القوات البحرية الأمريكية، وهي خطوة يمكن أن تساعد الولايات المتحدة الأمريكية على التصدي للتوسع العدواني للصين في غرب المحيط الهادئ.
وتكمن المعضلة الكبرى في أن الخطوة التي أقدم عليها ترامب والأسطول الذي يعده لإنقاذ الولايات المتحدة من تهديد الصين الصاعدة الذي يحدق بها، قد أتت بعد فوات الأوان.
وصلت واشنطن إلى هذه المرحلة الحرجة بسبب مبادرات ترامب غير المدروسة، ومن بينها رفض تشكيل التحالفات الخارجية، ووضع الحواجز أمام التجارة العالمية، فضلاً عن الانسحاب من اتفاقية باريس، ومن الجهود المبذولة في سبيل مكافحة التغيرات المناخية، وبالتالي أدت هذه المبادرات إلى تغييب الولايات المتحدة وخلق نوع من الفراغ في الساحة العالمية، وهو ما تطمح الصين إلى ملئه.
بكين ستخطو بحزم نحو تسلم أدوار قيادية، بعد أن أخلت لها واشنطن المكان، بنسق أسرع من أن تتمكن الأخيرة مواكبته
وتبعًا لهذه المعطيات الدولية الجديدة، فإن بكين ستخطو بحزم نحو تسلم أدوار قيادية، بعد أن أخلت لها واشنطن المكان، بنسق أسرع من أن تتمكن البحرية الأمريكية من مواكبته، ما يحد من فرصها في عرقلة الصين، ومنعها من تحقيق الغاية التي تصبو إليها.
وبالعودة إلى مخطط عرقلة الصين، فيبدو أن استراتيجية ترامب الحمائية ضد الصين لا معنى لها، ليتبين في نهاية المطاف أن ترامب لا يريد تعزيز قوة البحرية لردع الصين، وإنما يريد إنشاء أسطول بحري أكبر، لنفس السبب الذي جعله يدخل الدبابات وقاذفات الصواريخ، لتكون جزءًا من عرضه الافتتاحي.
يعتبر الرئيس ترامب شخصًا شوفينيًا، يطمح إلى إرساء نظام مستبد، يستعرض من خلاله عضلاته العسكرية أو السياسية، لتعزيز شعوره بالقوة، مستهدفًا بذلك جمهوره من الغالبية العظمى من الأمريكيين، الذين صوتوا ضده وعارضوا سياساته بشدة، وليس القوى الأجنبية الصاعدة.
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن الصين تمتلك سوى أسطول بحري متواضع، يضطلع بمهمة حماية سواحلها من غزو قوات الاتحاد السوفيتي، ومع نمو الاقتصاد الصيني في تسعينيات القرن العشرين، بدأت تطلعات بكين الاستراتيجية بالتنامي أيضًا، وفي هذه الحال، كان الحزب الشيوعي الصيني في حاجة ماسة إلى سلاح البحرية، لحماية الدور الذي تلعبه الصين عالميًا.
بعد مرور عشرين سنة من الاستثمارات، تبدو البحرية الصينية أشبه بالبحرية الأمريكية في الكثير من الأبعاد، حيث تمتلك أكثر من 100 سفينة حربية متطورة، مزودة بصواريخ موجهة بعيدة المدى، فضلاً عن المئات من السفن الصغيرة، ناهيك عن الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وفي سنة 2012، تمكنت الصين من حيازة أول حاملة طائرات تابعة لها، أما في الوقت الراهن فإن حاملة الطائرات الثانية ما زالت قيد التشييد في شنغهاي.
شجع هذا الأسطول المتطور والحديث، الصين، في السنوات الأخيرة، على بسط نفوذها في بحر الصين الجنوبي بالقوة، حيث احتلت الشعاب المرجانية المنعزلة في المياه المتنازع عليها وحولتها إلى قواعد عسكرية وبؤر استيطانية مسلحة، تزخر بالبنادق وقاذفات الصواريخ، ومجهزة بمطارات ومرافق عسكرية ومواني مخصصة للسفن الحربية.
