أضاءت تونس حجرة الابتكار في العالم العربي المظلمة، باختيارها ضمن أكثر 50 دولة مبتكرة حسب نتائج مؤشر بلومبرغ للابتكار لعام 2017، والتي نُشِرت في واشنطن؛ وجاءت تونس في المركز 46 بمعدل 46,79 من 100، متقدِّمةً بمرتبةٍ واحدة مقارنةً بالعام الماضي.
ووفقاً لهذه الدراسة، فإن تونس على رأس قائمة الدول العربية والأفريقية، متبوعةً بالمغرب الذي جاء في المرتبة الـ50 ضمن 78 دولة، بحسب النسخة المغاربية من “هافينغتون بوست“.
ويتمحور هذا المؤشر الذي يقيس تأثير الابتكار على اقتصاد كل بلد، حول 7 معايير أساسيَّة، وهي: البحث والتطوير، والقيمة المضافة للصناعة التحويلية، والإنتاجية، وكثافة التكنولوجيا العالية، وفعالية القطاع الثالث، وتركيز الباحثين وعدد براءات الاختراع.
وحسب هذه الدراسة، فإن كوريا الجنوبية، والسويد، وألمانيا هي الدول الأكثر ابتكاراً.
اختراع الصفر
أشتهر العرب في فترة من الفترات، بالعلوم والرياضيات (بما في ذلك اختراع الصفر)، ولكنها، مع ذلك، سقطت بشكل سيئ خلف تدابير الإبداع الحالية، مثل نشر براءات الاختراع أو الأوراق الأكاديمية على مستوى العالم.
وفي حين أن حكام المنطقة يقولون إنهم يريدون تشجيع المزيد من البحث العلمي والتطوير، إلا أن قلة منهم هم من يحاولون بجد تحقيق ذلك.
بواقع الحال، تنتج الدول العربية 5.9 % من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن حكومات المنطقة يشكلون من يقل عن 1 % من الإنفاق الإجمالي العالمي على الأبحاث والتنمية، وفقاً للـ”يونيسكو”. حيث تنفق البحرين 0.04 % فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الأبحاث والتنمية، بينما تنفق مصر 0.7 % ليس إلا على الأمور نفسها هي الأخرى. وفي المقابل، تنفق الهند 0.8 % وبريطانيا 1.6 % على التوالي.
وللأسف، يضيع الكثير من هذا الإنفاق. ففي مصر، لا يتحدث مسؤولو الحكومة والعلماء كثيراً مع بضعهما البعض، لذلك ليس تخصيص الأموال بالمجدي والهادف، كما وليست الحوافز موجهة جيداً هي الأخرى. أما بخصوص ترقيات الأساتذة، فهي تعتمد على ما يعرفونه أكثر مما يكتشفونه.
ومع ذلك، يكمن العجز الأكبر في أن الشركات الخاصة بالكاد تنفق على الأبحاث والتنمية، وهي التي تمثل جزءاً كبيراً من الأرباح والإيرادات في مناطق أخرى، وفقاً لنزار حسن من الـ”يونسكو”.
وعلى سبيل المثال، تنفق الشركات الصينية أكثر من أربعة أضعاف ما تنفقه حكومتها، والأميركية أكثر من مرتين ونصف ما تنفقه حكومتها، على الأبحاث وسبل التنمية. وعلى النقيض من ذلك، وفي جزء كبير من العالم العربي، يساهم القطاع الخاص بما يقل عن 5%.
من جهتها، تعتقد العالمة الأردنية، رنا الدجاني، أن أكبر المشاكل هي “الافتقار إلى البيئة التي تشجع حرية الفكر والاستكشاف”. فالمدارس تركز على آلية التعليم بالحفظ، بينما يخنق الحكام النقاش السياسي.
وتصطدم الكثير من مجالات البحث بالسياسة القمعية. ويعتبر مجال الطب أحد المجالات المثيرة للجدل، لاسيما فيما يخص الأبحاث التي تنطوي على الأجنة. وعلى الرغم من ذلك، ليست هذه العوائق مستعصية الحل.
وعقب سنوات من التشاور مع العلماء ورجال الدين، أقر الأردن قانوناً في العام 2014 يسمح البحث في مجال الخلايا الجذعية. وكان من بين أحكامه أن الأجنة يمكن أن تؤخذ فقط من الحيوانات المنوية وبويضة للمتزوجين. ولتبديد مخاوف أن يؤدي ذلك إلى الإجهاض (الأمر المحظور في المملكة)، تسمح حكومة البلاد لمؤسسات الدولة فقط بإجراء مثل هذه الأبحاث.
