يرى المراقب للحالة المصرية أن الحياة السياسية صارت أسيرةً للعنف تمامًا كما هو حال الحياة الاجتماعية، ربما يتبادل الأطراف اتهام بعضها البعض بالعنف لكننا لو دققنا النظر لوجدنا نوعين ظاهرين: الأول عنف الدولة والثاني عنف الجماعات والأفراد، ويتقرر بالملاحظة والتحليل أن الثاني مرتبط ارتباطًا طرديًا مع الأول، بحيث كلما زاد عنف الدولة نشأ عنه عنفٌ من الجماعات والأفراد لتدافع عن مصالحها أو لتدفع الضرر عن كياناتها وذواتها.
صحيحٌ أن السلطة هي الاحتكار المشروع لأدوات العنف والإكراه، وهذه الأدوات هي السلاح والقضاء والسجون وغير ذلك، لكن بالملاحظة والتوثيق يظهر أن عنف الدولة في الحالة المصرية ليس عنفًا من النوع المشروع بل يكتسب شرعية مدعاة يُفرض مفهومها بالقهر والإيهام بالإنجاز.
بنيتُ هذا البحث على دراسة تأثير ما تمارسه الدولة من عنف على الأشخاص والأُسَر الذين ينتمون ويرتبطون بالمعتقلين والمحكومين السياسيين في مدينة الإسكندرية، وذلك لدراسة تأثير هذا العنف على التزام عينة البحث بسلمية الصراع السياسي ومدى قبولهم لما تطرحه الدولة عبر وسطاء غير رسميين من عروض المصالحة والتسوية السياسية لحل الأزمة الراهنة.
اتخذت للبحث عينة عددها 47 حالة، تمثل كل منها حالة اعتقال أو توقيف أو اختفاء قسري في نطاق مدينة الإسكندرية، لم أخض جدلًا كثيرًا لأصنف العينة على أنهم سياسيين لأنني بالبحث الحقوقي مع محامييهم والاطلاع على تفاصيل ملفات القضايا وجدت أنه لا أدلة جنائية ضدهم أدت للمطلوبية القضائية أو التوقيف لكن فقط كانت الأسباب الحقيقية للمطلوبية أو التوقيف هي وجودهم في المكان الذي لا ترغب الدولة في وجود أحد فيه أو مظهرهم الإسلامي أو انتمائهم لجماعة تحظرها الدولة.
وسأستخدم لفظ “الدولة” طول البحث للدلالة على قوات الجيش والشرطة والمخابرات مضافًا إليهم القضاء، والذين يسيطرون على مرافق الدولة فهم الدولة باعتبار الاستحواذ لا باعتبار شرعية الرِّضا، وأستخدم لفظة “المعتقلين السياسيين” للدلالة على الموقوفين والمحكومين في قضايا التظاهر والانتماء لجماعة محظورة وتخريب المرافق العامة في أحداث منذ 30 من يونيو 2013 إلى الآن وكذلك المختفين قسريًا.
أردت من البحث الإجابة عن تساؤلات عدة مطروحة على الساحة السكندرية خصوصًا والمصرية عمومًا، فالإسكندرية هي الثانية من حيث الترتيب في عدد المعتقلين السياسيين
أردت من البحث الإجابة عن تساؤلات عدة مطروحة على الساحة السكندرية خصوصًا والمصرية عمومًا، فالإسكندرية هي الثانية من حيث الترتيب في عدد المعتقلين السياسيين والذي تقدره جهات حقوقية بـ45000 معتقلًا ([1]) منذ 30 من يونيو 2013، وتساؤلي الرئيسي هو إذا كان من تعريفات السياسة أنها فن تسوية الصراعات وتحقيق المصالحات، فما أثر عنف الدولة في تحقيق المصالحة مع معارضيها؟
الافتراضات
دلت الملاحظات المبدأية على أن ممارسة الدولة للعنف على معارضيها سيؤدي لكبت هذه المعارضة ورضا منسوبيها بأي مصالحة أو تسوية تطرحها الدولة بأي شروط عبر وسطاء غير رسميين لإعادة الهدوء للحياة الاجتماعية والسياسية، وأن هناك علاقة طردية بين شدة وطول ممارسة هذا العنف وحجم الرضا بالتسوية، وكذلك هناك علاقة عكسية بين شدة وطول ممارسة هذا العنف وحجم مطالب المعارضة من أجل إقرار التسوية، فوضعت هذه النظرية محلاً للاختبار مع ملاحظة الآثار الجانبية للنتيجة.
