تواصل المؤسسة الإسرائيلية بمختلف أذرعها فرض سياسة الأمر الواقع في القدس المحتلة والبلدة القديمة وتخوم المسجد الأقصى، وذلك من خلال تسريع تحريك وتيرة المشاريع التهويدية والاستيطانية مقابل مواصلة مخططات التهجير والتشريد للفلسطينيين لتفريغ المدينة من أصحابها الأصليين ومصادرة أراضيهم وتحويلها إلى مناطق خضراء، تمهيدًا لتوظيفها للتهويد والاستيطان، ولعل أبرز المشاريع في هذه المرحلة إقامة الحدائق التوراتية بتخوم القدس القديمة وعلى أسوار البلدة القديمة وساحات الحرم.
تعتمد سلطات الاحتلال وسيلة تحويل الأراضي الفلسطينية المقدسية الى أراضٍ خضراء يطلق عليها اسم “الحدائق الوطنية”، لكنها في الحقيقة حدائق توراتية/تلمودية – كما أشارت حيثيات الخرائط والوثائق -، فقد رصدت خلال السنوات الأخيرة سبع حدائق توراتية حول المسجد الأقصى والبلدة القديمة بالقدس المحتلة، تصل مساحاتها الإجمالية إلى 2680 دونمًا.
تتضمن مشاريع الحدائق التوراتية مشاريع استيطانية تهويدية، تهدف أولًا إلى مصادرة الأرض ووقف التمدد السكاني للمقدسيين، ومن جهة أخرى تحويلها إلى مراكز ومحطات رئيسية لتمرير الرواية التلمودية للإسرائيليين والسياح الأجانب، وتجذير التراث اليهودي عند الأجيال الإسرائيلية – بحسب قولهم – إضافة إلى أن مثل هذه المخططات تؤسس أرضية وإمكانية للتهجير الجماعي للمقدسيين، ومخططات التطهير العرقي.
إلى جانب ذلك لا يمكن إغفال المشاريع الاستيطانية التي تطال الضفة الغربية والقدس المحتلة، فعام 2022 يوصف بأنه الأشرس، فيما يعتبر العام الحاليّ 2023 امتدادًا للشراسة الاستيطانية في ظل عهد حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية اليمينية المتطرفة.
بحسب معطيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بلغ عدد المستوطنين في مستوطنات الضفة بما فيها القدس 726 ألف و427 مستوطنًا موزعين على 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية (غير مرخصة)، منها 86 بؤرة رعوية زراعية حتى بداية 2023.
في عام 2022، أقام المستوطنون 12 بؤرة استيطانية في محافظات الضفة الغربية، بينما تمت شرعنة بؤرتين استيطانيتين: الأولى متسبيه داني على أراضي بلدة دير دبوان، والثانية متسبيه كراميم على أراضي دير جرير شرقي رام الله، فيما تعتزم حكومة الاحتلال الإسرائيلي شرعنة 65 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية، وتوصيلها بالمياه والكهرباء والبنية التحتية الخلوية، وتعزيزها بتدابير أمنية.
من أبرز المستوطنات بالضفة الغربية معاليه أدوميم إلى الشرق من رام الله، وتعد أكبر التجمعات الاستيطانية، يليها تجمع غوش عتسيون بين محافظات القدس والخليل وبيت لحم، وثالثها أصبع أرئيل الاستيطاني شمالي الضفة، فيما تشير المعطيات إلى أن سلطات الاحتلال صادقت أيضًا على 83 مخططًا هيكليًا وتفصيليًا في الضفة الغربية والقدس، تقضي ببناء أكثر من 8288 وحدة سكنية جديدة.
فكرة الحدائق التوراتية.. تاريخ انطلاقها
انطلقت فكرة الحدائق التوراتية مع بدايات الاحتلال الإسرائيلي لشرقي القدس، وتحديدًا عام 1970، لكنها توسعت وتصاعدت في العشر سنوات الأخيرة، حيث تركزت هذه الحدائق في المحيط الملاصق للمسجد الأقصى وسور القدس التاريخي، ومن ثم المحيط الأوسع حول القدس القديمة والمناطق المطلة عليها، خاصة من الجهات الجنوبية والشرقية والشمالية، في حين تشكل مناطق غرب القدس نطاقًا واسعًا يحاصر القدس القديمة على امتداد الجهة والمساحات الغربية.
عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبلدية الاحتلال على رصد مبالغ طائلة لتنفيذ مخططاتها ضمن هذه الحدائق التوراتية، إلا أنه منذ العام 2005 وصاعدًا لوحظ اهتمام أكبر، بحيث خصصت ميزانيات أكبر لهذا الملف.
ون بين ما رصدته الحكومات الإسرائيلية لهذا الشأن مبلغ نصف مليار شيكل ما بين الأعوام 2005-2013، أضافت إليه ميزانية خاصة قدرها 350 مليون شيكل في عام 2012، ناهيك بالميزانيات العادية.
علاوة على ذلك فإن هناك تكامل توزيع وتكامل أدوار في الأذرع التنفيذية لتحقيق مخططات الاحتلال، حيث يبرز مثلًا دور جمعية “إلعاد” الاستيطانية، كما تنسب وتدار كثير من المخططات ضمن ما يسمى بـ”سلطة الطبيعة والحدائق العامة”، وكذلك بلدية الاحتلال في القدس، بالإضافة إلى شركة تطوير القدس، الأمر الذي يعطي حيزًا وإمكانات هائلة لمتابعة وتنفيذ هذه المخططات.
يظهر هذا الأمر محاولات الاحتلال تغيير الواقع القائم في مدينة القدس المحتلة بشتى السبل والوسائل تحت غطاءات بعضها استيطاني وآخر توراتي/تلمودي في محاولة لنسف الطابع الإسلامي عن المدينة وفي بعض الأحيان يطال بعض المناطق المسيحية.
ويستهدف الاحتلال من خلال هذه الموازنات إضفاء طابع يهودي بحت على المدينة في ضوء صمت عربي وإسلامي وضعف التحركات الفلسطينية الرسمية لا سيما من السلطة الفلسطينية التي تكتفي بتعيين محافظ للقدس ووزير شؤون القدس دون أي مشاريع أو صلاحيات حقيقية.
أبرز الحدائق التوراتية
يرصد “نون بوست” في هذا التقرير أبرز الحدائق التلمودية المحيطة بمدينة القدس المحتلة التي تم تأسيسها خلال العقود القليلة الماضية التي احتلت خلالها الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وجزء من لبنان وشبه جزيرة سيناء عام 1967 فيما عرفت بـ”النكسة” آنذاك.
الحديقة التلمودية المحيطة بالقدس القديمة (1100 دونم)
تعتبر الحديقة التلمودية التي أعلن عنها الاحتلال الإسرائيلي، كجزء من مخطط تهويد محيط البلدة القديمة حمل اسم مخطط ع م/9، وصودق على هذه الحديقة التوراتية عام 1974 لكنها ظلت تستعمل كأساس ومنطلق لأكبر المشاريع التهويدية حول الأقصى والقدس القديمة، وهي الحديقة الأكبر والأكثر خطورة على المسجد الأقصى والقدس القديمة ومحيطها الملاصق.
تصل مساحة هذه الحديقة إلى نحو 1100 دونم، تتركز جنوبي المسجد الأقصى في منطقة حي وادي حلوة/سلوان، ومنطقة وادي الربابة جنوب غرب أسوار القدس القديمة، جزء منها في بلدة سلوان، وكذلك المنطقة الملاصقة لجنوب المسجد الأقصى أو ما يعرف بمنطقة قصور الخلافة الأموية.
