لا تزال العقلية الاستعمارية لفرنسا معششة في أذهان مسؤوليها وزراء كانوا أم برلمانيين، فالجماعة لم يدخروا جهدا في التدخل فيما لا يعنيهم حتى وإن كنا نعلم تمام العلم أن الأمر يهمهم أكثر مما يهمنا.
في شطحة جديدة للبرلمان الفرنسي، تضمن تقرير عرض في اجتماع لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان “معلومات حساسة” حول الحالة الصحية لحكام دول المغرب العربي، كما عبر التقرير عن حالة قلق جدية بهذا الشأن يمكن أن تعيق التعاون فيما بينهم.
التقرير الذي أنجزه النائب عن الحزب الاشتراكي “جان جلافاني” والنائب عن الحركة من أجل الجمهورية “غيي تسيي”، أكد أن الوضع في الدول المغاربية، وخاصة المغرب وتونس والجزائر “هش إذ تعيش حالة من عدم الاستقرار، لأن الحالة الصحية لحكامها مقلقة”.
وقال التقرير إن “الوضع الصحي للزعماء الثلاثة مقلق، فقائد السبسي يبلغ من العمر 89 سنة وسيصل إلى 90 سنة في ظرف شهور، وبدوره يعاني الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من مرض معروف “الجلطة الدماغية” التي أقعدته، وفي المغرب، هناك شاب نسبيا، ولكن هذا الملك مصاب بمرض يتفاقم ببطئ ويعالج بمهدئات، وهو بدوره يمثّل بعد السبسي وبوتفليقة سلطة متجسدة في الحكم الفردي، وكل هذا يطرح علامات استفهام حول المستقبل”.
الملفت للإنتباه في هذا التقرير الذي عرض في البرلمان الفرنسي، ونقلته قناة البرلمان (إل بي سي)، أنه استغرق منهما ستة أشهر لإنجازه، سافر خلالها النائبان إلى المغرب والجزائر وتونس، وهو ما يؤكد الخطورة التي تشعر بها فرنسا إذا ما خسرت أحد رجالها الأوفياء في هذه الدول الثلاث.
يعلم المتابعون للشأن المغاربي أن دول المغرب العربي بدون استثناء تخضع منذ سنوات الإستقلال إلى النفوذ الفرنسي باستثناء ليبيا التي تتقاسمها مع إيطاليا، فالثقافة واللغة الفرنسية هي المهيمنة في هذه البلدان، كما أن السفراء الفرنسيين يوصفون بـ”المقيمين العامين” الذين كانوا يحكمون البلدان المغاربية إبان فترة الإستعمار.
على سبيل المثال، ما انفك سفراء فرنسا المتعاقبون في تونس عن التدخل في الشأن الداخلي إضافة إلى تصريحاتهم المستفزة والتي لم تلق أي رادع من أعلى هرم السلطة، ففي شهر سبتمبر الماضي، أثارت تصريحات السفير الفرنسي الجديد لدى تونس “أوليفيي بوافر دارفور” قبل تسلم مهامه بشكل رسمي، موجة من الجدل، بعد أن اعتبر الأخير أن تونس قد باتت بلدا منتجا للإرهابيين.
“السبسي مع الرئيس الفرنسي”
السفير الفرنسي لم يتوقف عند هذا الحد، حيث أضاف مؤكدا في تصريحه لإذاعة “آر تي أل” الفرنسيّة أن من أوكد مهامه كسفير لفرنسا في تونس توفير الحماية للفرنسيين المتواجدين بالبلاد و الذين يبلغ عددهم نحو 30 ألفا، في تحدّ صارخ لأجهزة الدولة التي يفهم من خلال تصريحه أنها عاجزة عن توفير الأمان للأجانب المقيمين على التراب التونسي، قبل أن يعود من جديد للتدخل في شأن التونسيين لكن هذه المرة عبر تنقلات ولقاءات تثير عديد نقاط الإستفهام حتى لا نقول مشبوهة.
مؤخرا، تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، صورا وفيديوهات لـ”بوافر دارفور” “وهو يصول ويجول في الولايات التونسية، فتارة يكرّم مدير مهرجان قرطاج وتارة يشارك في استقبال جثامين التونسيين ضحايا هجوم اسطنبول، ومن ثم يقوم بزيارة أحد عناصر الأمن للاطمئنان على صحته، ولاحقاً يتجول بمفرده في أحد الأسواق الشعبية، ويقوم لاحقاً بتحقيق أمنية شاب هدد بالانتحار إذا لم يشاهد عرضا لإحدى الفرق الموسيقية الفرنسية”.
“مانوال فالس” الوزير الأول الفرنسي السابق والمرشح للرئاسة الفرنسية هو الآخر، كان قد غالط الفرنسيين قبل أسابيع بذكر معلومات خاطئة عن نمط عيش التونسيين، حيث زعم في لقاء تلفزي أجرته معه القناة الفرنسية الثانية أن تونس شبيهة بإيران في فرضها الحجاب على النساء اللاتي يناضلن من أجل نزع الحجاب الذي فرضته عليهم الدولة، في مغالطة صريحة لصحيح المنقول والمعقول، خاصة وأن “فالس” كان قد زار تونس للمشاركة في مؤتمر الإستثمار قبل تصريحه بشهر.
التدخل الفرنسي السافر في شؤون الدول المغاربية وعلى رأسها تونس أصبح مثيرا للشك والريبة خاصة إذا ما أضفنا له حج عدد من السياسيين والإعلاميين والمثقفين إلى بيت السفير والسفارة الفرنسية لتقديم صكوك الغفران لفرنسا التي لم يتوقف إعلامها عن مهاجمة تونس واتهامها بتهم جاهزة للتنفير عن زيارتها، خاصة خلال الأشهر الأخيرة التي أعقبت هجومي نيس وبرلين الذين نفذهما تونسيان.
يعلم الجميع أن الرئيس الباجي قائد السبسي هو رجل فرنسا الأول في تونس، وما قلقها على صحته إلا خوف من انتهاء الهيمنة والنفوذ الفرنسي المتواصل منذ أكثر من 130 عاما
يعلم الجميع أن الرئيس الباجي قائد السبسي هو رجل فرنسا الأول في تونس، وما قلقها على صحته إلا خوف من انتهاء الهيمنة والنفوذ الفرنسي المتواصل منذ أكثر من 130 عاما، فالقادة السياسيين الموجودين حاليا لا يمكن أن يكونوا بمستوى قائد السبسي الداهية السياسية، كما أن تفتت الحزب الحاكم وانقسامه نتيجة صراعات الجهويات والأقطاب والنفوذ، قد زاد من مخاوف الفرنسيين الذين لم يرتاحوا بعد لحركة النهضة رغم تقديمها لصكوك الغفران للمجتمع الدولي خلال السنوات الأخيرة، لهذا يمكننا أن نفهم صمت الجهات الرسمية عن التحركات الأخيرة للسفير الفرنسي داخل البلاد وعن وسائل الإعلام التي تهاجم تونس دوريا.
مسؤولو فرنسا مطالبون بالتحرك بروية لا بعقلية استعمارية في التعامل مع الدولة التونسية خاصة وأن رائحة التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد أصبحت تؤرق التونسيين الذين ثاروا على الظلم والدكتاتورية التي عززتها السلطات الفرنسية طيلة عقود من الزمان عبر دعمها لنظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.