شهد أسطول الولايات المتحدة البحري تقلصًا، منذ وصوله إلى ذروته خلال الحرب الباردة، ويقدر عدد السفن الحربية في الخطوط الأمامية الدفاعية بنحو 280 سفينة في الوقت الحالي، علمًا أن هذه السفن لا تقوم سوى بعدد قليل من الدوريات التفقدية
وفي المقابل، شهد أسطول الولايات المتحدة البحري تقلصًا، منذ وصوله إلى ذروته خلال الحرب الباردة، ويقدر عدد السفن الحربية في الخطوط الأمامية الدفاعية بنحو 280 سفينة في الوقت الحالي، علمًا أن هذه السفن لا تقوم سوى بعدد قليل من الدوريات التفقدية، ففي سنة 1996، على سبيل المثال، أبحرت حاملتا طائرات، جنبًا إلى جنب، عبر مضيق تايوان، لاستفزاز بحرية بكين، أما في الوقت الحالي، فمن النادر جدًا رؤية الحاملات المتبقية الإحدى عشرة تجوب الأرجاء معًا في أي مكان من المياه الدولية.
وفي هذا الإطار، كانت إدارة جورج بوش أول من تطرقت إلى حاجة الولايات المتحدة الملحة لتعزيز أسطولها البحري لمواجهة الصين وحماية البلاد من التهديدات المحتملة الأخرى، وقد واصل الرئيس باراك أوباما على نفس المنوال، وركز على مخطط توسيع الأسطول البحري، لكن ذلك كان بوتيرة بطيئة، اقتصر معظمها على السفن الصغيرة، ويعزى هذا التراخي إلى الضوابط التي كانت تقيد الرئيس السابق أوباما، أولها الأزمة الاقتصادية العالمية، وثانيها قانون الرقابة على الميزانية لسنة 2011، الذي يفضي إلى التخفيض الشامل في كلفة الإنفاق الحكومي.
ووفقًا لهذه البيانات، تعهد ترامب بإلغاء قانون الرقابة المالي وتجهيز الأسطول البحري الأمريكي بنحو 350 سفينة، وهي خطوة أيدها راي مابوس الأمين العام للبحرية الأمريكية في إدارة الرئيس أوباما، ونظرًا لتمتع الحزب الجمهوري بالأغلبية في الكونغرس، فإن ترامب قد تمكن نظريًا من تحقيق كلا الهدفين.
على ضوء مخطط تعزيز الأسطول البحري الأمريكي، يجب الإشارة إلى أن هذه العملية لن تكون سهلة وغير مكلفة، إذ تقدر التكلفة الكاملة لسفينة حربية بنحو ملياري دولار، في المعدل المتوسط
وعلى ضوء مخطط تعزيز الأسطول البحري الأمريكي، يجب الإشارة إلى أن هذه العملية لن تكون سهلة وغير مكلفة، إذ تقدر التكلفة الكاملة لسفينة حربية بنحو ملياري دولار، في المعدل المتوسط، وبالتالي، فإن عملية تجهيز الأسطول البحري ستستغرق سنوات، وحتى لو منح ترامب والكونغرس البحرية جميع الأموال التي تستحقها لتحقيق هذه الغاية، ابتداءً من ميزانية سنة 2017، فإن الدفعة الأولى من السفن التي وعد بها ترامب لن تبدأ بالإبحار في صفوف الأسطول البحري إلا بحلول الانتخابات الرئاسية القادمة في سنة 2020.
بناءً على هذه الأسباب، يشكك العديد من المحللين السياسيين في الخارج في التصريحات الجريئة التي أدلى بها ترامب بخصوص هذا الشأن العسكري، وفي هذا السياق، قال الخبير العسكري المستقل إريك فيرتهايم، ومؤلف كتاب “الأساطيل القتالية في العالم” مصرحًا لـ”ديلي بيست”: “القضية الأكبر بالنسبة له، هي المدة التي ستستغرقها عملية تجهيز الأسطول البحري الأمريكي”.
وفي السياق نفسه، قال الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، في مؤتمر صحفي عقد في الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير: “كل من الصين واليابان وروسيا والمكسيك، وكل دول العالم، ستحترم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما كانت عليه في ظل الإدارة السابقة”، لكن في هذه الحالة، إذا كان ترامب يعول على بناء قوة عسكرية عظمى لفرض هذا الاحترام، فمن المرجح أن تخيب آماله.
وفي هذه الأثناء، يبدو أن ترامب قد فرّط في الساحة الاقتصادية والدبلوماسية والبيئية لبكين، ليفسح بذلك المجال للصين لتلعب دورًا محوريًا، سيتدعم بفضل أسطولها القوي.
ولعل خير مثال على ذلك، القرار الأول الذي صدر عن الرئيس الأمريكي الجديد، الذي انسحبت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، وهو الاتفاق التجاري الذي أبرمه أوباما، أملاً في الحصول على موافقة الاقتصادات الإقليمية على التعامل مع الولايات المتحدة، بدلاً من الصين، لإعادة التوازن الاقتصادي لآسيا والحد من تعاظم دور الصين.
