تأسست الإمبراطورية الاستعمارية الألمانية في عهد المستشار أوتو فون بيسمارك، واحتلت بين سنوات 1884 و1915 مجموعة من الأراضي المتفرقة التي تسمى حاليًّا بأسماء عدة دول منها تنزانيا والكاميرون وناميبيا وتوغو.
رغم خروج ألمانيا من هذه المستعمرات في الحرب العالمية الأولى وفق “معاهدة فرساي” وحلول قوى استعمارية أخرى مكانها، خاصة فرنسا وبريطانيا، فإن آثار استعمارها لتلك المناطق ما زالت ملموسة إلى الآن، من خلال التجول في المتاحف الألمانية التي تضم التراث الإفريقي المنهوب والشوارع التي تحمل أسماء سياسيين وعسكريين ألمان تلوثت أيديهم بدماء الأفارقة.
رغم ذلك، تنكرت الحكومات الألمانية المتعاقبة على حكم البلاد لهذا الماضي الاستعماري ورفضت مواجهته حتى عام 2018 حين اتفقت أحزاب الائتلاف الحاكم، في عقد تشكيل الحكومة حينها، على ضرورة معالجة الماضي الاستعماري للبلاد.
تقول الحكومة الألمانية إنها بدأت بالفعل مجموعة من الإجراءات لمعالجة ماضيها الاستعماري وتضميد جراح ضحاياه، وركزت على ما أسمّته “جبر الضرر” أي تقديم بعض الأموال لفائدة الدول المعنية مقابل إغلاق ملف هذه الجرائم.
لكن لسائل أن يسأل: هل يمكن لبعض الملايين من الدولارات أن تضمد جراح الأفارقة الذين قُتل ذووهم في العقود الثلاث التي احتلت فيها ألمانيا أرضهم، وسُرقت آثارهم ونُهبت ممتلكاتهم وسُبيت نسائهم ورمّلت ويُتّمت أطفالهم؟
تجاهل الحقيقة
خسرت ألمانيا الحرب سنة 1919، واضطرت إلى توقيع نصّ “معاهدة فرساي” في 29 يونيو/حزيران من العام نفسه بضغط من قوى الحلفاء، وتضمنت المعاهدة العديد من القرارات التي تخص إعادة تقسيم المستعمرات الألمانية بين الدول المنتصرة، فضلًا عن قائمة من المطالبات والعقوبات.
تضمنت العقوبات تعويضات مادية بلغت 269 مليار مارك ذهبي ألماني، أي ما يعادل 100 ألف طن من الذهب، لكن تم استثناء الدول الإفريقية التي استعمرتها ألمانيا من هذه التعويضات، بل إن القوى الغربية المنتصرة سارعت إلى بسط سيطرتها على المستعمرات الألمانية السابقة.
تكرر نفس الأمر في منتصف أربعينيات القرن الماضي، فتم فرض العديد من العقوبات على ألمانيا النازية عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، بناءً على نتائج مؤتمر “بوتسدام” سنة 1945، واتفاقية باريس للسلام سنة 1947.
ألزمت ألمانيا بدفع تعويضات للدول التي تضررت من الحرب، ومنها اليونان وبولندا وهولندا ويوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي، فضلًا عن يهود العالم أجمع، وتكرر استثناء الأفارقة من هذه التعويضات أيضًا رغم أن جزءًا كبيرًا من هذه الحرب جرت فوق أراضيهم والعديد من الجنود الأفارقة قُتلوا خلالها.
مارست ألمانيا أبشع أنواع الجرائم بحق الأفارقة طيلة فترة استعمارها لأراضيهم التي استمرت لـ 3 عقود
قدمت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تعويضات للدول التي غزتها باستثناء الدول الإفريقية، وكان هناك تفاوت لافت في هذه التعويضات، وحصّل اليهود ومن ثمّ الكيان الإسرائيلي على النسبة الكبرى منها، ما مكنه من فرض سياسة الأمر الواقع وافتكاك فلسطين من أصحابها.
