لم يكن القصف الروسي الذي استهدف قرية المحيسلني بريف منبج شرق حلب، صباح الجمعة، أول تدخل خارجي من نوعه في القتال الدائر بين مقاتلي العشائر وقوات سوريا الديمقراطية “قسد“، والذي نجم عن تفجُّر الأوضاع بين الطرفَين في ريف دير الزور شرق سوريا.
قبل ذلك بساعات، وتحديدًا مع منتصف الليل، استهدفت قوات النظام السوري بلدة الجنينة بريف دير الزور الشمالي، بالتزامن مع إعلان الجيش الوطني المعارض والمدعوم من تركيا السماح لأبناء العشائر الموجودين في مناطق سيطرته في الشمال، الراغبين بالتوجه إلى مناطق سيطرة “قسد” من أجل مؤازرة أقاربهم، بالمرور من خلال معبر الساجور قرب مدينة جرابلس.
مَن المتآمر؟
في تعليقه على تفجُّر الأمور بهذا الشكل، اعتبر الإعلامي الكردي السوري سمير متيني، أن ما يجري في مناطق سيطرة “قسد” هو جزء من مخطط مشترك بين النظام وحلفائه وبين تركيا، بهدف حرف الأنظار عن انتفاضة السويداء.
وجهة نظر وتقدير موقف يشاركه فيهما الكثيرون من مختلف التوجهات السياسية والانتماءات، وهي فكرة بدأت تروج في أوساط السوريين المنخرطين في الصراع منذ اللحظة الأولى للتوتر الذي شهدته مناطق بريف دير الزور، على خلفية اعتقال “قسد” لقائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل (أبو خولة) مع عدد من مساعديه وأتباعه، بعد دعوتهم لاجتماع في مدينة الحسكة يوم الثلاثاء الماضي.
لكن نقطة الخلاف هنا هي في تحديد الطرف المتخادم مع النظام وحلفائه والمتسبّب في إشعال هذه المواجهة، فبينما يتهم مؤيدو “قسد” وجهاء العشائر المنتفضة بذلك، يؤكد هؤلاء أن قيادة حزب العمال الكردستاني المهيمنة على قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا هي الطرف المسؤول عن كل ذلك.
موقع “الخابور” المعارض للنظام و“قسد“، نشر يوم الأربعاء خبرًا أكّد فيه أن باهوز أدال، القيادي في حزب العمال (PKK)، هو من أشرف على عملية اعتقال الخبيل وقادة مجلس دير الزور العسكري، بعد أيام فقط على قدومه من جبال قنديل في العراق، وهي معقل الحزب المصنَّف على قوائم الإرهاب.
أمر يرى فيه مناوئو “قسد” دليلًا ماديًّا على تعمّدها افتعال مواجهة تخدم النظام وحلفاءه، الذين لا يخفي أي منهم علاقاته بالآخر، بل أن الروس هم الطرف الذي يوفر الحماية لقوات سوريا الديمقراطية غرب الفرات، أما بما يخصّ إيران فإن ارتباط طرف من قيادة حزب العمال بها أمر معروف بالنسبة إلى الكثيرين.
وعليه، إن سردية خصوم “قسد” تختصر ما جرى بسيناريو يفترض أن طهران طلبت من حزب العمال افتعال مشكلة كبيرة شرق الفرات، من أجل التشويش على انتفاضة جبل العرب في الجنوب وحرف الأنظار عنها من جهة، ولعرقلة أي خطة أمريكية لقطع طريق طهران-بيروت عند نقطة الحدود السورية العراقية، بعد أن باتت تشعر بقرب تنفيذها.
“قسد“: الخبيل فاسد وعميل لإيران والنظام
لكن سردية إعلام “قسد” أو المؤيدين لها، ترمي الكرة بشكل كامل في ملعب الطرف الآخر، مضيفة إلى التخابر مع إيران، للأهداف السابقة نفسها، تهمة التآمر مع تركيا أيضًا. حيث قال بيان صادر عن قيادة قوات سوريا الديمقراطية يوم الأربعاء إن “قرار العزل بناءً على تهم متعددة يُتهم بها الخبيل، وتشمل ارتكاب جرائم جنائية ضد الأهالي، وتورطه في تجارة المخدرات، بالإضافة إلى تنسيقه وتواصله مع جهات خارجية معادية للثورة“.
وبينما لم يسمِ البيان الرسمي هذه الجهات، أخذ إعلام “قسد” الرديف مهمة التسمية على عاتقه، حيث نشرت عدة مواقع وحسابات مؤيدة لها، أن الخبيل وشقيقه وعددًا من مساعديه كانوا على تواصل مع نظام الأسد وإيران خلال الفترة الماضية.
🎥 || هام || متداول || بيان صادر عن وجهاء وشيوخ محافظة الرقة بشأن الأحداث الأخيرة بين ميلشيا "قسد" من جهة وبين ما يسمى "مجلس دير الزور العسكري" من جهة أخرى وتدخل العشائر العربية على خط الاشتباكات والسيطرة. pic.twitter.com/DBb5Qvz5hF
— إدلب Online (@idleb_online) August 31, 2023
أمر لا يستبعده الباحث الكردي إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات، الذي اعتبر أن هناك تحركات من قبل النظام السوري والإيرانيين لدعم الخبيل.