وقع 11 بلدًا تلك الاتفاقية التجارية، لكن الاتفاقية ستفقد الكثير من قوتها في غياب المشاركة الأمريكية، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2016، حذر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الجمهوري جون ماكين، دونالد ترامب من التخلي عن هذه الصفقة التجارية، لأن ذلك سيساهم في إتاحة الفرصة للصين، لإعادة كتابة المعايير الاقتصادية على حساب العمال الأمريكيين.
الحد من استثمارات الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا النظيفة بما في ذلك الطاقة الشمسية والهوائية، هو بمثابة تقديم ما يقارب 1.35 تريليون دولار على طبق من ذهب للسوق الصينية
وعد ترامب بالانسحاب أيضًا من اتفاقية باريس المناخية، التي تعد بصمة لأوباما في الشأن البيئي، متسببًا بنفس التداعيات التي أسفر عنها قراره السابق، وبالتالي فإن الحد من استثمارات الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا النظيفة بما في ذلك الطاقة الشمسية والهوائية، هو بمثابة تقديم ما يقارب 1.35 تريليون دولار على طبق من ذهب للسوق الصينية
وفي المقابل، لا يبدو ترامب مهتمًا بالمنافسة في مجال التكنولوجيا النظيفة، وهذا سيعود بالفائدة على بكين، ووفقًا لما صدر عن مديرة مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية في آسيا باربرا فينامور: “لا شك أن الصين لا تزال رائدة في استهلاك الفحم، وفي مستوى انبعاثات الكربون على حد سواء، لكن هذا لا ينفي أنها أيضًا تقود العالم نحو مستقبل الطاقة النظيفة”.
وفي الختام، يبدو أن ترامب عازم على تقويض التحالفات العابرة للمحيط الهادئ التي أنشأتها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، ليفرط بذلك في أكبر خاصية تتميز بها البلاد لصالح الصين، فقد استطاعت واشنطن من خلال التخطيط العسكري في غرب المحيط الهادئ لفترة طويلة، من إنشاء تعاون وثيق مع بلدان كاليابان التي تمتلك ثالث أقوى بحرية في المنطقة بعد الولايات المتحدة والصين.
لكن على خلاف ما عملت عليه واشنطن لسنوات، بدأ ترامب بتنحية اليابان حتى قبل أن يتم انتخابه، ففي آذار/ مارس سنة 2016، قال إن اليابان يجب أن تعمل على تطوير أسلحة نووية، لتتمكن من الدفاع عن نفسها دون مساعدة أمريكية، وأضاف قائلاً: “الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فعل ذلك بعد الآن”.
وتجدر الإشارة إلى أنه من الواضح أن ترامب لا يعلم، أو بالأحرى لا يكترث لحقيقة أن كل من الشعب والحكومة اليابانية، أولى ضحايا الحرب النووية في العالم، يعارضون بشدة امتلاك السلاح النووي، وكردة فعل على تعليق ترامب، سارع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، إلى طمأنة بلاده، كما حذر قائلاً: “أيا كان الرئيس القادم للولايات المتحدة، فإن التحالف بين اليابان والولايات المتحدة سيظل حجر الزاوية في الدبلوماسية اليابانية”.
ومن وجهة نظر الخبراء في الصين، فإن التزام الصين بمواصلة التجارة الحرة، سيكون كتعويض لها عن التكاليف العسكرية التي تكبدتها البلاد، ولعل ذلك ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال قمة اقتصادية في دافوس في سويسرا، في تصريحه أن مواصلة توخي الصين لسياسة حمائية اقتصادية، سيكون كالانعزال داخل غرفة مظلمة.
إذن، الإشكالية المطروحة في خضم هذه الأوضاع، تتمحور أساسًا حول إمكانية نسج البلدان الآسيوية على منوال الصين، في مجال التجارة والبيئة، الذي سيقدم لبكين الثقل الدبلوماسي الكافي لترسيخ وإضفاء الشرعية على المكاسب العسكرية الأخيرة للصين، وبالتالي، عندما يضع ترامب أسطوله البحري بين سنة 2019 أو 2020، سيكون الأوان عندها قد فات، لتغيير الحالة التي آلت إليها مكانة الولايات المتحدة في منطقة غرب المحيط الهادئ.
المصدر: ديلي بيست