ربما مرّ عليك منشورًا يذم في ما هو معروض في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي بدأ دورته السنوية خلال هذه الأيام، أو حتى غيره من المعارض الدولية مثل الموجودة في الكويت أو الرياض وعمّان وغيرها، فعلى الرغم من جودة التنظيم في عرض الكتب، وعلى الرغم من الطوابير المصطفة أمام بوابات الدخول لكثير من معارض الكتب في الدول العربية، والتي قد توهمك بأن المستوى الثقافي يفوق الوصف لكل الحاضرين، إلا أن الواقع يختلف تمامًا عن ذلك.
ليس كل ما هو سائد صحيح، وليس كل ما هو ممنوع مُجرِّم وخاطىء، ربما تنطبق تلك القاعدة على ما هو معروض الآن على رفوف دور النشر التي تعرض نوعًا من الأدب لم يكن موجودًا أو متعارف عليه قبل عشرة سنوات من الآن، يسيمه البعض الأدب الرديء، ويصفه الآخرون بأنه أدب هابط أو سخيف.
ليس علينا الإشارة بأصابع الاتهام تجاه الأدب السخيف أو الهابط فحسب، بل هو نتيجة لأسباب كثيرة أسهمت بشكل جذري في خلق تلك الظاهرة المتعارف عليها الآن بالأدب الرديء، حيث كان العالم العربي أرضًا خصبة لكل تلك الأسباب التي كانت طريقًا ممهدًا لظاهرة الأدب الهابط، يعد من بينها “السلع الاستهلاكية”، وتحول المجتمع إلى مجتمع مستهلك وليس منتج، وهذا لا يقتصر على الإنتاج المادي فحسب، ولا على استهلاك كل ما يستخدمه المرء استخدامًا ماديًا، بل يندرج تحته الأفكار والكتب والأفلام والأدب، فتحولت السينما إلى كيان مستَهلك كما تحولت الأدب كذلك.
غياب حرية التعبير خلق كتابًا على الفيسبوك
وسط الفوضى السياسية، ومع وعود الاقتصاد بعيدة المنال يبرع هناك كتابًا يستخدمون منصات الفيس بوك أو تويتر، الأمر ليس صعبًا، قم باختيار قضية تشغل الرأي العام، اختر عنوانًا جذابًا لفقرتك التي تود كتابة منشور عنها على الفيس بوك، أو تغريدة عنها في تويتر، ومن ثم إليك موضوع جذاب يأتيك الآلاف بعدها لمتابعته والإعجاب به، فربما تظن بعد نجاحه أنك كاتبًا بارعًا بالفعل، وتذهب لتأليف أول رواية لك بعد ذلك.
قام مصطلح “الأكثر مبيعًا” بخدمة النوع السابق من الكتاب كثيرًا، بل كان ذلك المصطلح من أكثر المصطلحات الدخيلة على الأدب وعلى دور النشر، فمن قبل كانت مهمة دور النشر هو عرض الكتب والروايات للمؤلفين المختلفين، وذلك من دون تصنيفهم للأكثر قراءة أو الأكثر مبيعًا، أو الأكثر طلبًا، إلا أن بوضع تلك اللافتة على عدد معين من الكتب، يجعل منها منتج استهلاكي بحت، ويجعل مزيدًا من الطلب عليها يقابله مزيدًا من العرض، إلا أنها في النهاية من الممكن جدًا ألا تتوافق في الجودة مع الكتب التي لم يتم اختيارها لتكون تحت لافتة الأكثر مبيعًا.
العيب مش عالناس اللي نزلت كتب في معرض الكتاب بالمحتوى البشع ده، العيب عاللي شايفين الكتب دي مصدر ثقافه وبيقروها وبيدفعوا فيها فلوس كمان.
— Amr Al-Hawary (@Al_Hawary74) January 31, 2017
نرى مؤخرًا ازدياد مبيعات الروايات التي يغلب على محتواها اللهجات العامية، والروايات التي تتخذ من الجنس وسيلة لزيادة رواج الرواية بين القراء فيجعل من فصول روايته عبارة عن مشاهد جنسية وكأنها رواية إباحية مغلفة بطابع أدبي وفكرة مقلدة، لا يعد استخدام العامية من الشيء المستحدث على فن الرواية، فنجيب محفوظ من أشهر الروائيين الذين يحبون المزج بين العربية الفصيحة وبين اللهجة العامية، إلا أن استخدام الأدب الهابط أو الأدب السخيف للعامية كان مختلفًا، فاختار منها ما هو مشهور الاستخدام على مواقع التواصل الاجتماعي وجعل منها قالبًا اعتمد فيه على تكوين النصوص والحوارات في الرواية.
