الحيرة السائدة بشأن ما ينبغي أن يكون والتي تتجدد في كل مناسبة تدفع إلى طرح السؤال الأعمق عن الصورة التي يريد التونسيون أن يبنوا عليها بلدهم بعد ثورة سلمية شكلت لفترة قصيرة مرحلة فخرًا لهم وجعلت بلدهم محط أنظار العالم، لكن الاضطراب الذي أعقب لحظة الفرح والاعتزاز أعاد السؤال إلى البدايات، ماذا يريد التونسيون في المستقبل؟ وهو السؤال الذي يدفع إلى مراجعة ما سبق عبر سؤال ماذا أراد المؤسسون منذ البداية؟ وهل بنوا صورة للعالم ووضعوا بلدهم داخل إطارها الفكري والثقافي؟
التحديث البورقيبي هل كان سبقًا أم لوثة؟
مسيرة التحديث الاجتماعي والثقافي لم تبدأ مع بورقيبة بل سبقته مع نظام البايات الذي كان يقلد “التنزيمات” التركية ثم مع المرحلة الاستعمارية اتخذ التحديث مسار تقليد المستعمر في مجال التعليم والأسرة والثقافة غير أنه كان وئيدًا مترددًا نظرًا لأن المحفز كان أجنبيًا معاديًا، لذلك احتفظ المجتمع بوسائل دفاعه التقليدية مثل التعليم الزيتوني، لكن اختفاء الوجه المباشر للمستعمر جعل الدولة الحديثة تتبنى مشروعًا تحديثيًا متشبعًا بمشروع التحديث الفرنسي إلى حد التماهي، فأجهز على وسائل الدفاع الثقافي التقليدية (والتعليم الديني أحدها) وأطلق عملية إعادة بناء عقول جديدة تفكر ولكن في هامش الجامعات الفرنسية وتنتج ولكن فنًا مشابهًا بل مستنسخًا من هضبة مونمارتر الباريسية.
رغم أن الحديث الآن يدور عن إشراك حملة السلاح (الأمن والجيش) في الانتخابات البلدية والمحلية فإني آثرت العودة إلى الحديث في الخيار الثقافي التحديثي المتبع، فالسياسة ابنة الثقافة السائدة ومنها يكون الانطلاق
ورغم أن الحديث الآن يدور عن إشراك حملة السلاح (الأمن والجيش) في الانتخابات البلدية والمحلية فإني آثرت العودة إلى الحديث في الخيار الثقافي التحديثي المتبع، فالسياسة ابنة الثقافة السائدة ومنها يكون الانطلاق، ولقد قال أحد أبناء اليسار التونسي ومفكريه ذات يوم في إطار نقد ذاتي لمشروع اليسار الثقافي “كلنا أولاد بورقيبة”.
حركة الرفض لم تكن تملك مشروعًا مضادًا
معارضة بورقيبة السياسية كانت منكبة فقط على الشأن السياسي لذلك لم تنتج إلا أدبيات سياسية واستفرغت جهدها في النضال اليومي من أجل الحريات السياسية لكنها لم تقدم مشروعًا ثقافيًا مغايرًا، فأول المعارضين لبورقيبة كانوا قوميين وهؤلاء لم يفعلوا أكثر من التمتع بالأناشيد الحماسية لإذاعة صوت العرب من القاهرة عن الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة لذلك غطوا على عورة المشروع القومي الناصري الذي لم يكن يختلف عن بورقيبة إلا في التفاصيل، فلم يكن لتونس فنانون في حجم عبد الحليم وفريد وأم كلثوم، فمن مصر جاء مبدأ “الجمهور عايز كده” حيث ظلت الثقافة تلبي رغبات جمهور أميّ في أغلبه فتستسهل مخاطبة غرائزه أكثر من عقله فتنموه فيرتاح الزعماء من مشقة المعارضة.
أما اليسار فقد عاش مدة يعارض بأدبيات سوفيتية أو صينية مروّجًا لثقافة مقاتلة من أجل الطبقة العاملة لكنه كان يتشرب التحديث البورقيبي لما لاقه فيه من أدوات مقاومة للتيارات الدينية الرجعية، وقد حصر اليسار نفسه في هذه الزاوية وهذا المشروع اليتيم، لقد خرج من أيديولوجيا إلى أخرى لكنه لم يفتح طريقًا لثقافة مختلفة ومتصالحة خاصة مع هوية الناس الذين اغتربوا في التحديث البورقيبي.