وقال في تصريح لـ“نون بوست“: “توقيت التمرد الذي أبداه قادة مجلس دير الزور العسكري مريب، خاصة أنه جاء بالتزامن مع حراك السويداء المناهض للنظام، ولو أن الأمر معكوس، أي أن “قسد” هي من افتعلت هذه المشكلة لعرقلة ضربة أمريكية محتملة ضد إيران، فإن الولايات المتحدة كانت ستعلم ذلك بكل بساطة، خاصة أن الحدث وقع في منطقة تتواجد فيها القواعد والمخابرات الأمريكية“.
لكن ما يستطيع أن يجزم به كابان، حسب قوله، هو أن الخبيل كان يحضّر لتمرد كامل، بالتنسيق مع جهات سورية وعراقية وأطراف أخرى، من أجل إنشاء إقليم إداري خاص داخل الإدارة الذاتية، خاصة أن معقله غني بالنفط، وهو أمر عليه مؤشرات منذ أكثر من عام.
انتفاضة حتمية
الحديث عن مشروع مواجهة أمريكي مع إيران في شمال شرق سوريا، ورغم نفي واشنطن الرسمي له، إلا أنه عاد ليفرض نفسه بقوة، مع تصريحات محذّرة أطلقها بشكل متزامن محسوبون على التيار الإيراني في المنطقة.
يتفق الجميع على أن توقيت الانفجار في منطقة شرق الفرات بين المكون العربي والقيادات الكردية لقوات سوريا الديمقراطية يعتبر مثاليًّا بالنسبة إلى إيران والنظام السوري
أبرز هؤلاء كان زعيم “حزب الله” اللبناني حسن نصر الله، ورئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، حيث عبّر كل منهما يوم الاثنين الماضي عن التخوف من سعي الولايات المتحدة لإغلاق الحدود بين سوريا والعراق.
وبينما اكتفى المالكي بالتحذير من أن مثل هذه الخطة، إن نُفّذت، ستؤدي إلى سقوط نظام الأسد، هدد نصر الله بأن محور المقاومة سيواجه هذا المشروع، وأنه مستعد لقتال أمريكا ومن أسماهم “أدواتها“، في حال عملت على تنفيذه.
مؤشرات قوية تضاف إلى جملة التعزيزات العسكرية التي ما فتأ الجيش الأمريكي بإرسالها إلى الشرق الأوسط وسوريا والعراق تحديدًا، وهو ما يستدعي تحركًا إيرانيًّا لعرقلة مثل هذه الخطة بشكل استباقي، بما في ذلك اختراق قوات سوريا الديمقراطية.
أمر لا يستبعده أيضًا الباحث السوري فراس علاوي، الذي يؤكد امتلاك طهران لكل الأدوات والمؤهّلات التي تسمح لها بذلك.
يتفق الجميع على أن توقيت الانفجار في منطقة شرق الفرات بين المكون العربي والقيادات الكردية لقوات سوريا الديمقراطية يعتبر مثاليًّا بالنسبة إلى إيران والنظام السوري.
لم تبدِ الولايات المتحدة وقوات التحالف موقفًا حازمًا ممّا يجري هناك، مكتفية ببيانات مقتضبة جدًّا تحذّر من أي فوضى وتطالب بالحوار لحل هذه المشكلة
ويقول في حديث مع “نون بوست“: “المستفيد الأول من الفوضى في المنطقة هو إيران من دون نقاش، كما أنها تستطيع بالفعل تجنيد خلايا محلية عن طريق بعض شيوخ العشائر المرتبطين بها، وتحريك هذه الخلايا لتنفيذ عمليات قد تشمل حتى القوات والقواعد الأمريكية، ليس في ريف دير الزور وحسب، بل حتى في الحسكة التي لـ“حزب الله” اللبناني نشاط فيها“.
لكن علاوي، وهو مدير “موقع الشرق نيوز” الإخباري المحلي، يستبعد فرضية اختراق مجلس دير الزور العسكري بأكمله، وتجنيد إيران لقائد المجلس أحمد الخبيل نفسه، معتبرًا أن التهم الموجهة له بهذا الخصوص هي عبارة عن تصفية حسابات داخلية تظهر وجود صراع بينه وبين قيادات في “قسد“.
كما يؤكد علاوي أن كل أسباب الثورة الشعبية متوفرة في مناطق سيطرة “قسد“، وهذه الانتفاضة كانت تطل بوجهها كل عدة أشهر لكن يتم قمعها أو احتواؤها، أما الآن فقد توفر لها سياق وظرف يساعدان على تجلّيها بشكل أقوى مع دخول شيوخ العشائر على خطها، وهو أمر يدركه أهالي المنطقة المعارضين للنظام، حيث إن هذا النظام وحليفته إيران مرشحان بقوة للاستفادة منه، ولذلك عملوا على أن تلبّي قوات التحالف وقيادة “قسد” مطالبهم من خلال الحوار، وما زالوا رغم تفاقم العنف متمسكين بذلك.
يتفق الجميع إذًا على أن توقيت الانفجار في منطقة شرق الفرات بين المكون العربي والقيادات الكردية لقوات سوريا الديمقراطية يعتبر مثاليًّا بالنسبة إلى إيران والنظام السوري، لكن كل طرف يتهم الآخر بالعمل على خدمة طهران ودمشق، في وقت لم تبدِ فيه الولايات المتحدة وقوات التحالف موقفًا حازمًا ممّا يجري هناك، مكتفية ببيانات مقتضبة جدًّا تحذّر من أي فوضى وتطالب بالحوار لحل هذه المشكلة.