المدخل النظري
يقوم البحث على توصيف الحالة المصرية وفق تعريف ماكس فايبر للسلطة على أنها “ضرورة إلزامية في التنسيق بين فئتين، بمعنى أن هناك مصدر معين يعطي أوامر محددة تفرض على مجموعة معينة من الأشخاص طاعتها”([2]) أو بمنطوق آخر “الاحتكار المشروع لأدوات العنف والإكراه” وأثبتُ فيه ملاحظة أن الاحتكار في حالتنا غير مشروع واستخدام الأدوات متعسف وموجهة على فئة معينة بقصد الاستئثار بالحكم ومنع تداول السلطة، وأصل إلى نتيجة تلك الممارسات في نهاية البحث، كل ذلك باتخاذ محافظة الإسكندرية ميدان للدراسة.
بداية ينبغي تعريف ماهية الدولة منذ يناير 2011 ومن يديرها، وفي هذا سأنقل عن جيمس ﭘتراس وهو السياسي الأمريكي المعارض لسياسات دعم الديكتاتورية والمعادي للسامية، عنه تعريفه لطبيعة ما جرى في يناير ونتيجته التي تعتبر دورانًا في حلقة مفرغة، قال “وفيما أن البيت الأبيض قد يتسامح في أن تطيح الحركات الاجتماعية بالحكام المستبدين بل وقد يدعمهم في ذلك مضحيًا بهم، إلا أنه يحرص كل الحرص على الحفاظ على أجهزة الدولة، في حالة مصر لم يكن مبارك هو فقط الحليف الاستراتيجي الأساسي لإمبريالية الولايات المتحدة، بل كانت النخبة من القادة العسكريين هم من مضت واشنطون تتفاوض معهم باستمرار قبل الإطاحة بمبارك وأثنائها وفي أعقابها، كي تتأكد من أن (الانتقال) إلى الديمقراطية يضمن استمرار تبعية مصر للولايات المتحدة، وضمان أمن إسرائيل ومصالحها”[3].
وثانية عليّ أن أستحضر توثيق جمال حمدان لطبيعة ومسلك تلك الحالة والدائرة التي ندور فيها، فها هو يصف الدولة التي تحكم مصر والدول التي تحكم العالم الثالث إذ يؤكد على معلومات ﭘتراس قبل عقود فيقول “فالعالم الثالث هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية ومخلفات الطغيان والاستبداد الشرقي القديم والرجعيات البدوية البدائية العتيقة المتحجرة، فضلًا عن أنه غدا أبشع معقل للديكتاتوريات العسكرية والفاشية اللاشرعية الاغتصابية الفاسدة نصف المتعلمة أو نصف الجاهلة، وكأنما قد حُكِم عليه بأن يستبدل بالاحتلال العسكري الأجنبي القديم أيام الاستعمار، الاحتلال العسكري الداخلي الجديد تحت الاستقلال، هذا استعمار خارجي، وهذا (استعمار داخلي)! والواقع موضوعيًّا أن العالم الثالث كما هو اليوم إنما ينتمي سياسيًّا إلى الماضي السحيق، يعيش في القرن الـ20 الميلادي بالهيكل السياسي للقرن الـ20 قبل الميلادي.
المؤسف، بعد، أن أغلب هذه الديكتاتوريات العسكرية أو الرجعية يتم أو يقع تحت ادعاء ولافتة الديمقراطية، بل ويباهي بها أعرق الديمقراطيات الغربية بلا حياء ولا خجل، ولا عجب أن صك البعض لهذا كله تعبير “ديمقراطية العالم الثالث” و”الديموكتاتورية” كنوع من السخرية السياسية، وعلى الجملة، فلا نقاش في أن العالم الثالث هو أكبر سجن دولي ومعتقل مفتوح للمواطن النامي، ومن نافلة القول كذلك إنه لا أمل البتة في تحرير هذا المواطن من التخلف السياسي والحضاري إلا بتحريره من هذه العبودية السياسية.