تمتد كذلك شرقي المسجد الأقصى، من ضمنها جزء من مقبرة باب الرحمة، وكذلك في منطقة حيز وادي الجوز الشرقي أو ما يسمى بمنطقة وادي النار الشرقي، في حين تغطي مساحات على قطاع ضيق على طول السور التاريخي للقدس القديمة من الجهة الشمالية والشمالية الغربية، على امتداد المنطقة الواقعة من باب النبي داوود وباب الخليل، وصولًا إلى باب العامود، وانتهاءً بباب الساهرة والزاوية الشرقية الشمالية للسور التاريخي، قرب المقبرة اليوسفية.
نُفذت في هذه الحديقة وما زالت، أكبر الحفريات الإسرائيلية كالحفريات في منطقة القصور الأموية الجنوبية والغربية، والحفريات في مدخل حي وادي حلوة وهضبة سلوان، وتضم أكبر المشاريع التهويدية مثل “مركز ديفسون” ومخطط “مركز قيدم- الهيكل التوراتي”.
تشمل هذه المساحة بيوت سكنية مأهولة بالمقدسيين، أغلبها مهدد بالهدم أو التفريغ والتهجير، كما تدير أغلب المساحات المذكورة الجمعية الاستيطانية المعروفة باسم “إلعاد – إلى مدينة داوود”.
الحديقة التلمودية وادي الصوانة (170 دونمًا)
هي ثاني حديقة صادق عليها رسميًا الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وتمتد على مساحة نحو 170 دونمًا على السفوح الجنوبية لجبل المشارف، بمحاذاة حي الصوانة وحي وادي الجوز، ويهدف الاحتلال من هذه الحديقة إلى تشبيك وتوصيل هذه المساحة مع الحديقة التوراتية المحيطة بالقدس القديمة.
بنى الاحتلال في هذه الحديقة السواتر والسلاسل الحجرية والترابية، كما زرع الشجيرات وخاصة الزيتون، وشق السبل واستعملها كجزء من المسارات التلمودية حول القدس القديمة والأقصى.
ويخطط الآن إلى إنشاء بركة مياه ومركز زوار في جزء من مساحتها، كما أقام في جزء منها مشروعًا أطلق عليه (مشروع غربلة تراب “جبل الهيكل” – المسمى الاحتلالي الباطل للمسجد الأقصى)، ويقوم من خلاله بغربلة التراب الذي استخرج من المسجد الأقصى خلال عمليات ترميم منطقة المصلى المرواني، ويحاول الاحتلال إيجاد آثار عبرية فيه.
الحديقة التلمودية السفوح الشمالية الشرقية لجبل المشارف-العيسوية/الطور (730 دونمًا)
بدأ التخطيط لإقامة هذه الحديقة عام 2005، حيث مرت بعدة مراحل من المصادقة كان آخرها في العام 2013، وهي الآن في المراحل الأخيرة للمصادقة النهائية عليها، وتهدف هي الأخرى لإيجاد تواصل مع حديقة وادي الصوانة أيضًا.
وتمتد الحديقة على مساحة نحو 730 دونمًا على السفوح الشمالية الشرقية لجبل المشارف، على تخوم بلدتي العيسوية والطور، في حين تقتطع جزءًا من أراضي البلدتين وتشكل نوعًا من الحصار المشدد لأي إمكانية للتمدد السكاني الضروري.
“حديقة الملك” التلمودية – حي البستان/وسط سلوان (50 دونمًا)
يخطط الاحتلال لإقامتها على مسطح مساحته 50 دونمًا في وسط بلدة سلوان، جنوب الأقصى، وتحديدًا في حي البستان المأهول بالسكان، وفيه أكثر من 90 بيتًا مهددًا بالهدم.
يهدف الاحتلال إلى تحويل الموقع إلى منطقة سياحية/تراثية ترتبط بالروايات التلمودية عن النبي داوود، وإلى ربط الموقع بالأنفاق والحفريات الممتدة أسفل بلدة سلوان، الواصلة إلى أسفل المسجد الأقصى.
حديقة جبل الزيتون (470 دونمًا)
تأتي حديقة جبل الزيتون ضمن مخططات الخريطة الهيكلية لبلدية الاحتلال في القدس المعروفة باسم “مخطط 2000″، وتمتد على مساحة 470 دونمًا على السفوح الشرقية لجبل الزيتون، ومتاخمة لحي الشياح وبلدة الطور.