يفتقد الابتكار في عالمنا العربي الاهتمام والرعاية التي تنهض به ليصبح منافس قوي في المحافل الدولية، فالعرب اخترعوا الصفر وناموا بسبات عميق بجانبه ولن يتقدموا إلا قليلا
وتحرز دول أخرى التقدم على صعيد مشابه، حيث ساعدت مجمعات التكنولوجيا والحاضنات في المغرب الدولة على أن تصبح المُصدِّر العربي الرائد للمنتجات التقنية المتقدمة والبرمجيات. وهي تأتي في المركز الثاني عربياً على صعيد الدول صاحبة أكبر عدد براءات اختراع، بعد مصر، رغم أن تعدادها السكاني يصغر كثيراً الأخيرة.
وفي سياق متصل، يحاول المبتكرون في القطاع الخاص ما بوسعهم في تطوير التكنولوجيات، حتى وإن كانوا يستخدمون المنافذ منخفضة المخاطر مثل البيع بالتجزئة على الإنترنت أو تطوير النُسخ العربية من التطبيقات المستحدثة في أماكن أخرى. وعلى سبيل المثال هنا، “كريم” هو النسخة السعودية من “أوبر”، التطبيق الأميركي المختص بالسيارات.
مستوى مروع
ونحو هذا الصدد رأى تقرير للأمم المتحدة صدر في نوفمبر 2009 أنّ ثلث العرب من الأميين ويتمّ إنفاق 10 دولارات فقط على البحث العلمي للشخص الواحد.
وقال التقرير الجديد للأمم المتحدة في هذا الصدد أنّ مستوى التعليم والبحث والابتكار في العالم العربي مروّع.
التقرير الذي صدر كجزء من شراكة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ودولة الامارات العربية المتحدة ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وجد أنه على الرغم من جهود العلماء والباحثين في جميع أنحاء المنطقة، لا يشكل العالم العربي سوى 1.1 ٪ من المنشورات العلميّة العالميّة، وقد أدّى انخفاض مستوى الاستثمار في مجال البحث إلى مستويات منخفضة نسبياً من الابتكار في جميع أنحاء العالم العربي.
وبدراسة لعدد من الجوانب “لمستوى المعرفة الحالي على الساحة العربية”، أعرب التقرير عن “قلقه العميق إزاء حالة التعليم في العالم العربي”، مع ما يزيد عن ثلث السكان البالغين غير القادرين على القراءة أو الكتابة، إضافة إلى التناقضات التعليمية الرئيسة بين الذكور والإناث.
وخلص التقرير إلى أنه على الرغم من أنّه على مدى السنوات الـ 40 الماضية، تمّ إنفاق 20 ٪ من الميزانيات الوطنية في العالم العربي على التعليم، يبقى متوسط الفرد العربي الذي يجيد القراءة ضئيل جداً بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، إذ أنّ حوالي 60 مليون من العرب أميون، وثلثهم من النساء.
ويتوقّع أن يتوافق عدد قليل من الدول العربية مع هدف توفير التعليم الابتدائي لمنظمة الأمم المتحدة للأهداف الإنمائية للألفية وذلك لأنّ تسعة ملايين طفل في سن دخول المدرسة الابتدائية لا يذهبون إلى المدارس في العالم العربي.
والانتقاد الأعنف الذي ورد في التقرير كان لنقص الاستثمارات مجال البحث الأكاديمي والعلمي، الأمر الذي يعيق قدرة الدول العربية على التماشي مع الوفاء المستويات التعليميّة والتقنية العالمية العالية. وخلص التقرير إلى أن الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي لا يتجاوز 0.3 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الدول ويعتمد 97 ٪ منه على التمويل الحكومي.
كسرت تونس حاجز الظلام باختيارها ضمن أكثر 50 دولة مبتكرة حسب نتائج مؤشر بلومبرغ للابتكار لعام 2017
غير أنّه ظهر أنّ دول مثل فنلندا تنفق كل سنة ما يزيد عن 1000 دولار للشخص الواحد في مجال البحث العلمي، فيما يتّم إنفاق أقل من 10 دولارت للشخص الواحد سنوياً في العالم العربي. ونتيجة لذلك، فإن عدد براءات الاختراع المسجلة للمؤسسات الوطنية العربية لا يتخطّى الحد الأدنى ويحصى العلماء والباحثين العرب بنسبة 1.1 ٪ من النشر العلمي العالمي.
ومن جانبه صرّح الدكتور غسان الخطيب، نائب الرئيس للشؤون المجتمعية في جامعة بيرزيت في الأراضي الفلسطينية لوسائل الإعلام. وأضاف: “هناك علاقة مباشرة بين نقص الاستثمارات والوضع الإشكالي المتعلّق بالمعرفة”.