فلقد أصبح العالم الثالث منذ تصفية الاستعمار مهد الحكم العسكري الفاشي الباطش والانقلابات العسكرية الدورية، فلا يكاد يمضي شهر إلا ويقع انقلاب عسكري في دولة من دوله
وكتفصيلة على الهامش، فلقد أصبح العالم الثالث منذ تصفية الاستعمار مهد الحكم العسكري الفاشي الباطش والانقلابات العسكرية الدورية، فلا يكاد يمضي شهر إلا ويقع انقلاب عسكري في دولة من دوله، كأنما قد سرى في جسمه السياسي الميكروب اللاتيني والنمط اللاتيني، حيث سجلت دول أمريكا الجنوبية وحدها أكثر من 200 انقلاب عسكري منذ الاستقلال في أوائل القرن الماضي، أو كما عبر البعض، لقد أصبح الحكم العسكري وباء العالم الثالث ولعنة المداريات وجذام الجنوب، وأصبح العالم الثالث دستوريًّا عالم الانقلابات العسكرية بالتفصيل والامتياز.
ومن المحزن أو المضحك أن كثيرًا من أصحاب وصانعي هذه الانقلابات العسكرية الطفيلية يصر إصرارًا واستكبارًا (أو غفلة أو استهتارًا؟) على أن ينعتها بالثورة، الثورة الشعبية وإلا فلا، كل انقلاب عند أصحابه هو ثورة، إما وطنية أو اجتماعية أو تحرير، إلخ، بينما هو عند الشعب من الغاصبين، وفي النتيجة، وعلى هامش الهامش، بل في الصميم، فإن معظم العالم الثالث لا يحكمه خيرة أبنائه، إن لم يحكمه شرهم حقًّا، الأمر الذي يضاعف من أزمته العالمية ويزيد تخلفًا على التخلف ووهنًا على وهن” [4].
كانت مجتمعًا مدنيًا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم
ثم ثالثا وأخيرًا أختم المدخل النظري للبحث بقول جمال حمدان أيضا في شخصية مصر: “فخلال أكثر من خمسة آلاف سنة لم تحدث أو تنجح فى مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة مؤكدة، مقابل بضع هبّات أو فورات فطرية متواضعة أو فاشلة غالبًا، مقابل عشرات بل مئات من الانقلابات العسكرية يمارسها الجند والعسكر دوريًا كأمر يومي تقريبًا منذ الفرعونية وعبر المملوكية وحتى العصر الحديث ومصر المعاصرة، وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليديًا ومن البداية إلى النهاية شعبًا غير محارب جدًا أو إلى حد بعيد في الخارج، كانت مجتمعًا مدنيًا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم.
وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيرًا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب”([5]) ففي كلامه مربط الفرس والدلالة الواضحة على الانحراف في استخدام عنف الدولة على أرض مصر تاريخيًا وحاليًا.
مقدمة
في ظل جور السلطة وتوجه الدولة للعنف كحل في الأزمات السياسية تتعطل جميع الآليات السلمية والكيانات التي تعتمد على الاستقرار كي تعمل، في الحقيقة إن علو العنف كوسيلة سياسية بين الخصوم السياسيين داخليًا يعني فشلاً ذريعًا للعملية السياسية ككل، ولذلك لم أجد موضوعًا أكثر قيمة للبحث عنه من وجهة نظري بقدر هذا الموضوع.
مصر في انقسام بين معسكرين كبيرين أحدهما مؤيد لاستمرار الحكم في يد أجهزة الدولة كما كانت صورتها قبل 25 يناير 2011 والآخر مؤيد لتأسيس جمهورية جديدة ديموقراطية تستلهم مبادئ ثورة يناير
مصر في انقسام بين معسكرين كبيرين أحدهما مؤيد لاستمرار الحكم في يد أجهزة الدولة كما كانت صورتها قبل 25 يناير 2011 والآخر مؤيد لتأسيس جمهورية جديدة ديموقراطية تستلهم مبادئ ثورة يناير، وداخل كل معسكر من الاثنين معسكرات صُغرى وكُبرى وانقسامات تتأسس على الأيديولوجيا والمصالح وتغذيها الثارات والخلافات القديمة والجديدة، وفي وطن مضطرب لا يسعنا إلا العمل لعودة استقراره، وقبل العمل يجري القياس والاستطلاع والتحليل، وعليه ينبغي فهم إلى أي طريق تأخذنا الدولة وما ردود الأفعال التي ستنبت جراء أفعالها.
