مركز الاهتمام الأبرز في مطلع السنة السياسية الجديدة هو استعدادات حزب النهضة التونسي لعقد مؤتمره الحادي عشر، وعبارة “سنة سياسية” جاءت من قبيل المجاز، ففي تونس قتل الانقلاب كل حماس سياسي وجعل الأيام تتشابه إلى حد التطابق، لكن لنترك هذا جانبا ونشارك في النقاش، فالنهضة بكل ما أصابها وما ينتظرها تصنع الحدث وقد ترك الإعلام التونسي تجارة مواعين الطبخ (وهو اختصاصه في ظل الانقلاب) وأولى استعداد النهضة لمؤتمرها أهمية بالغة.
وما جمعناه من أخبار من مصادر مختلفة خلق لدينا انطباعا بأن هناك اتجاهين مختلفين يشقان الحزب وأن انقساما حاد لا يبدو مستبعدا وهو ما يؤدي إلى سؤال يقول: هل يصمد الحزب دون قائده التاريخي في وجه هذا الخلاف العميق؟ أم يكون المؤتمر فرصة ترميم وإعادة بناء؟
صمود أمام الانقلاب
عندما نستعيد تفاصيل عودة حزب النهضة بعد مجزرة بن علي التي دامت ربع قرن، مستفيدا بسرعة خارقة من فرصة الثورة، ننتهي إلى أن الحزب يملك قدرات خاصة على إعادة التشكل والعمل الميداني لم يمتلكها غيره ولا يبدو أن له منافسا محليا في القدرات التنظيمية.
إن ما يدور حول المؤتمر يوحي بأن انقساما حادا يهيمن على أجواء الاستعدادات الجارية، وأن اللحمة الداخلية معرضة لاختبار قاس
وعند استعراض الضربات التي وجهت للحزب بعد الانقلاب وخاصة حرمان رئيسه من موقعه البرلماني وصولا إلى سجنه ثم تجميد هياكل الحزب وإغلاق مقراته بشكل غير قانوني ونقيس الحاضر على الماضي نرجح أن الحزب لن يفقد قدراته ولن يتفكك، لكن وجب أن نتذكر في الأثناء أن الحزب تعرض إلى هزات داخلية وعرف انسحابات بحجم انقسامات منها، خاصة استقالة مائة من قياداته الوسطى.
كما وجب أن نتذكر أن الحزب وإن فاق الجميع بحجمه الميداني وأثبت قدرة عالية على البقاء فإن قدراته السياسية لم تكن في مستوى انتظارات الناس من حوله.
صحيح أيضا أن حملة الافتراء على الحزب وعمليات التشويه المسلطة عليه لم يتم إثباتها وانقلب الكثير منها لصالح الحزب، إذ زادت في لحمته وحولت ماكينة التشويه إلى مسخرة لدى عقلاء كثيرين يحسنون الفرز بين الأكاذيب والحقائق لكن رغم ذلك فإن ما يدور حول المؤتمر يوحي بأن انقساما حادا يهيمن على أجواء الاستعدادات الجارية، وأن اللحمة الداخلية معرضة لاختبار قاس.
مؤتمر بمن حضر؟
يدفع الدكتور منذر الونيسي، رئيس الحزب بالنيابة، ومن معه إلى أن إنجاز المؤتمر بمن حضر، محاولا تجاوز هياكل الحزب ومجلس الشورى ومتجاوزا خاصة الفريق المخلص للغنوشي ونائبيه لعريض والبحيري وثلاثتهم سجناء.
هناك صفقة عقدت مع بعض وجهاء منظومة بن علي المحيطة بالانقلاب وهي الحاكم الفعلي في هذه المرحلة، يجري بمقتضاها إبقاء الحزب على قيد الحياة مقابل تصغير نفسه إلى حزيب صغير
يتذرع هذا الشق بأن الحزب لا يمكنه المكوث طويلا في منطقة انتظار إطلاق سراح القيادة السجينة وعودة الهياكل إلى العمل المنتظم لتتوفر ظروف سليمة لإنجاز مؤتمر خاصة وأن الانقلاب أو بالأحرى من يقف وراءه لا يبدو مستعجلا على إطلاق سراح القيادات بل يمكنه في أي لحظة أن يسجن غيرها بدم بارد.
