تحيي منظمة الصحة العالمية في الرابع من شهر فبراير من كل عام، ذكرى اليوم العالمي لمرض السرطان، عبر رفع مستوى الوعي تجاه هذا الداء الخطير، ودعم سبل الوقاية من الإصابة به، في محاولة لتخفيف معاناة البشرية من شبحه المخيف، الذي يحصد أرواح ملايين البشر سنويًا.
ولم تكن الرياضة وعالمها الواسع عن خطر السرطان بمعزل، فقد ابتلي به العديد من أبناء الرياضة، لا سيما كرة القدم، التي ودعت عددًا من كبار نجومها ومشاهيرها نتيجة إصابتهم بذلك المرض، كالأسطورة الهولندية يوهان كرويف الذي توفي العام الماضي، والأسطورة الإنجليزية بوبي روبسون الذي توفي عام 2009، والمدرب الفرنسي الشهير برونو ميتسو الذي توفي عام 2013، ومدرب نادي برشلونة الإسباني تيتو فيلانوفا الذي توفي عام 2013، والحكم المغربي القدير سعيد بلقولة الذي توفي عام 2002.
وبالمقابل، نجا عددٌ آخر من أبناء الرياضة من براثن هذا المرض الفتاك، وعادوا إلى حياتهم الرياضية بعد شفائهم منه، الذي ما كان ليتم لولا فضل الله أولًا، ثم قوة إرادتهم ورباطة جأشهم ثانيًا، وفي سطورنا القادمة، سنروي لكم واحدةً من أشهر القصص الملهمة، التي استطاع بطلها، المدافع الفرنسي الشهير إريك أبيدال، التغلب على السرطان مرتين، والعودة إلى ميادين الرياضة مكللًا بمحبة جميع من حوله ودعمهم له.
أبيدال في بداياته الرياضية مع موناكو
ولد إريك سيلفان أبيدال في مدينة ليون الفرنسية في 11 من سبتمبر من عام 1979، وبدأ حياته الكروية مع نادي حيه الصغير (ليون دوتشير)، الذي تدرج في صفوف ناشئيه وشبانه حتى عام 2000، الذي شهد بداية مسيرته الاحترافية مع نادي إمارة موناكو، حيث كان أول ظهورٍ له في دوري الدرجة الأولى الفرنسي يوم 16 من سبتمبر من عام 2000 في مواجهة فريق تولوز، واستمر مع موناكو موسمين كاملين، خاض خلالهما 25 مباراةً في مختلف المسابقات، قبل أن يقرر الانتقال إلى نادي ليل صيف عام 2002، وهناك كانت انطلاقته الحقيقية مع مكتشفه المدرب كلود بويل الذي حوله على مدى موسمين إلى واحدٍ من أفضل لاعبي الظهير الأيسر على مستوى فرنسا.
أبيدال حقق الدوري الفرنسي 3 مرات مع ليون
صيف عام 2004، شهد عودة أبيدال إلى مسقط رأسه، حين وقع عقدًا انتقل بموجبه إلى نادي أولمبيك ليون، حيث قضى 3 مواسم ناجحةً بكل المقاييس، توج خلالها بلقب الدوري الفرنسي 3 مراتٍ متتاليةً بين عامي 2004 و2007، كما توج بلقب كأس السوبر الفرنسي في السنوات ذاتها، واختير ضمن التشكيلة المثالية للدوري الفرنسي في المواسم الثلاث، كما اختير ضمن التشكيلة المثالية للاتحاد الأوروبي لعام 2007، ليغري بذلك مسؤولي نادي برشلونة الإسباني العملاق لضمه إلى صفوف فريقهم، فيعلن اللاعب صيف عام 2007، فسخ عقده مع ناديه ليون، بعد أن لعب معهم أكثر من 80 مباراةً في مختلف المسابقات.
أبيدال مع منتخب فرنسا خلال نهائي كأس العالم 2006
وفي تلك الآونة، كانت مسيرة أبيدال الدولية مع منتخب فرنسا في أوج توهجها، حيث استهل هذه المسيرة في 8 من أغسطس من عام 2004، وحجز سريعًا مقعده الأساسي في التشكيلة خلال تصفيات كأس العالم 2006، التي جرت نهائياتها في ألمانيا، وشهدت تألق المنتخب الأزرق بقيادة زيدان وفييرا وريبيري، ومعهم الظهير الأيسر الصلب أبيدال، الذي كان شريكًا أساسيًا في بلوغ الديوك نهائي البطولة الذي جمعهم بمنتخب إيطاليا، حيث خسروا اللقب أمام رفاق بوفون وكانافارو بركلات الحظ الترجيحية.
