“تتطلب منا الأوضاع السياسية الراهنة، أن نحسم خيارنا التاريخي فيما يخص إعادة توحيد أراضينا مع روسيا الشقيقة من أجل ضمان أمن وازدهار جمهوريتنا لقرون عديدة”، بهذه الكلمات دعا رئيس جمهورية أوسيتيا الجنوبية ليونيد تيبيلوف، شعب بلاده للاتفاق على الخلاص من المحاولات الجورجية لإعادة احتلال بلاده التي استقلت عنها بعد حروب أهلية ومحاولات شد وجذب بدأت منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وهي جملة تعيد إلى الأذهان الدعوات التي بدأ تسريبها الآن على نطاق كبير لانضمام سوريا إلى روسيا، لضمان بقاء الأسد في السلطة، مع فارق بسيط أن تلك التحركات في حالة إتمامها لن تتم باستفتاء شعبي كون سوريا أصبحت الآن بلا شعب، وأيضًا ليست دولة!
خريطة جورجيا وتتضمن إقليمي أبخازيا وجنوب أوسيتيا الانفصاليتين
أولى جولات الصدام
بالعودة للحالة الأبخازية والأوسيتيا، نجدها بدأت مع بداية اتجاه، والتي صاحبها تنامى الشعور لدى الأبخاز بخطر فقدان الهوية والذوبان في الجمهورية المستقلة، لتبدأ أولى جولات الصدام والعنف بين الجانبين يوم 16 من يوليو 1989 في سوخومي قتل في أثنائها 16 جورجيًا، حيث اعتبر كثير من الأبخازيين تفتت الاتحاد السوفيتي فرصة ليُبطلوا صلتهم بقرار الضم الذي كانت قد اتخذته جمهورية جورجيا السوفيتية عام 1931 بحق أبخازيا.
الأزمة الجغرافية لأوسيتيا وأبخازيا
صدامات عرقية
وأخذ التوتر يتصاعد بين الانفصاليين والقوميين الجورجيين فقُتِلَ في يوليو من عام 1989 20 شخصًا خلال الصدامات العرقية الداخلية في عاصمة أبخازيا سوخومي، وفي 28 من أكتوبر 1989 أصبح زفياد غامساخوريا رئيسًا لجورجيا، وفي 9 من مارس 1990 أُعلن استقلالها، وفي أغسطس 1990 أعلن مجلس السوفييت الأعلى في جمهورية أبخازيا بغياب أعضائها الجورجيين، أنها ذات سيادة.
وتتصرف منذ تلك اللحظة على أنها بلد مستقل، وفي الوقت الذي رفضت جورجيا التصويت سنة 1991 لصالح البقاء ضمن الاتحاد السوفياتي، صوت الأبخاز بنسبة عالية لفائدة البقاء ضمن الاتحاد، حتى أعلنت أبخازيا استقلالها عن جورجيا يوم 23 من يوليو 1992، وقامت على إثرها جورجيا بإرسال قواتها إلى المنطقة لحفظ النظام، حيث دخلت القوات الجورجية إلى إقليم أبخازيا وشهدت المنطقة نزوح الآلاف من الأبخاز والروس والأرمن واليونانيين.
عام 2008 بدأ رسميًا بهجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا، وبعدها قامت القوات الروسية بهجوم مضاد سريع على جورجيا.
واقعة مشابهة
خلاصة الحالة التاريخية أنه في أعقاب الحرب الدموية التي عاشتها جورجيا في السنوات الأولى بعد استقلالها، انشقت أوسيتيا الجنوبية وجمهورية أبخازيا عن جورجيا، لكن موسكو لم تعترف باستقلالهما إلا في عام 2008، بعد أن خرقت تبيليسي اتفاق عدم الاعتداء وهاجمت تسخينفال عاصمة أوسيتيا الجنوبية في أغسطس عام 2008، مما دفع الجانب الروسي إلى التدخل عسكريًا وتحرير أراضي أوسيتيا الجنوبية، ومن ثم إلى الاعتراف باستقلال الجمهوريتين لضمان أمنهما، والحيلولة دون هجمات جورجية جديدة، هل تذكرنا تلك الأحداث بوقائع شرق أوسطية قائمة الآن؟!
بوتين يأمل في تكرار الحالة الأبخازية في سوريا
كونفيدرالية بين روسيا وسوريا
مؤخرًا، سادت بعض التسريبات عن اقتراح – لم تحدد هوية مقدميه – للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإنشاء اتحاد كونفيدرالي مع سوريا كحل للمشكلة الدموية بالبلاد.
الغريب في الأمر أن أول من تصدى لنشر هذه التسريبات كانت صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” القريبة من الكرملين الروسي، لافتة إلى أن مجموعة من المحللين السياسيين اقترحوا على بوتين إنشاء كونفيدرالية بين روسيا وسوريا، مشيرة إلى أنه “في حال احتلال سوريا من قبل الإرهابيين، الذين يتخفون تحت عباءة المعارضة المعتدلة، فإنه سينفتح أمام الولايات المتحدة وحلفائها طريق جيوسياسيًا مباشرًا نحو إيران، وبعد ذلك، نحو السيادة الروسية عبر بحر قزوين، وفي مثل هذا التطور للأحداث، فإن أعداء روسيا سيتمكنون من إحكام طوق الاحتلال حول دولتنا، حيث تحدنا من الشمال دول بحر البلطيق، ومن الغرب أوكرانيا، ومن الشرق اليابان، ومن الجنوب جورجيا ودول الشرق الأوسط”.