يرشح من الأحاديث أن هناك صفقة عقدت مع بعض وجهاء منظومة بن علي المحيطة بالانقلاب وهي الحاكم الفعلي في هذه المرحلة (الوجه المدني للأجهزة الصلبة)، يجري بمقتضاها إبقاء الحزب على قيد الحياة مقابل تصغير نفسه إلى حزيب صغير يشبه حركة حمس الجزائرية بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات في الجزائر وبعد الحرب الأهلية (العشرية السوداء الجزائرية)، أو حزب الوفد المصري زمن السادات أي حفظ الوجود الأدنى مقابل الإقرار بأن الموقف المعارض للانقلاب غير مجد وبالتالي التحول من المعارضة الجذرية إلى مشاركة نسبية بحجم غير مؤثر في أي قرار.
في الشق المقابل، نسمع أحاديث (يصل بعضها إلى التخوين) بأن الصفقة في جوهرها تقوم علي تحويل النهضة إلى حزب كرتوني مشابه للحزيبات التي كان بن علي صنعها بيديه ومنحها مقاعد المعارضة (أو أحزاب العشرة بالمائة)، وهو ثمن بخس مقابل الاعتراف بالانقلاب والتخلي عن معارضته. مع تحمل عار لحس خطاب المعارضة وإدانة أكثر من 25 مظاهرة في الشارع.
هذا الشق وكثير منه ضد عقد المؤتمر في الوقت الحالي، لكن أغلبه يقبل بعقد المؤتمر ولو بوسائل افتراضية متاحة واختيار التمسك بالمعارضة الجذرية، بما في ذلك إعادة تصعيد القيادة السجينة إلى مواقعها، وهذا الموقف في عمقه هو اختيار مواجهة الانقلاب (والمنظومة المتخفية وراءه) وتحمل كلفة المعارضة كما في زمن بن علي.
من الواضح أن الاختلاف عميق رغم أننا لم نملك معلومات دقيقة عن حجم كل فريق، فأغلب النقاشات تجري في مجموعات مغلقة ولا نفلح في الوصول إلى قياس موثوق.
كأن التاريخ يعيد نفسه
الاختيار بين المواجهة والمهادنة يذكرنا باللحظة التي اختارت فيها الغالبية سنة 1990 مواجهة نظام بن علي وتجاوزت موقفا كان يدعو إلى مهادنته والعيش معه طبقا لشروطه أو على الأقل اجتناب دفع ثمن دام وانتظار وقت أفضل للمواجهة. لقد حصلت المواجهة ودفع الثمن الموجع.
المنظومة ترى أن ما لم تحصل عليه بقوة الردع ستحصل عليه بالمناورة عبر الاستدراج إلى وضع الحزب الكرتوني مقابل السلامة لأفراده
ما يلفت الانتباه هنا، أن المنظومة لا تزال تفكر بنفس الأسلوب ولها نفس المطالب من النهضة أن لا تكون في المشهد برمته (أي أن تندثر)، أو أن تكون منه في أقل حيز ممكن من الفعل السياسي، بحيث لا تقف في طريق مكاسب المستفيدين الحاكمين الفعليين من وراء بن علي ومن وراء الانقلاب، مع ملاحظة مهمة أن المنظومة اختارت بالانقلاب أسلوبا غير أسلوب بن علي العنيف وفضلت التفتيت المتأني وانتظار النتيجة.