حقيقة انتقال السلطة في 2012
وفق شهود عيان من مسؤولي شركة أبو قير للأسمدة والكائنة بشرق الإسكندرية، فإنه في شهري نوفمبر وديسمبر من سنة 2012 قامت مجموعات من البلطجية وبتحريض من عادل شعلان عضو مجلس شعب سابق عن الحزب الوطني بقطع الطريق المؤدية إلى الشركة ومنع أتوبيساتها من المرور وبالتالي منع الموظفين من بلوغ مبنى الإدارة أو المصانع وهاجموا المدينة السكنية للشركة [6].
وطالب هؤلاء البلطجية بالتعيين في الشركة كعمال تستيف بمرتب لا يقل عن 1500 جنيه شهريًا مع التمتع بكل مميزات العاملين في الشركة من أرباح سنوية ومميزات عينية، وعندما لم تستجب قوات الأمن لنداءات مسؤولي الشركة المتتالية خرجت الأتوبيسات جميعها إلى مديرية الأمن بسموحة صباحًا بدلاً من التوجه للشركة، ومع هذه التظاهرة صعد كبار مسؤولي الشركة لمقابلة مدير الأمن في ذلك الوقت اللواء عبد الموجود لطفي الذي رفض التدخل تمامًا وقال بكل وضوح “نحن في إجازة 4 سنوات” في إشارة واضحة لأن جهاز الشرطة لن يمارس أعماله في حماية المواطنين طول الفترة الرئاسية للدكتور محمد مرسي، وغني عن الذكر أنه تم تعيين المذكورين بالقهر والإجبار في حينها ولم يتم التخلص منهم إلا بعد 30 من يونيو 2013 حين عادت أجهزة الدولة للعمل!
في ذات الشهر ديسمبر 2012 تم حصار مسجد القائد إبراهيم من قبل بلطجية وتمت مهاجمة المسجد وسقط قتلى من المصلين وبدلاً من القبض على المهاجمين تم القبض على 60 من المصلين ومن الشباب السكندري الذي حاول الدفاع عن المسجد، وقرر شهود عيان أن ضابطين معروفين كانا يقودان البلطجية خارج المسجد [7].
وأرى هاتين الشهادتين كافيتين لإثبات أن دكتور مرسي وطاقمه الرئاسي والوزراء الذين اختارهم من غير أجهزة مبارك لم يتولوا السلطة فعليًا أبدًا، لأنهم وفق التعريف العام للسلطة على أنها “الاحتكار المشروع لوسائل العنف والإكراه” لم يحتكروا وسائل العنف والإكراه لا بشكل مشروع ولا بشكل غير مشروع، ولم يمارسوا إدارة أجهزة الدولة ولم يتولوا محاسبة المقصرين من منسوبيها، وبالتالي فإن مدينة الإسكندرية تشهد على أن هذه السلطة لتلك الفترة كانت صورية غير حقيقية.
العنف في 2012 و2013 وما بعدها في الإسكندرية هل هو من ضمن عنف الدولة؟
إضافة لأحداث 2012 التي سردتها بعاليه، والتي يتضح فيها أنها من مظاهر عنف الدولة لأن أجهزة الدولة كانت تقودها وتوجهها وتمولها، فإنه يضاف لأشهر أحداث العنف في الإسكندرية:
أحداث سيدي جابر، بتاريخ 5/7/2013، والتي يصفها إعلام الدولة بـ”قضية السطوح” وهي الأخرى صورة من صور عنف الدولة، حيث أفاد شهود عيان بعضهم محكوم في ذات القضية أن قوات الداخلية كانت تطلق النار على المتظاهرين والمارة وتحمي البلطجية، وقد زرت شخصيًا أحد المصابين حيث تمت مهاجمته بالسيوف وقطع كف يده ورجله إلى نصف الساق، وآخر تم حكمه بـ15 سنة سجنًا على أنه اشترك في الأحداث بينما كان قد تم توقيفه في حي آخر بعيدًا معزولاً عن مجرى الأحداث!
مجزرة مسجد علي بن أبي طالب، بتاريخ 16/8/2013، والتي أطلقت فيها قوات الأمن النار على المصلين والمتظاهرين، وقد زرت شخصيًا أحد المصابين حيث تلقى طلقًا ناريًا نافذًا من أيسر البطن خرج من يمين البطن، وأعرف شخصيًا آخر كان مارًا من المنطقة فقتل بطلق ناري في الرأس، وعاينت آثار الأعيرة النارية كبيرة العيار التي تستخدمها المدرعات وقد تركت آثارها على واجهات الأبنية والمحلات التجارية.