أبيدال انتقل إلى برشلونة صيف عام 2007
وفي 29 من يونيو من عام 2007، وقع إيريك أبيدال عقد انتقالٍ لمدة 4 سنواتٍ إلى نادي برشلونة الإسباني، مقابل مبلغٍ ناهز 13 مليون يورو، ليصبح سريعًا لبنةً أساسيةً في دفاع النادي الكتالوني، سواءً في تشكيلة المدرب الهولندي فرانك ريكارد الذي رحل صيف عام 2008، أو في تشكيلة المدرب الجديد بيب غوارديولا، التي توج معها بسداسيةٍ خالدةٍ عام 2009، تضمنت ألقاب الدوري والكأس والسوبر المحلية، إضافةً لألقاب الشامبيونز ليغ والسوبر الأوروبية وكأس أندية العالم، علمًا بأن أبيدال حرم من خوض مباراة نهائي الشامبيونز ليغ أمام مانشستر يونايتد، بسبب تلقيه بطاقةً حمراء في نصف النهائي أمام تشيلسي.
وتابع أبيدال تألقه في صفوف البارسا، فتوج معهم بلقبي الدوري والكأس المحليين عام 2010، وكانوا في وضعٍ مثاليٍ لتكرار إنجاز السداسية في الموسم التالي، عندما بدأت المأساة مطلع شهر مارس من عام 2011، إذ كان أبيدال يخضع لإحدى الفحوصات الطبية الدورية، فاكتشف الأطباء إصابته بورمٍ خبيثٍ في الكبد! مما يحتاج تدخلًا جراحيًا عاجلًا لاستئصال الورم ومنع انتشاره في كامل الكبد.
أبيدال يحمل كأس الشامبيونز ليغ مع برشلونة عام 2011
حدد يوم 17 من مارس كموعدٍ لإجراء العملية الجراحية، وسط تكهناتٍ بانتهاء مشوار اللاعب مع الكرة، رافقتها حملة دعمٍ وتشجيعٍ منقطعة النظير للاعب، لم تقتصر فقط على زملائه في برشلونة، بل تعدتها إلى جميع فرق الدوري الإسباني، بما فيهم لاعبو الغريم الأزلي ريال مدريد، الذين ارتدوا قمصانًا حملت اسم (أبيدال)، كنوعٍ من التعاطف الإنساني الراقي الذي يتخطى حدود المنافسة الرياضية.
وأجريت العملية في موعدها، وتكللت بالنجاح، وعاد النجم إلى الملاعب في فترةٍ قياسيةٍ لم تتعد 40 يومًا، بل وساهم بشدةٍ في تتويج البارسا بخماسيةٍ تاريخية في العام ذاته، شملت ألقاب الدوري وكأس السوبر المحليتين، والشامبيونز ليغ وكأس السوبر الأوروبي، إضافةً لكأس أندية العالم، ولا يزال ماثلًا في الأذهان، مشهد رفع أبيدال لكأس الشامبيونز ليغ عام 2011، وهو يرتدي شارة الكابتن التي تنازل له عنها القائد كارليس بويول، وسط تصفيق أكثر من 85 ألف متفرج، احتشدوا في ملعب ويمبلي بلندن، ليكونوا شاهدين على تتويج البطل الذي تحدى السرطان.
لاعبو برشلونة يحتفلون بعودة أبيدال بعد شفائه من السرطان
وتابع النجم الفرنسي مسيرته الرياضية على أعلى مستوى، فخاض 38 مباراةً مع البارسا في مختلف منافسات موسم 2011-2012، قبل أن يحصل ما لم يكن في الحسبان، فقد لاحظ الأطباء القائمون على متابعة حالة اللاعب الصحية تدهور حالته، حيث تجددت إصابته في الكبد، وأصبح لا ينفع معها إلا الاستئصال الكلي، مع إجراء عملية زرعٍ لجزءٍ من كبدٍ يقدمه أحد المتبرعين!