عوض الاعتذار والتعويض، عانى الأفارقة المقيمون في ألمانيا، رغم أن لهم تاريخًا طويلًا على الأراضي الألمانية، إذ منعوا من الوصول إلى التعليم العام والجامعي وفقدوا وظائفهم ما لم يعملوا في مجال الترفيه أو الأشغال الشاقة.
فضلًا عن ذلك، صورت الدعاية العنصرية التي تم توزيعها في جميع أنحاء ألمانيا الجنود الأفارقة على أنهم مغتصبون موبوؤن بالأمراض ويمثلون خطرًا على النساء الألمانيات، وكان الرأي الشائع بين حكام ألمانيا أن الأفارقة جاؤوا إلى هناك لتدمير العرق الألماني الأبيض، فعقموا مئات الأطفال قسريًا، كما قتلوا العديد من الأفارقة ونقل بعضهم لمعسكرات الاعتقال.
ضغوط من أجل التعويض
ألزمت القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والثانية، ألمانيا بتعويض الكيان الإسرائيلي عن الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود، إلا أنهم تجاهلوا الجرائم المرتكبة بحقّ الأفارقة طيلة 3 عقود من الاستعمار الألماني.
يذكر أن ألمانيا مارست أبشع أنواع الجرائم بحق الأفارقة طيلة فترة استعمارها لأراضيهم، وعرفت ناميبيا أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وكانت على يد الألمان، كما تمت إبادة العديد من الشعوب وأحرقت الأراضي الزراعية لحرمان الأهالي من الغذاء.
هذه الواقعة دفعت العديد من الحكومات الإفريقية والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية إلى الضغط على الحكومات الألمانية، بهدف الحصول أولًا على اعتذار رسمي عن الجرائم الكثيرة المرتكبة في القارة السمراء، ومن ثم تعويض الضحايا.
جاء هذا الضغط بعد تردَّد حكومات المستعمرات السابقة في الدفع بالقضية إلى الواجهة في البداية، إذ كان الكثير من القادة يحتفظون بعلاقات سياسية كبيرة، وإلى حدٍ ما تبعية اقتصادية مع مُستعمِرِيهم السابقين.
تعتبر الحكومة الألمانية أن استخدام مصطلح” الإبادة الجماعية “لا يستلزم أي التزام قانوني بالتعويضات
شهدت سنة 2001، حدثًا فارقًا في مسألة التعويضات الاستعمارية، إذ نظمت الأمم المتحدة مؤتمرًا لمواجهة العنصرية، عُقِدَ في جنوب إفريقيا، وكانت تلك أول مرة تُنظَّم فيها الحكومات على هذا النطاق الواسع لمواجهة الإرث الاستعماري، ما أكسب القضية ثقلًا دبلوماسيًا.
شجّع هذا المؤتمر، النشطاء المدافعين عن هذه القضية لرفع مطالبهم، وحتى الحكومات نهجت نفس الطريق، وبدأنا نسمع عن قضايا أمام المحاكم تخص هذه المسألة، كما ركزت العديد من الحكومات خلال مباحثاتها الدبلوماسية على هذا الأمر.
فضلًا عن ذلك، دفع النشطاء داخل المستعمرات السابقة القضية إلى واجهة الوسائل الإعلامية، لإنارة الرأي العام وتعريف الجميع بالجرائم التي لحقتهم نتيجة الاستعمار الغربي ومن ذلك الاستعمار الألماني والضغط على الحكومة في برلين لتسوية هذا الملف.
وطالب العديد من الأفارقة، ألمانيا التي بنت جزءًا كبيرًا من ثروتها المالية وتقدمها الحضاري من امتصاص ثرواتهم، بتعويضهم عما حصل لهم نتيجة الاستعمار، فهذا الأخير استنزف اقتصادات المجتمعات المُستعمَرة لأجيال قادمة.