وثّقت عن شهود عيان مقتل الفتاة سمية عبد الله في تظاهرة بشرق الإسكندرية يوم 7/2/2014.
تلقيت بيانات توثيقية من جهة حقوقية عن 28 حالة اغتصاب كامل تمت على يد منسوبين لأجهزة الدولة ضد معارضين ومعارضات بالغين وقصّر في مختلف أنحاء مصر ومنها الإسكندرية.
وكل هذا الاستخدام الجائر لوسائل العنف والإكراه من طرف أجهزة الدولة في شوارع الإسكندرية وأماكن التوقيف فيها أدى لخفوت صوت المعارضة فيها وانطفاء جذوة الفعاليات المناهضة لأجهزة الدولة تمامًا، وهو ما يجيب عن السؤال الثالث أن انتقال السلطة في 2014 لم يكن سلميًّا.
توجيه عنف الدولة منذ 2014
منذ صَمَتَ الشارعُ في 2014 والعنف يتوجه ويتركز أكثر في السجون الرسمية والمعتقلات الأمنية وأماكن الاختفاء القسري ويتوجه انتقائيًا من فترة لأخرى إلى بيوت المعارضين وإلى شخوصهم في المواني البرية والبحرية وإلى أماكن عملهم ودراستهم.
تتلخص ممارسات العنف والإكراه على المعتقلين في الحبس الانفرادي، التجريد من الأثاث والأدوات حتى الأقلام والأوراق والملابس الداخلية، المنع من العلاج ومنع الأدوية حتى للأمراض المزمنة والخطيرة، منع الزيارة، مصادرة الطعام، الإهانات اللفظية، التعدي بالضرب، التحرش والاعتداء الجنسي، التعذيب بوسائل متعددة، الفصل من العمل.
وتتلخص وسائل ممارسات العنف والإكراه على أهالي المعتقلين في تغريب المعتقل بحيث يكون محل سجنه بعيدًا عن إقامة أسرته وتتكلف السفر كل زيارة، منع الزيارة، الإهانات اللفظية، التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب، الاعتقال، التهديد بالاعتقال، المداهمات المتكررة للمنازل، إشاعات سوء السمعة، استنزاف الموارد المالية في الإنفاق على إطعام المعتقل داخل سجنه وخارجه.
وفي حالة الإفراج عن المعتقل يمنع من العمل بموجب تقارير أمنية ويمنع من السفر، وفي حالة سفره يوضع على قوائم ترقب الوصول.
يتوجه العنف مركزًا على المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين بنسبة 53% يليهم المستقلين من الإسلاميين المعارضين لأجهزة الدولة بنسبة 45% والبقية 2% معارضين من خارج التيار الإسلامي.
يحدث ذلك بينما تتوالى عروض المصالحة ومبادرات التسوية على ألسنة أشخاص محسوبين على أجهزة الدولة بحكم الولاء لا بحكم الانتماء في تطبيق لسياسة العصا والجزرة، تظهر الدولة عينها الحمراء للمعارضين وتمد لهم يدًا ملوثة بالدماء.
وبأخذ العينة محل البحث عين الاعتبار نجد أن:
9 رفضوا الإجابة عن الاستبيان أو السؤال، ينقسمون إلى:
4 قرروا أن أحقية الإجابة محفوظة حصريًا لأهالي ضحايا الأحداث الذين قتلوا على يد أجهزة الدولة وأنه ليس للمعتقلين أو المطاردين الحق في البت في قبول المصالحة من عدمه.
3 قرروا أن مجرد القبول بطرح هذا التساؤل هو عار صريح (وهذا رفض ضمني للمصالحة لكن سجلت إجابتهم على أنها امتناع).
1 قرر بأن المصالحة غير ممكنة معلقًا “المصالحه بتحصل لما يبقى فيه اتنين أقوياء أو على الأقل قريبين من بعض في القوة، لكن العسكر مسيطرين بالطول والعرض والإخوان مسالمين بالطول والعرض”.
1 قال “رغم أنني قدمت شهيدًا ومعتقلاً في الأحداث إلا أنني أرى نفسي غير مؤهل لأبدي رأيًا في مسألة تتعلق بها مصير الأمة”.
1 أفاد بأنه في حيرة من أمره.