فإذا كانت العشر الأواخر من يناير من كل عام، و كان معرض الكتاب، جاء رجل حكيم و كتب على سور المعرض
"Stop making stupid people famous"
— مُصْطَفىٰ (@MostafaIbrahim_) January 31, 2017
“توقفوا عن جعل الأغبياء مشاهيرًا”
يقال أن الكتابة موهبة وليست حكرًا على أحد، نعم، لا تكون الكتابة حكرًا على الكتاب، لأن الكتابة موهبة يستيطيع ترويضها الماهر من الكتاب، إلا أن مغني الراب لا يستطيع أن يؤلف رواية كما حدث في كتاب “حبيبتي” لمغني الراب المشهور زاب ثروت في مصر، حيث نال حفل توقيعه في معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي عشرات الآلاف من الحاضرين، وانتهى الأمر بجودة ضعيفة للكتاب بحسب رأي النقاد، وعدم ارتقائه لمستوى التأليف واعتماده على خواطر الكاتب ليس إلا.
انا بعد ماشفت الكلام دة انا هجمع التويتس اللي كتبتها وانزلها في معرض الكتاب السنة الجاية تحت مسمي"خمسة فرفشة ونعنشة" pic.twitter.com/jQUHIf7vAJ
— Moataz adel (@Moataz) January 31, 2017
استخدام العامية ليس سيئًا على الإطلاق، على الرغم من ظُلمه للغة الأصلية في الكتابة، وهي اللغة العربية الفصحى، إلا أنه استطاع وبجدارة جذب فئة من الجمهور غير القارئ ” أي غير المثقف” إلى نمط القراءة، على الرغم من سطحية النص أحيانًا وعدم ترابطه واستغلاله لوعي القارئ الهش، إلا أنه وسيلة يمكن إدراجها من الوسائل الناجحة لجذب جيل الهواتف الذكية إلى الكتب مرة أخرى.
الفنان السعودي ناصر القصبي ينتقد الأدب الهابط في كوميديا سوداء بمسلسله الأخير “سيلفي2”
“الحب اللى بجد هو اللي الدنيا عمالة تهيئك ليه من ساعة ما اتولدت، بكل حاجة وحشة وكل حاجة حلوة، بعلاقات بايظة وجراح ماتتنسيش، الحب بيبدأ بجد لما القلب يسأل سؤال صغير كده قوي بيفرق في كل حاجة، لما بيسأل هو أنا مش هرتاح بقى، الحب أصله استعداد نفسي، عشان كدة مرحلة البداية أهم مرحلة بكل اللخبطة اللى فيها لأنها هي اللي بيجي فيها لحظة معينة بنقدر نستسلم لأننا ممكن نتوجع تاني”
محمد صادق – هيبتا
كانت رواية هيبتا من الروايات البارزة التي احتلت الأكثر مبيعًا فترة طويلة عقب صدورها، وهي رواية للكاتب المصري “محمد صادق”، وتحولت فيما بعد لفيلم سينمائي لاقى نجاحًا وشهرة فاقت شهرة الرواية، أراد الكاتب فيها عرض فكرة الحب، إلا أنه رغم رسمه لشخصية المُحاضِر الذي يعقد محاضرة عن الحب في إحدى الجامعات بشخصية الواعظ الحكيم، من يعرف خبايا الحب وألعايبه، ويحاول فك شفراته وسد ثغراته.
و لكن إذا تناولنا نص الرواية بشكل موضوعي وحللنا تفاصيلها كذلك، سنجد أن الفكرة التي عرضها الكاتب عن الحب لم تكن إلا من وجهة نظر مراهقة لا أكثر، وهو ليس أمرًا يحكم على الرواية بالفشل، لكنه ينقد الرواية التي تحوّلت إلى ظاهرة بين شريحة الشباب في المجتمع المصري، استغل فيها الكاتب الوعي الهش لدى تلك الشريحة من الجمهور، وقدّم لهم أربع قصص من الرومانسية التي يتوقون إليها، والمغامرات التي يتمنون أن يعيشوها.
ربما لا يعتبر مثل هذه الكتب إلا مثالًا لتحول مستخدمي منصاب مواقع التواصل الاجتماعي لكتابًا يروجون لأنفسهم على تلك المواقع، مستخدمين منشوراتهم وتغريداتهم مادة خام للنشر وتأليف الكتب والروايات، ليظن من يقرأها بأنه صار من فئة القراء والمثقفين، فكان اللوم على الأديب السخيف وعلى القارىء الذي يعتبر السخافة ثقافة.