تمجيد الحقبة الاستعمارية
رغم أن ألمانيا كان لها ماض مدمر للغاية تجاه سكان إفريقيا مثل العديد من الدول الاستعمارية الأخرى، فإنها لم تفعل شيئًا يذكر للتعويض عن خطاياها، فلا يزال تمجيد الماضي الاستعماري لألمانيا في العديد من الأماكن، ومن ذلك “الحي الإفريقي” في برلين، إذ سميت العديد من لافتات الشوارع على اسم مستعمرين معروفين ومستعمرات ألمانية سابقة، رغم المعارضة الشديدة من المجتمع الألماني الإفريقي، الذين يعتقدون أن هذا الأمر يمجد الاستعمار والمعاناة.
“الحي الإفريقي” في برلين ليس إلا جزءًا بسيطًا من عملية تمجيد ممنهجة للماضي الاستعماري الألماني، فالعديد من الشوارع والساحات في جميع أنحاء ألمانيا ما زالت تحمل أسماء قادة الحقبة الاستعمارية بما في ذلك كارل بيترز وأدولف لوديريتز وجوستاف ناشتيغال.
كان الجنرال بول فون ليتو فوربيك قائدًا لحملة شرق إفريقيا الألمانية، حتى سنوات قليلة مضت، أُطلق اسمه على معسكرات الجيش والمدارس، وما زال هناك تمثال يحتفي بهيرمان فون ويسمان، الحاكم السابق لألمانيا الشرقية في إفريقيا، في بلدة صغيرة من باد لوتربيرج في وسط البلاد، بالإضافة إلى تمثال نصفي يمثل ناتشتيغال، الذي خدم لبعض الوقت كمفوض للمحميات الألمانية في غرب إفريقيا في مدينة ستندال الشرقية.
كما جرى تهميش الماضي الاستعماري الألماني في المدارس، ويجري الآن تدريس جزء ضئيل فقط منه بصفة اختيارية وليست إجبارية، في المقابل تُخصص الكثير من الحصص في العديد من المواد للحديث عما يطلق عليها “المحرقة اليهودية”.
فضلًا عن ذلك، ما زالت المتاحف الألمانية تحتفظ بجماجم وعظام العديد من الأفارقة الذين قتلوا في المستعمرات، وخلال فترة الاستعمار أجبر ضُباط ألمان النساء على نزع اللحم عن الجماجم بشظايا الزجاج، كي يتم إرسالها عبر البحر إلى ألمانيا من أجل أن يتمكن هناك “باحثي العِرق” من دراستها.
إجراءات مقتضبة
ازدادت الضغوطات على برلين مع تنامي الوعي الشعبي في المستعمرات الألمانية السابقة بضرورة مجابهة الألمان لماضيهم الاستعماري، ما دفع السلطات الألمانية لإقرار بعض الإجراءات في هذا الخصوص.
في البداية اعترفت ألمانيا في مايو/آيار 2021 أن ما وقع في ناميبيا بين سنوات 1904 و1908 إبادة جماعية، حين قتلت السلطات الألمانية في ذلك الوقت نحو 80 ألفًا من شعب هيريرو وناما في ناميبيا، وبقيت لأكثر من قرن تتجنب الحديث عن المسألة، وجاء هذا الاعتراف بعد 6 سنوات من المفاوضات.
وأقرت ألمانيا “بادرة” بقيمة 1.35 مليار دولار، تُنفق على مشاريع إعادة الإعمار والتنمية وبرامج الرعاية الصحية والتدريب على مدى 30 عامًا، كاعتراف منها بالمعاناة الهائلة التي لحقت بشعوب تلك المنطقة، لكن ألمانيا لم تصف هذه البادرة بالتعويضات.
فضلًا عن ذلك، اتخذت السلطات الألمانية بعض الإجراءات الأخرى، من ذلك مثلًا أنه أصبح لدى المتاحف الألمانية إرشادات بخصوص كيفية التعامل مع الممتلكات الاستعمارية المنهوبة، كما تم إنشاء نقطة اتصال مركزية للتواصل مع المستعمرات السابقة التي ترغب في استعادة الأشياء التي ضاعت منها.