الاقتراح المعلن – كما ذكرت الصحيفة – يعني توحيد البلدين في إطار العمل العسكري، والسياسة الخارجية في إطار عمل مركز تنسيقي واحد، وفي حال إقامة هذا الاتحاد، فإن أي اجتياح للأرض السورية يعدُّ كإعلان حرب ضد الاتحاد الروسي، مما يقوض أي محاولات مستقبلية إقليمية أو دولية للتدخل بسوريا لوضع حل للأزمة المستمرة منذ ست سنوات، بين قوات النظام والمعارضة، حتى إن مسودة الدستور السوري الجديد التي وضعتها روسيا تقضي بإلغاء كلمة العربية من اسم الدولة، ولفظ الجلالة عند القسم، كما تجيز الاستفتاء على تغيير الحدود.
أولى الهجمات الجوية الروسية بسوريا
من المستفيد؟
الصحيفة لم تتوقف عند هذا الحد بل ألمحت إلى أن هناك خطوة مشابهة أقدمت عليها الحكومة الروسية في عام 2008 مع جمهورية أبخازيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية، وتعتمد على التنسيق في مجال السياسة الخارجية، وتشكيل قوة دفاعية أمنية بما يضمن حماية الحدود الحكومية
السؤال هنا هل يمكن بالفعل قيام هذا التحالف وهل سيمثل إنقاذًا لرأس الأسد من المقصلة؟ الإجابة تأتي فيما حدث وليس ما سيحدث، حيث كان التدخل الروسي في سوريا عبر سلاح الجو في نهاية 2015 بعد أن طلب بشار الأسد دعمًا عسكريًا من موسكو من أجل كبح الثورة السورية، وجاءت هذه الضربات بعد تزايد الدعم العسكري المعلن لنظام الأسد من قبل موسكو.
والإعلان عن تشكيل مركز معلوماتي في بغداد تشارك فيه روسيا وإيران والعراق وسوريا بدعوى محاربة داعش، وهي الضربات التي ساهمت إلى حد كبير في إعادة الحياة لنظام الأسد المنهار وقتها، حيث تركزت معظمها على أماكن المعارضة المسلحة وليس داعش، وأوقفت انهياره الذي كان محتمًا وقتها، وهو ما لم يستطع إنجازه التدخل الإيراني سواء المباشر أو من خلال حزب الله اللبناني، وبعد التدخل الروسي استعاد النظام كامل اللاذقية، ورُبطت بحلب واستعاد أجزاء من حمص وحماة ثم حلب، واستعاد السيطرة على قاعدة كويرس العسكرية ومدينة تدمر قبل أن يفقدها من جديد لصالح داعش.
مكاسب روسية
إذا كانت هذه هي مكاسب الأسد ونظامه بسوريا، فماذا كانت المكاسب الروسية؟
الواقع يؤكد أن الذي حققه بوتين نتيجة تدخله في سوريا، هو تعزيز المكانة الدولية لروسيا في النظام الدولي وعلاقتها بالأطراف الفاعلة فيه مثل الولايات المتحدة وأوروبا بالتحديد، وأثبت بوتين أنه الوحيد القادر على إعادة الحياة للنظام من خلال تدخله العسكري، وأثبت أيضًا لنظرائه أركان النظام الدولي، أنه العنوان الصحيح والوحيد لعلاج أزمات استعصى حلها على رؤساء أوروبا.
عبر الحالة السورية – تمكن بوتين – من تحويل نظر أوروبا وأمريكا عن الأزمة الأوكرانية وجزيرة القرم
وبذلك – وعبر الحالة السورية – تمكن بوتين من تحويل نظر أوروبا وأمريكا عن الأزمة الأوكرانية وجزيرة القرم، حتى إنه عندما سئل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما عن أزمة القرم أجاب بأن “أوكرانيا ستبقى دومًا عرضة للهيمنة العسكرية من قبل روسيا مهما فعلنا”، كما استفادت موسكو أيضًا من الحالة السورية بتعزيز إطلالتها الاستراتيجية على البحر المتوسط، من خلال قواعدها العسكرية ونشر صواريخ متطورة مثل نظام S-400، لمناطحة حلف الناتو بالمنطقة.
جس للنبض
هكذا إذا استفادت روسيا من تدخلها بسوريا، وتخطط أكثر للاستفادة عبر فكرة الاتحاد الكونفيدرالي معها، كورقة ضغط تستخدمها موسكو في التأثير على أوراق أخرى عالقة بينها وبين الغرب، مثل أوكرانيا وجورجيا، وأنظمة الدفاع الصاروخي وغيرها، مما يعني أن تسريبات الصحيفة الروسية مجرد جس للنبض الدولي والإقليمي قبل اتخاذ الخطوة رسميًا، وهي الخطوة التي بدأتها بمسودة الدستور السوري الجديد.
فهل سيكون لأمريكا ترامب القريبة من بوتين وجهة نظر مخالفة؟ وهل ستتحرك الدول الإقليمية خصوصًا دول الخليج لدعم تركيا التي تقف وحيدة بين استفراد روسيا وإيران بالحالة السورية؟ مع الوضع في الاعتبار العداء المذهبي بين أنقرة وطهران، بالإضافة لأن بوتين لم يغلق ملف إسقاط الطائرة الروسية مع تركيا، وما زال يخوض حربًا باردة معها، أحد أوراقها تعزيز القوة الكردية وبالتحديد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي ينظر إليه كفرع لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية، ويهدد دومًا بالانفصال.