هذا العقل الاقصائي الاستئصالي لم يتغير ونرى أن الانقلاب قد أعاده إلى الحياة أو أعاد له كل سلطته (والأولى أن نقول أنه أنجز الانقلاب واستعاد به مكاسبه ومواقعه) بما يسمح بالاستنتاج بأن موقف المهادنة لن يكون له مقابل وإنما هو استدراج إلى مربعات الخضوع والتفتيت المتأني.
والمنظومة ترى أن ما لم تحصل عليه بقوة الردع ستحصل عليه بالمناورة عبر الاستدراج إلى وضع الحزب الكرتوني مقابل السلامة لأفراد منه بما يعني قبول هؤلاء بالضحية بجسد الحزب وتراثه مقابل سلامتهم.
الانقسام عنوان حيرة سياسية وتنظيمية
من الواضح أن غياب القيادة المؤثرة يثقل على الباقين من بعدهم، وفي مثل هذه المراحل المفصلية تبرز النفوس الصغيرة العجولة على المكاسب الشخصية.
كما يبرز الشهداء أصحاب المبادئ لكن ليس لدينا شواهد تاريخية على انتصارهم على نهازي الفرص باسم الواقعية، فقد انتصر التجار دوما في هذه البلاد على الفلاحين وعلى المجاهدين، ونرجح أن سيكون الأمر مطابقا داخل حزب النهضة (نتوقع أن المنظومة ستضرب ضربات جراحية لمن نسميهم أصحاب المبادئ لترجيح كفة شركائها في الصفقة).
اختفاء الحزب شكلا سيجعل المنظومة بلا عدو ظاهر تعيش من قتله بالجملة وبالقطعة مند أكثر من نصف قرن
الفتنة الداخلية التي تصلنا أخبارها تكشف حيرة عميقة تشق الحزب وغياب البوصلة السياسية لهذه المرحلة، وطبعا ليس لدينا علم بقدرات الراغبين في مواصلة المعارضة التي ستعني المواجهة المكشوفة في صورة فشل الصفقة، خاصة أن ليس لهم شريك في الشارع يحمل معهم وزر المعارضة.
نصحنا الحزب نصيحة أثارت سخرية كبيرة وهي الذهاب إلى خلق فراغ سياسي بحل الحزب، ففي زمن التواصل الافتراضي لم نر فائدة في بناء حزب بمقرات يستهدفها الحرق كل يوم، في حين يمكن التواصل والعمل دون دفع كلفة مادية.
خلق منطقة الفراغ لن تفكك الحزب وإنما ستفرز المنتمين فعلا وقولا وصبرا ونضالا، في المقابل اختفاء الحزب شكلا سيجعل المنظومة بلا عدو ظاهر تعيش من قتله بالجملة وبالقطعة مند أكثر من نصف قرن، وستقتل قبل ذلك أولئك السياسيين الصغار الذين لم تكن لهم مهمة منذ خلقوا غير الحرب على النهضة من أمثال محمد عبو، وسينتهي دور تلك الفئة التي لا ترى في حزب النهضة إلا جسرًا نحو مطامعها الصغيرة.
قال لنا بعض النهضويين إن غيابنا سيجعل المنظومة تتغول على الشعب وهذا وهم حقيقي، إن المنظومة فعلت كل ما لديها ولم يردعها وجود حزب النهضة في السلطة وفي المعارضة.
مازلت أصر على أن خلق حالة الفراغ حل مناور يسقط المنظومة في فراغ كبير بينما يمكن للنهضة أن تتمتع بعطلة هادئة وتراقب من فوق ربوتها الخاصة. لن يسمع لنا في هذا الحل الجذري وسينجز المؤتمر بمن حضر وستحال سيارة الغنوشي إلى الرئيس الجديد، فالشقان لم يقرآ دروس غزوة مؤتة، لذلك يتحركان في المربع الذي خططته لهما المنظومة والأثمان ستدفع وقد يقوم الشق المهادن بدور مشابه للأمن الوقائي الفلسطيني الذي يقبض على نشطاء المقاومة لكي يستقر عباس في المقاطعة ويشرب قهوته في البلكونة.