19 أبدوا موافقتهم على المصالحة.
18 أعلنوا رفضهم المصالحة.
تأثير عنف الدولة في ظل الأيديولوجيا والمستوى الاجتماعي
لم أجد للمستوى الاجتماعي أثرًا معنويًا في توجيه الانفعال الناشئ عن عنف الدولة، فالذين رفضوا المصالحة لم يكونوا ميسورين بل أكثرهم مطحونين يصيبهم الأذى الشديد من استمرار الوضع كما هو عليه، والذين قبلوا بها لم يكونوا مطحونين بل منهم الميسورين لا تدفعهم المادة للقبول بشروط مجحفة، ربما كان هناك ميلاً طفيفً لدى المطحونين إلى تحمل الظروف الأصعب لأنهم نشأوا ابتداءً في ظروف صعبة.
لكن الأيديولوجيا هي العامل القوي في توجيه الانفعال تجاه عنف الدولة، فالذين نشأوا إصلاحيين يميلون إلى القبول بالمصالحة والرغبة في التسوية، والذين نشأوا ثوريين يميلون إلى رفض المصالحة ونبذ التسوية والصمود في طريق الثورة، لكن اللافت للانتباه أن انحراف أجهزة الدولة إلى الجور في استخدام وسائل العنف والإكراه كان هو العامل الأهم في تغيير الأيديولوجيا، صحيحٌ أن هذا العنف نجح في تغيير البعض من الثورية إلى الإصلاحية أو كسره تمامًا فتوجه إلى السلبية والمصلحية الشخصية، إلا أن هناك نسبة ملحوظة تحولت من الإصلاحية إلى الثورية بغرض الثأر، تربو نسبة التحول إلى الثورية على التحول إلى الإصلاحية لكن عليّ أن أسجل أن حجم العينة كلها في هذا البحث صغير الحجم لا يكفي لقياس كامل لهذه الظاهرة وأنها تحتاج بحثًا أوسع.
خاتمة
لم تسفر ممارسة الدولة للعنف خارج إطار الشرعية في كبت المعارضة تمامًا ولا رضا أغلبية المعارضين بتسوية مجحفة كما افترضتُ وفق الملاحظات المبدأية في بداية البحث، لكن بالنظر إلى أن نتيجة البحث كانت متوازنة عدديًا بين مؤيدي المصالحة وبين رافضيها، وأن الممتنعين عن التصويت يمكن احتسابهم رافضين للمصالحة ذاتها لأن مبرراتهم تراوحت بين الشعور بالعار وبين تقديس حق أولياء دماء قتلى الأحداث.
وبالنظر إلى أن تغير الأيديولوجيا من الإصلاحية إلى الثورية أكثر خطرًا على استقرار المجتمع ونظام الحكم من النشأة ثوريًّا ابتداءً لأن التحول يحمل في طياته الثأر، والثأر يدفع للعنف أكثر من مجرد اعتناق فكرة جدوى العنف ذاتها.
وبالنظر إلى أن المتحولين من الثورية إلى الإصلاحية يتحولون في الحقيقة عمومًا من الإيجابية إلى السلبية، أي أنهم لن يكونوا حلفاءً أقوياءً للدولة في مواجهة زملائهم القدامى ولا مؤيدين حقيقيين لها.
أن استخدام عنف الدولة خارج إطار الشرعية لن يُسفر عن انتصار أجهزة الدولة في معركة الصراع على السلطة بل سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في النظام السياسي المصري
من هنا أستخلص أن استخدام عنف الدولة خارج إطار الشرعية لن يُسفر عن انتصار أجهزة الدولة في معركة الصراع على السلطة بل سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في النظام السياسي المصري، ومع الأخبار اليومية عن ظهور حركات مسلحة في مصر مثل حركة “حسم”، وتململ الناس بسبب انحدار الأحوال الاقتصادية، وخوف كبار رجالات مؤسسات الدولة على مناصبهم، وخوف الغرب على مصالحة، فإن حالة الصراع في مصر ربما تتغير لكن طبيعته لن تتغير.
الانحراف في استخدام الدولة لأدوات العنف والإكراه سيؤثر فقط في تسريع دورة انقلاب النظام المصري على نفسه فتنكمش من بضعة عقود سابقًا إلى بضع سنوات، بحيث ربما تشهد البلاد انقلابًا جديدًا قريبًا يأتي بحاكم عسكري آخر.