موقع الحديقة قريب جدًا من جهتي الحديقة التوراتية حول القدس القديمة وحديقة وادي الصوانة، كما أنها ملاصقة للوقف الإسلامي على السفوح الغربية لجبل الطور/الزيتون، التي حولها الاحتلال في أغلبها إلى مقبرة يهودية كبيرة جدًا.
حديقة “شمعون هتصديق” – الشيخ جراح (120 دونمًا)
تقع حديقة “شمعون هتصديق” في قلب حي الشيخ جراح المقدسي، شمال القدس القديمة، المجاور لحي وادي الجوز وأطراف الموقع قريبة من سفوح جبل الزيتون وحي الصوانة، ومن ضمن مساحته “كرم المفتي” الذي صادره الاحتلال، ومن المخطط إقامة مشاريع تهويدية في أجزاء من المساحة المذكورة.
حديقة “باب الساهرة” (40 دونمًا)
موقع حديقة “باب الساهرة” قريب من باب الساهرة أحد أبواب البلدة القديمة في القدس المحتلة، من الجهة الشمالية، وتشمل المساحة موقع المتحف الفلسطيني الوطني الذي سيطر عليه الاحتلال عام 1967، وحوله إلى متحف لما يسمى بـ”سلطة الآثار الإسرائيلية” ويُطلق عليه اليوم اسم “متحف روكفلر”، والموقع ملاصق لحي وادي الجوز أيضًا.
ثلاث حدائق أخري في أطراف القدس
سيطر الاحتلال على مساحات واسعة من عموم مدينة القدس وأقام عليها حدائق لذات الهدف، من أهمها ثلاث حدائق: حديقة النبي صموئيل جنوب غرب مدينة القدس على مساحة نحو 3500 دونم، من ضمنها أراضي ومسجد قرية برج النواطير “النبي صموئيل” وحديقة “لفتا” التي تقع على مساحة نحو 80 دونمًا، على حساب أراضي قرية لفتا المهجرة عام 1948م، وثالثها حديقة “وادي رفائيم – الولجة”، بمساحة نحو 1400 دونم مقتطعة من أراضي قرية الولجة، على حدود بيت جالة، وبالقرب من مستوطنة “جيلو”.
الآثار والتداعيات.. مخاطر الحدائق التلمودية
يتضح من خلال التسارع في ضم الأراضي وتحويلها إلى حدائق السعي الإسرائيلي لتكريس أنها أراضٍ دينية وادعاء أن داوود وسليمان عليهما السلام سارا فيها وعزف فيها داوود مزاميره، وبالتالي ركز الجانب الإسرائيلي على بناء الحدائق التوراتية المقدسة فيها، والاهتمام بقبور الأنبياء فيها والسيطرة عليها.
يتضح من ذلك أن هذه الحدائق دليل على استخدام الدين في السياسية، فـ”إسرائيل” تحاول وضع القالب الديني للحصول على مكاسب سياسية في الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من مدينة القدس التاريخية، إلى جانب أن هذه السياسة ليست عفوية وإنّما هي استكمال لكل المخططات والخطوات التي نفذتها وما زالت تنفذها سلطات الاحتلال في سبيل تهويد القدس وتهجير المقدسيين.
تظهر هذه المشاريع أيضًا السعي إلى مصادرة ما تبقى من أراضي القدس لإقامة هذه الحدائق، وأن فكرة الحدائق فكرة مطاطة تستطيع سلطات الاحتلال من خلالها السيطرة على ما تشاء من الأرض وتوسيعها كيفما تشاء ومتى تشاء، فمن خلال هذه الحدائق تتمكن سلطات الاحتلال من فصل ضواحي القدس العربية عن البلدة القديمة والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، إضافة إلى تقطيع أوصال الضواحي وعزلها عن بعضها البعض، ومحاصرة هذه الضواحي ومنعها من التوسع لعدم الإبقاء على الأراضي اللازمة لذلك.