ما الذي يخيف الإنسان أكثر من رؤيته كل ما كان يتخوف من حدوثه في المستقبل، يتحول إلى واقع أمام عينيه، بل وبشكل أسوأ مما كان يتخيله قليلًا؟ هكذا سحر مسلسل “المرآة السوداء” أو “بلاك ميرور” أعين مشاهديه جميعًا، فهو لا يتحدث عن مستقبل بعيد ولا عن مستقبل البشر في الفضاء بعد قرون من الآن، بل يروي قصة مستقبل البشر بعد بضع سنوات من الآن، بل ربما يكون أقرب من ذلك أيضًا.
يأتي مسلسل “بلاك ميرور” بحلقاته المختلفة، مع طاقم للعمل متنوع، يختلف من حلقة إلى الأخرى، فلكل حلقة طابعها الفريد من نوعه، ومخرجها الخاص وطريقة تصويرها التي تختلف عن الحلقة التي تسبقها، ففي واحدة من الحلقات يستطيع المرء مشاهدة ذكريات زوجته على شاشة التلفاز ويكتشف من ذلك أنها خانته في الماضي، وفي حلقة أخرى تستطيع شخصية كرتونية الاستهزاء بصانعي القرار من الساسة ومرشحي الانتخابات، بل تستطيع تغيير الرأي العام حتى بدأوا في التصويت للشخصية الكرتونية نفسها! أو بتحويل الحياة بعد الموت إلى اختيار للمرء قبل أن يتوفى! وتتوالى الحلقات لتصدم الجمهور أكثر فأكثر بأن المستقبل يبدو حديث التكنولوجيا، شديد السواد بالنسبة للعلاقات الاجتماعية.
بطل إحدى الحلقات وهو يشاهد ذكرياته بالاستعانة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
هل تخيّلت أن من الممكن أن يكون عداد زر الإعجاب “اللايك” على فيس بوك، ورمز الإعجاب أو الريتويت على تويتر سيحدد مرتبتك في المجتمع، بل وسيحدد كيفية شرائك للمنتجات فيما بعد، ويحرمك من دخول بعض الأماكن ويرحب بك في بعضها؟ ربما ستقول إن هذا من الهراء، ولكن هل سألت نفسك بأن هذا ما يحدث بالفعل على مواقع التواصل الاجتماعي الآن، ويؤثر على حياتنا الواقعية بالفعل، فعدد المتابعين لك على فيس بوك أو تويتر هو ما يحدد أهميتك على تلك المواقع، وكلما زاد العدد وكانت وظيفتك في مكان معروف عالميًا تؤيد ذلك، كنت من مستخدمي الموقع الموثوقين بهم، ليصحب اسمك على الموقع تلك العلامة الزرقاء، والتي تعني المصداقية وأن ذلك هو الحساب الرسمي لك وإن تعددت النسخ.
كانت تلك بالضبط صدمة الحلقة الأولى من الموسم الثالث لمسلسل “بلاك ميرور” بعد أن اشترته شركة “نيتفليكس” ليتحول من مسلسل بريطاني إلى مسلسل من إنتاج شركة “نيتفليكس” نفسها، ليعود المسلسل بقوة مع تلك الحلقة بتسليطه الضوء على أهم المؤثرات التي تتأثر بها شرائح كثيرة من مختلف المجتمعات الآن، ألا وهي مواقع التواصل الاجتماعي.
“لايسي” بطلة حلقة “Nosdive” من الموسم الثالث للمسلسل
لن تجد وجهًا أكثر بشاشة من وجه “لايسي” بطلة تلك الحلقة، فهي متحمسة وشديدة التفاؤل، تتمرن على الضحك بطريقة جذابة أمام المرآه قبل أن تذهب لعملها يوميًا، تتحدث بلطافة وتبتسم للجميع قبل أن يبتسموا لها، لا أجمل من هذا أليس كذلك؟ يبدو أن العالم سيكون مكانًا ألطف في المستقبل، وأخيرًا سنرى أناسًا ودودين، إلا أن كل تلك الأحلام الوردية تنتهي، بمجرد رفع “لايسي” هاتفها أمام وجه من تبتسم له، وتقيمه على شاشة هاتفها بأنه يستحق خمسة نجوم لحسن تعامله ولطافته معها، ليمنحها الرجل على الوجه الآخر تقييم من خمسة نجوم أيضًا، ويرتفع رصيد كليهما على حساباتهما الشخصية، ويكون ذلك تقييمًا لكليها كفرد في هذا المجتمع.