نزل الخبر كالصاعقة على اللاعب ومحبيه وزملائه، الذين ازداد حزنهم وألمهم لدى علمهم بمدى خطورة هذا النوع من العمليات الجراحية، التي قد يكون ثمن فشلها حياة زميلهم العزيز، فعرض البرازيلي داني ألفيش أن يكون هو المتبرع، في لفتة وفاءٍ ونبلٍ ندر نظيرها، ولكن أبيدال رفض ذلك بشدةٍ حرصًا على مسيرة زميله البرازيلي المتألق، فكان أن تشجع أحد أقرباء اللاعب من خارج الوسط الرياضي للقيام بدور المتبرع المنقذ، فأجريت العملية يوم 17 من أبريل عام 2012، وتكللت بالنجاح، وابتعد اللاعب عن الملاعب تمامًا حتى آخر العام، عملًا بنصيحة الأطباء، الذين أعطوه الضوء الأخضر للعودة إلى التدريبات مطلع عام 2013.
أبيدال إلى جانب زوجته حياة وأطفاله
وفي 6 من أبريل من عام 2013، ارتفعت لوحة التبديل في ملعب نيوكامب في أثناء مباراة برشلونة مع ريال مايوركا، معلنةً عودة اللاعب رقم 22 إلى الملاعب الخضراء، بعد انتصاره في معركته الثانية على السرطان اللعين، الذي لم ينجح في إبعاد اللاعب عن معشوقته الكرة، فتابع مشوار ذلك الموسم مع برشلونة، وحمل معهم لقب بطولة الدوري، قبل أن يتابع مسيرته الرياضية مع فريقه القديم موناكو، الذي انتقل إليه صيف عام 2013، وخاض معه موسمًا كاملًا، انتقل بعده إلى الملاعب اليونانية للعب ضمن صفوف فريق أولمبياكوس، حيث خاض 6 مباريات مطلع الموسم، قبل أن يعلن اعتزاله الكرة بشكلٍ نهائيٍ في 19 من ديسمبر من عام 2014، عن عمرٍ ناهز الـ35 عامًا، قضى معظمه في المستطيل الأخضر.
أبيدال أنشأ مؤسسةً لعلاج مرضى السرطان في برشلونة
وبعد اعتزاله، عاد النجم الفرنسي إلى مدينة برشلونة، لينشئ فيها مؤسسة “إيريك أبيدال الخيرية” المختصة بعلاج الأطفال من مرض السرطان، في واقعةٍ تعبر عن مدى تقدير اللاعب وامتنانه للنادي والمدينة، التي أحبه أهلها واحتضنوه ووقفوا إلى جانبه في أشد لحظات حياته حلكةً، جنبًا إلى جنب مع زوجته ذات الأصول المغاربية حياة الكبير، والتي يعرف الكثيرون أنه متزوجٌ بها منذ عام 2007 ولديه منها 3 طفلات، ولكن القليلين فقط يعرفون قصته الجميلة معها، والتي يرويها أبيدال بنفسه:
“عندما قررت التقدم للزواج من حياة، كان شرطها الوحيد هو أن أعتنق الإسلام، ومن هنا بدأت علاقتي بالدين الحنيف، حيث قمت بدراسته بتأنٍ وعمقٍ قبل أن اتخذ قراري الأفضل في الحياة باعتناقه، وبفضله أعيش حياتي بحبٍ وتفانٍ، والقرآن لا يفارقني أبدًا”.
لقد كان للإيمان والطمأنينة التي زرعها الدين الإسلامي في قلب وروع أبيدال، الدور الأبرز في حفاظه على تماسكه ورباطة جأشه طيلة فترة مرضه، وعن ذلك يقول النجم المسلم:
“لقد عانيت آلامًا مبرحةً وأصبحت حياتي لا تطاق، وخاصةً عندما تسربت السوائل إلى جوفي وفقدت 19 كغ من وزني، وحينها ظننت أنها النهاية، وطلبت من الأطباء إدخالي في غيبوبة لأتخلص من الألم، غير أنني شعرت بقوةٍ خفيةٍ تخفف عني المعاناة وتمدني بالأمل، إنه الإيمان بالله”.