تدرك أجهزة الدولة هذا جيدًا وتتخذ الإجراءات المناسبة ضده ومنها مثلاً ترقية اللواء محمد أحمد زكي إلى رتبة فريق وهو قائد الحرس الجمهوري الذي أطاح بدكتور مرسي ولا يزال قائدًا للحرس الجمهوري في عهد المشير السيسي، في خطوة تشي بدور أكبر له في تأمين أجهزة الدولة بينما لا يحتاج منصب قائد الحرس الجمهوري عادة إلا رتبة عميد أو لواء على الأكثر [8].
ويصرح مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن ما جرى في يناير في أثناء إدارة أوباما قد تكافح إدارة ترامب حتى لا يتكرر هذه المرة فيسرد أحدث تقارير المركز تلك المقارنة قائلًا: “لا يوجد شك أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تقارب مصري أمريكي من خلال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسوف يتجاوز هذا التقارب حدود العلاقة المباشرة، سواء السياسية أو التجارية أو العسكرية، بين مصر والولايات المتحدة ليصل إلى نوع من التنسيق في الرؤي الإقليمية لمناطق الصراع في الشرق الأوسط”.
وهذا التقارب سوف يحمل في طياته تحولاً جوهريًا في السياسة الأمريكية الحاكمة للعلاقة مع مصر، خاصة في السنوات العشرة الأخيرة حين باتت قضية التحول الديمقراطي وقضايا الحريات وحقوق الإنسان أحد أهم أبعاد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وضغطت إدارة أوباما ومن قبلها إدارة بوش علي النظام السياسي في مصر لإجراء عدد من الإصلاحات الديمقراطية، وقد وصلت هذه الضغوط لذروتها بعد ثورة 25 من يناير في فترة تولي هيلاري كلينتون حقيبة الخارجية.
تدل المؤشرات المختلفة أن هذا البعد لن يكون بذات الأهمية التي أعطتها له إدارة الرئيس أوباما، وسوف تتفق رؤى كل من النظام السياسي المصري والولايات المتحدة حول كون الأمن ومكافحة الإرهاب هما الأساس المحوري للعلاقة وتفوق أولويتهم أي قضايا أو أبعاد أخرى، وهي السياسة التي يحاول نظام عبد الفتاح السيسي اتباعها في إدارة علاقاته مع الغرب بشكل عام، سواء في أوروبا أو في أمريكا.
كما أن المؤشرات تقول إن التوافق المصري الأمريكي في المرحلة المقبلة سيتخطى مرحلة التوافق السياسي ليصل لمرحلة التوافق العملي، بمعنى أن تتحول مصر لأحد آليات ترجمة وتنفيذ الرؤية الأمريكية في المنطقة نظرًا للتقارب الشديد في وجهات النظر والمصالح.
ولعل ما تم الكشف عنه في الأيام الماضية بشأن اتصال ترامب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإقناعه بسحب مشروع قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن، واستجابة مصر لهذا الطلب أحد أهم الدلائل علي حجم التوافق المستقبلي بين كل من مصر والولايات المتحدة” [9].
ربما ينجح النظام في عقد مصالحة وتسوية صورية مع قيادات صورية للمعارضة الصورية أيضًا بوسيلة أو بأخرى، لكن تبقى أنفاس الثورة تحت الرماد وتبقى مصر على قشرة بركان باردة تغلي من تحتها الحمم، ويستمر الثوري في ثوريته والإصلاحي في إصلاحيته وكذلك الدولتي في دولتيته إلى الأبد، حتى يتولد من تلك الضغوط ومن بين رحى هذا الحراك ما يغير طبيعة الإنسان والوضع المصري ليستقبل حلولاً أكثر نجاعة وفائدة من تلك الدائرة المفرغة، ولا يعني هنا إلا أن أعود فأنقل عن جمال حمدان خاتمةً لهذا البحث كان قد اختارها هو خاتمةً لفصل من كتابه شخصية مصر أسماه “مأساة الحل الوسط”، قال:
“من هنا فإن ما تحتاجه مصر أساسًا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة على نفسها أولًا، وعلى نفسيتها ثانيًا (تذكر الآية المباشرة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، مطلوب، يعني تغييرًا جذريًا في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها، فهذا لا يسبق ذلك، ولكنه يترتب عليه، ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر” [10].