مشهد من حلقة “nosedive” من الموسم الثالث من “بلاك ميرور”
البقاء للأقوى أو للأعلى تقييمًا
كما هو الحال في واقعنا الآن، يفوز الأكثر نفوذًا، والأكثر مالًا وسلطة بما نسميه رفاهيات الحياة، ومستويات المعيشة المرتفعة، أما في حالة “بلاك ميرور”، فيحصل صاحب التقييم الأعلى على مزايا أكثر، حيث تخصص له أماكن للمعيشة أفضل، ووظائف معينة، كما تخصص له مقاعد معينة على الطائرة في حالة سفره، وإن قرر استئجار سيارة، فكل ما سيفعله الموظف أن يقوم بفحص هاتفه على جهاز معين يعرف منه تقييم الشخص، وعلى أساس تقييمه يتم التعامل معه، فيكون صاحب تقييم 4 نجوم فيما فوق هو الأفضل مجتمعيًا، وصاحب الثلاثة نجوم فيما أقل، هم أقل مرتبة، بل ويوصفون بالانطوائيين وأحيانًا الغريبين.
تفقد “لايسي” صوابها، فهي تحاول التمحك في صديقة لها لا تحبها ولا تثق بها من أجل حضور زفافها، فكونها شخصية ذات تقييم 4.8 نجوم يعني أن كل الحضور من أصحاب التقييمات العالية، وعلى أساسه سيرتفع تقييم “لايسي” بالتبعية إن كانت لطيفة التعامل معهم واستطاعت النفاق لبضعة ساعات، ذلك حتى تحصل على المنزل الذي طالما حلمت به، والذي يتطلب منها الحصول على تقييم مرتفع، إلا أنه في النهاية تعاني “لايسي” من صعوبات ومشاكل في رحلتها للزفاف جعلها تفقد صوابها وتصيح بالمسبات، وتعبر عن غضبها بصراحة من غير نفاق، ليمنحها جميع من حولها تقييمات سالبة، أودت إلى سحب كل النجوم التي حصلت عليها، ليكون مكانها السجن في النهاية.
إعلان الموسم الثالث من المسلسل
تشرح تلك الحلقة بالتحديد ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي في حياتنا، وكيف يمكنه أن يجعلها أكثر سهولة وأكثر تكنولوجية، إلا أنه من الممكن أن يحولنا إلى نسخ متشابهة، وتجعل من الحياة الافتراضية واقعًا مفروضًا على الجميع، وليست هناك خيارات ليسير المرء عكس التيار أو يكون التيار نفسه، فربما لن يكون هناك تيار وتيار معاكس بعد الآن، أو بعدما يسيطر الذكاء الاصطناعي على أغلب مجالات حياتنا.
للتكنولوجيا مشاعر أيضًا
بعيدًا عن مخاوف الأسلحة النووية وتعارض السفر عبر الزمن بمركبات الفضاء وهبوطها على كواكب أخرى يختلف التوقيت فيها عما هو على الأرض، لا يبدو أن كل ما سبق يثير قلق فريق العمل الخاص بمسلسل “بلاك ميرور” على الإطلاق، بل تكمن المسألة في النتائج التي ستراها البشرية بعد أن يتم تفريغ مهارات العقل البشري في الأجهزة، فيكون الذكاء الاصطناعي بعدها منافسًا قويًا للإنسان.
why does trumps presidency seem like a black mirror episode
— trinity? (@_trinitycromer) January 29, 2017
لماذا يبدو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكأنه حلقة من حلقات مسلسل “المرآه السوداء”
This isn't an episode. This isn't marketing. This is reality.
— Black Mirror (@blackmirror) November 9, 2016
تغريدة فريق العمل نفسه عن المسلسل “هذا المسلسل ليس بدعاية، ولا مجرد حلقات، بل هو الحقيقة”
It wasn't really real, so it wasn't really barbaric. pic.twitter.com/O7Sm2wR3iQ
— Black Mirror (@blackmirror) October 19, 2016
إعلان حلقة العقاب عن طريق الذكاء الاصطناعي على الصفحة الرسمية للمسلسل على تويتر
ما يرتكز عليه المسلسل هو تحويل الصورة النمطية عن التكنولوجيا في كونها مجرد شيء روبوتي روتيني بارد المشاعر، إلى امتداد لأرواحنا وأجسادنا، كونها شيء ملازم لنا في حياتنا اليومية، بالضبط كما فعلنا نحن تجاه هواتفنا الذكية، ليقوم بالتركيز على الأفكار الثقافية التكنولوجية “techno-cultural themes”، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تغيّر أنماط الحياة بحق، فهل ما زلت تعتقد أن المستقبل أكثر إشراقًا؟