وتابع قائلاً: “إنّ الأمر بمجمله متعلّق بالسياسة، إذ أنّ غياب الديمقراطية وانعدام المعرفة يعززان كل منهما الآخر: فالافتقار إلى التعليم يساهم في انعدام الديمقراطية ويسمح للحاكم أن يبقى حاكماً رغم إرادة الشعب. إذاً، فإن حقيقة غياب الديمقراطية في العالم العربي يعني أن هناك حوافز أقل بين الحكام للاستثمار الفعلي في المعرفة والأمور التي لها تأثير إيجابي على الشعب الذي سينتخبهم “.
وأضاف: “عندما توجد حلقات مفرغة علينا العمل في مجالي التعليم والديمقراطية معاُ”.
كما انتقد التقرير نوعية التعليم الجامعي، وذلك بسبب عدم التركيز على تكنولوجيات الاتصال الحديثة والعلوم المتخصصة. ونتيجة لذلك، كتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في بيان له “تفتقر المنطقة إلى كتلة من المهنيين ذوي المهارات العالية، يتمتّعون بالقدرة على الابتكار وتلبية احتياجات السوق”.
ومع ذلك، أشاد التقرير بما يسمّى “النمو الهائل في استخدام شبكة الانترنت”، وخصوصاً في منطقة الخليج. حث أنّ اللغة العربية هي الأسرع نمواً في لائحة اللغات العشرة الأكثر استخداماً على الانترنت بحوالي 60 مليون مستخدم ناطق باللغة العربية.
ويصف التقرير تقدّم الدول العربية في الأداء التكنولوجي العام الماضي بأنه “يفوق أي منطقة أخرى من العالم. ولكن التقرير يحذر رغم ذلك أنّه خارج منطقة الخليج تبقى معدلات استخدام الإنترنت في العالم العربي أقل من المعدل العالمي الذي يبلغ 21 ٪ من السكان.
نجاح جزئي
ومن جانبها قالت منى البحار، عالمة اجتماع ومستشارة تنفيذية في البرنامج الاجتماعي لمؤسسة الإمارات، أنّ مجموعة متنوعة من العوامل في دول الخليج قد ساهمت بالنجاح النسبي مقارنة ببقية العالم العربي: ” صحيح أنّ هناك نقص في الاستثمار والبحث، ولكن منطقة الخليج شهدت نجاحاً جزئيّاً نتيجة استقرار البلاد، ويعود ذلك إلى رؤية الحكومات وإلى عائدات النفط ومدى توافر الموارد.
فقد تم جلب الناس من جميع أنحاء العالم لإثراء إنتاجية البلد وقد درس الكثير من مواطني الخليج في الغرب، لذلك فإن المعايير البحثية مرتفعة جداً بالمقارنة مع بلدان أخرى في العالم العربي”.
ولكن الدكتورة ريما الصبان، عالمة اجتماع في جامعة زايد في الإماراتيّة، أشارت إلى أنّ مطالبات دول الخليج بالنمو في مجال البحث والتطوير مصطنعة إلى حد ما.
وأضافت: “نحن نعلم جميعاً أنّ العالم العربي لا يزال متخلّفاً في مجال التعليم والمعرفة، لذلك من الجيد أن يستمر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتسليط الضوء على هذه القضايا. ولكن للأسف، في مناطق كمنطقة الخليج حيث نشهد تزايد الاهتمام على الإنفاق على الأبحاث، ما يحدث فعلاً هو أن الكثير من هذه الأموال تذهب للأجانب. أي أنّهم لا ينفقون المال على السكان الأصليين بل على الأجانب الذين يجرون أبحاثاً في المنطقة لمجرد رفع الأرقام. إذاً نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر حرصاً على المكان الذي تذهب إليه تلك الأموال.”
نبيل الدجاني، رئيس قسم العلوم السلوكية والاجتماعية في الجامعة الأميركية في بيروت، اتّفق مع انتقادات الدكتورة الصبان ورفض توقعات التقرير، قائلاً أنّه يعطي تحليلاً امبريالياً.
“أنا لا أتفق على الإطلاق، لا مع تشخيصهم للمشكلة، ولا مع الحلول المقترحة. فالتقرير ينظر وكأنّها مخلوق فضائي غريب سقط على هذا الجزء من العالم، وذلك باستخدام المدرسة الاستعمارية القديمة في التفكير بالطريقة الوحيدة التي تعرّف التنمية من الناحية الاقتصادية أو المادية”.
وأضاف: “هناك أمثلة كثيرة، منها أنّهم يقولون أنّه من الجيد للغرب أن يهاجروا إلى العالم العربي، بينما يهاجر العرب إلى الغرب لاكتساب المهارات وإرسال الأموال. وأنا أرى أنّ هذه رؤية غير منطقيّة. فلا يمكن النظر إلى التنمية فقط من المنظار المادّي”.