شهد مفهوم المجتمع المدني تحولات كبيرة منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ففيما اعتبره ماركس ساحة للصراع الطبقي بأشكاله كافة (السياسية والاقتصادية والثقافية والإيديولوجية)، جاء الفيلسوف الإيطالي غرامشي ليعيد هذا المفهوم إلى الحيز الثقافي الأيديولوجي، حيث يحتوي المجتمع المدني عنده على العلاقات الثقافية الأيديولوجية ويضم كل النشاط الروحي ـ العقلي.
ومع اختلاف تعريفات المجتمع المدني اليوم التي تهتم بها مراكز الأبحاث المختلفة، فإنها تتفق بمعظمها على أنه مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وهي بالطبع لا تتبع للهيكلية الحكومية، ويقوم عليها أفراد متطوعون خدمة للمجتمع وتنمية له.
وبينما يدخل في تكوين المجتمع النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية والحركات الاجتماعية والتعاونية والدفاعية والتنموية، فإن مجتمعاتنا العربية، ومنها السورية، قد عانت ولفترات طويلة من فرط التسيس وسيطرة الدولة الاستبدادية وتدخلها في عمل منظمات المجتمع، حتى أحالتها لواجهات ممسوخة لا يكاد يكون لها أثر على الأرض، مما أفقد المواطنين الرغبة في العمل المجتمعي، وأفقد الباحثين أيضًا، القدرة على التحديد الصحيح والتعريف المطابق للواقع لمفهوم المجتمع المدني الذي نحتاجه في بلادنا.
قضية الوعي ليست قضية فكرية بحثية فقط، بل تجليات على أرض الواقع، تعكس تمامًا مدى استيعاب الشعوب والمجتمعات لمجريات الأمور ولحقيقتها
وظهر خلال ثورات الربيع العربي أن كثيرًا من مثقفينا قد أصابتهم الصدمة من الطريقة التي اندلعت بها هذه الثورات رغم أنهم كانوا يعيبون على المجتمع سباته ويكيلون له الشتائم التي يتفنون بتدبيجها في مقالاتهم، فما كان منهم إلا أن تحولوا للمديح بشكل مبالغ فيه في أحيانٍ كثيرة، للشباب الثائر الذي انتفض طلبًا للحرية والكرامة.
وكان أكثر ما نال ثناءهم ومدحهم أن هذا الشباب الثائر غير مسلح بفكر نضالي أو أيديولوجي ولا يخضع لأحزاب أو منظمات تقوده وتنظم عمله وتحدد أهدافه، فوصفوا الثورات بالعفوية والشبابية وغير المؤدلجة، إلخ، وكأن في هذا ميزة تستحق الثناء وليست ناقوس خطر يدق محذرًا من سيطرة جهل قد يسرق من الشباب كل ما قدموه من تضحيات في سبيل تحقيق أهداف ثورتهم التي سقوها من دمائهم، ويحتم على هؤلاء المثقفين السعي لترشيد تلك الثورات والوقوف خلف الشباب، وتقديم إجابات على أسئلة راحت تتوسع يومًا بعد يومٍ حتى أدخلت الجميع في تيه فكري خلط الحابل بالنابل.
وفي سورية وبعد سنوات من التضحيات الجسام التي قدمها شعب طالب بالحرية والكرامة والتخلص من الاستبداد، اختلطت المفاهيم، وتداخل المدني مع العسكري، وغاب مفهوم الدولة والوطن والمواطن، بصورة أفقدت الثورة السورية كثيرًا من المكتسبات التي كان من الممكن تحقيقها فيما لو تم التمييز الصحيح بين الجانبين، وفيما لو تم التكامل بينهما، لا كما حدث من تغول للجانب العسكري على المدني واقعًا، حتى أحاله واجهة استعراضية لم تستطع تقديم نموذج بديل عن دولة استبدادية فاشلة أقامها نظام الأسد في سورية عن طريق البطش والتنكيل والتخويف.