إلى جانب ذلك، أعادت برلين بعض التحف الفنية المعدنية المعروفة باسم “برونزيات بنين” الشهيرة التي تعتبر من التحف المنهوبة في عهد الاستعمار، إلى نيجيريا، كما أعادت بعض الرفات البشرية التي تم إحضارها إلى ألمانيا في الحقبة الاستعمارية من أجل تجارب طبية مشبوهة.
كما بدأت السلطات الألمانية في الفترة الأخيرة، بتغيير أسماء بعض الشوارع في المدن، التي تكرم شخصيات استعمارية سابقة، على غرار شارع فيسمان في برلين الذي يذكر بهيرمان فون فيسمان الذي قمع بشكل دموي انتفاضة ضد الاستعمار الألماني في مناطق شرق إفريقيا التي كانت تحتلها ألمانيا.
رغم أن اليهود لم يعانوا كما عانى الأفارقة، إلا أنهم حصلوا على تعويضات تفوق الـ 300 مليار دولار
حتى تلك الأموال التي رُصدت لناميبيا لم تسمى تعويضات إنما اعتبرت برلين الأمر “تضميد جراح”، حتى لا تتنازل عن كبريائها وألا تتم مطالبتها بتعويضات مماثلة من باقي الشعوب الإفريقية التي استعمرتها طيلة 3 عقود.
تعتبر الحكومة الألمانية أن استخدام مصطلح” الإبادة الجماعية “لا يستلزم أي التزام قانوني بالتعويضات، بل يستلزم التزامات سياسية وأخلاقية لمداواة الجراح فقط، ورغم رفض سلطات ناميبيا ذلك، فإن الألمان تمسكوا به.
وسبق أن طالبت السلطات في تنزانيا الحكومة الألمانية بتعويضات حتى يتحملوا مسؤوليتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان في الحقبة الاستعمارية وأن يأخذوا ما حصل في البلاد في الماضي على محمل الجد، إلا أن الحكومة الألمانية تجاهلت الأمر.
وفي خصوص إعادة الجماجم والبقايا البشرية لذويهم، تبقى هذه المسألة حساسة بالنسبة لحكام ألمانيا، إذ لم يتم تفعيل هذه النقطة إلى حدّ الآن بالطريقة المطلوبة، فما زالت المتاحف الألمانية تحتفظ بالعدد الأكبر من هذه الجماجم وترفض إعادتها.
أما التراث المنهوب، فقد أصبح حقًا مكتسبًا للمتاحف، وهو ما يفسر البطء الألماني الكبير في التعامل مع هذا الملف وعدم تحقيق أي تقدّم فيه، رغم أن المفاوضات في خصوص هذه المسألة انطلقت منذ سنوات.
الأموال لا تضمد الجروح
حتى إن أقرت الحكومة في برلين تعويضات مالية لجميع المستعمرات السابقة – وهو أمر مستبعد لعدة اعتبارات – على ما تم اقترافه في حقّها، فإن هذه الأموال لن تضمد جراح الضحايا وذويهم الذين يقدرون بالملايين حاليًّا.
فهذه الأموال، ومهما كانت قيمتها، لن تعيد الضحايا ولن ترد الاعتبار لأهلهم، ولن تعوضهم عن سنوات الاستعباد الطويلة التي عانوا منها نتيجة الاستعمار الألماني، فالألمان كانوا ينظرون للأفارقة كالعبيد الذين وجدوا لخدمتهم فقط.
رغم أن اليهود لم يعانوا كما عانى الأفارقة، إلا أنهم حصلوا على تعويضات تفوق الـ 300 مليار دولار، وما زالوا يطالبون بالمزيد، فكيف للأفارقة أن يقبلوا بمليار دولار “جبرًا للضرر” على جرائم الإبادة الجماعية التي ارتُكبت بحقهم.
ألمانيا لم تتصالح بعد مع إرثها الاستعماري العنيف في إفريقيا، الذي وضع الأساس للفظائع النازية وألهم هتلر لمحاولة السيطرة على العالم خلال أربعينيات القرن الماضي، حتى إن بعض قادة برلين دائمًا ما يشيرون إلى مشاريع البنية التحتية الاستعمارية للتقليل من جسامة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها بلادهم.