إن الوعي ضرورة لازمة لنجاح أي مجتمع يسعى نحو الفاعلية، بعيدًا عن الاستبداد المعيق لكل تطور ونهضة، لذا فإن العمل على ترسيخ مفهوم المجتمع المدني الصحيح في مجتمعاتنا، من أجل تفعيل القوى الكامنة أمر لا بد منه ولا يمكننا التغاضي عنه.
كما أن الفقر في الأبحاث التي تبين موقع الدولة ووظائفها وعلاقتها بالمجتمع المدني، وتحديد دور كل منهما في إطار تكاملي وليس إقصائيًا، أمر لافت لم يتم تداركه حتى الآن، إننا بحاجة لأبحاث ودراسات تهتم بتحديد وتوضيح معاني الحرية والديمقراطية والتعددية والمشاركة والتنظيم المجتمعي المدني القادر على تحقيق فاعلية ملموسة على الأرض بما ينعكس على الواقع العملي المنشود ويحقق الأهداف المرجوة من الثورة، مع الانتباه والاهتمام بخصائص المجتمع وهويته التي تبلور المفهوم الصحيح للمجتمع المدني الذي يتوافق مع ثقافتنا وقيمنا ولا يكون نسخة مقلدة عن نماذج مجتمعية محددة، تختلف اختلافًا جذريًا عن مجتمعاتنا ويكون في تعميمها وتقليدها إعاقة لدور المجتمع المدني الخاص بنا والمميز لنا.
سنوات مرّت أشعل فيها النظام وحلفاؤه حربًا انتقامية ضد كل من يطالب بالحرية ونبذ الاستبداد، وقسّم البلاد إلى محورين: معه (وطني) أو ضده (إرهابي)، مما أوقع السوريين في أزمة، لم تقتصر على التصنيف الفرزي، بل تعدت إلى إطلاق حكم “قيمة أخلاقية”، خلقت جوًّا مشحونًا ومضطربًا اختلطت فيه الأمور، وانعدم التمييز بين ثورة شعب قامت ضد الاستبداد وحرب راحت تحرق كل ما أمامها تحقيقًا لمصالح مشعليها المتكاثرين يومًا بعد يوم.
مع اختلاف تعريفات المجتمع المدني اليوم التي تهتم بها مراكز الأبحاث المختلفة، فإنها تتفق بمعظمها على أنه مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة
ومع تعامي العالم عن جرائم النظام وحلفائه تغلّب منطق القوة والهيمنة على منطلق الحق والعدل، فأطل التطرف بوجهه المتخبط وتشظى المجتمع وتجذرت الطائفية وعمّت الفوضى الفكرية والأخلاقية وعاش العقل محنة كبرى وضعته في موقف المتفرج المندهش لما يجري، وعجز عن التفسير والتحليل السليمين، فضلًا عن التخطيط المدروس المستند إلى معرفة واعية مطابقة للواقع، كل هذا جعل من ضرورة البحث عن فقه سياسي أكثر تفسيرية يؤسس لفكر واعٍ بصورة واضحة وصحيحة، ويكون قادرًا على إخراج الأمة من نفق التبعية والضعف والاستبداد، أمرًا ملحًا.
قضية الوعي ليست قضية فكرية بحثية فقط، بل هي تجليات على أرض الواقع، تعكس تمامًا مدى استيعاب الشعوب والمجتمعات لمجريات الأمور ولحقيقتها، ومسؤولية التوعية ليست مجرد كتابات وشعارات ترفع، بل مسؤولية أخلاقية من جهة، عملية واقعية ضرورية من جهة أخرى.
لا نريد وعيًا قاصرًا أو نخبويًا أو فئويًا عقائديًا، بل نطالب بوعي مجتمعي عام، يميز السوريون من خلاله ذاتهم، ويدركون مسؤولياتهم، ويؤمنون بإمكاناتهم، ويعرفون جوانب قصورهم وأمراضهم، نحن بحاجة لوعي قادر على رفع المجتمع وتفعيله ليبدع ويمارس مسؤوليته الحضارية تجاه بلده ومستقبله أمام العالم كله.