انتظر كثير من الناس أن يقدم الإسلاميون مشروعًا مختلفًا ولكن الخيبة كانت أكبر وتبين أن الإسلاميين لا يملكون مشروعًا غير تكرار مفردات الهوية الغائمة داخل خطاب ديني تربوي يعمل على هداية الناس إلى العبادة ولا يدرب عقولهم على الخلق الأدبي والفني
انتظر كثير من الناس أن يقدم الإسلاميون مشروعًا مختلفًا ولكن الخيبة كانت أكبر وتبين أن الإسلاميين لا يملكون مشروعًا غير تكرار مفردات الهوية الغائمة داخل خطاب ديني تربوي يعمل على هداية الناس إلى العبادة ولا يدرب عقولهم على الخلق الأدبي والفني، لقد اتضح خاصة بعد الثورة وفي زمن يفترض فيه بناء مشروع جديد على أنقاض البورقيبية المستنفذة أن الإسلام السياسي لا يفكر في الثقافة وإن كان له مثقفون.
ويقف الجميع الآن أمام حقيقة بشعة، لا أحد يملك مشروعًا لتونس لا في الثقافة ولا في التربية ولا في السياسية، لذلك فإن التصرف في البلد ومقدراته ومستقبله يشبه عملية استفراغ آخر الموجود في الثلاجة لطبخ وجبة أخيرة لعشاء أخير دون أدنى فكرة عن فطور الصباح القادم.
ضرورة طرح مشروع لمجتمع جديد
ساد بعد الثورة شعار يكشف القطيعة العميقة بين المثقفين والسياسيين وعموم الناس يقول “نكبتنا في نخبتنا”، قالها السياسيون الذين يريدون مثقفين يخدمونهم ويبررون لهم كما كان يفعل بورقيبة وبن علي، وقالها الشعب الذي يبحث عن قادة فكريين يبلورون له بدائل تهديه سبيل المستقبل، في حين لم يرد المثقفون أو غالبهم إلا بالمزيد من تحقير الثورة وشهدائها وما تقترحه للمستقبل فسموها ثورة البرويطة تحقيرًا وتتفيهًا لها.
وهنا تجلت حيرة الجميع لأن المشروع المستقبلي الذي تطلبته الثورة لم يظهر ولم يهتم به السياسيون ولا سارع إليه المثقفون الجدد لأنه لا يوجد مثقفون جدد إلا من تربى على الموجود المتناسل من فكرة الزعيم الأولى، لا تحديث داخل الهوية المحافظة بل بالقطيعة معها.
المشهد الآن أن تونس تقف في آخر طريقها وليس لديها خطة للتقدم في أي مجال وهذا يفسر في جانب الاضطراب السياسي الذي يغطى بتوافقات قصيرة الأمد ومغشوشة لأنها قامت أصلاً على مبدأ كف الشغب المتبادل لا على مبدأ لنفكر معًا في المستقبل، كما يفسر سبب استمرار العداء الكاسر والمدمر بين فرقاء السياسة الإيديولوجيين من اليسار والإسلاميين.
مشروع المصالحات التاريخية لم يفكر فيه أحد ولم يسع إليه أحد، ويبدو أن العيش مع الحرب أكثر فائدة من التفكير في السلم، هذا العداء صالح للاستقطاب السياسي وحشد الأنصار بالتخويف لا بالإقناع، في الأثناء يعيش الجمهور الواسع حيرة ثقافية ويطوع سلوكًا لا مباليًا يشتد إلى نكوص سياسي وقطيعة مع السياسة وأهلها ثم العودة إلى مربع اللامبالاة التي أنقذت الكثيرين من قبضة الدكتاتورية فعاشوا بسلام داخل الجهل وخارج المستقبل.
لقد طرحت الثورة سؤالاً عن المشروع المستقبلي لتونس وكانت اللحظة مناسبة لبدء التفكير في ذلك وبشكل جماعي
لقد طرحت الثورة سؤالاً عن المشروع المستقبلي لتونس وكانت اللحظة مناسبة لبدء التفكير في ذلك وبشكل جماعي، لكن مثقفي بورقيبة قدموا ردودًا قديمة على سؤال حديث، تكريس التحديث على الطريقة الفرنسية في مواجهة الرجعية الدينية، فوجدت التيارات الدينية فرصتها لمزيد من تعميق مشروعها التعبدي الطقوسي بخطاب شريعي موغل في تفاصيل فقهية لا علاقة لها بلحظة الثورة، وتمسك كل طرف بمتراسه الإداري والسياسي (وزارة التربية والثقافة لليسار) والخطاب المسجدي (وإن كان يجري الآن خارج المساجد) للإسلاميين.
أين يذهب السياسيون بالبلد ؟ الإجابة ستأتي وحدها في لحظة انهيار قاسية جدًا تعصف بالقديم وتبني جديدًا على أنقاضه، لكن ذلك سيتطلب زمنًا طويلاً، هو الزمن الكافي ليندثر جيل بورقيبة وحداثته المعطوبة وتنكسر سردية التحديث المنسوخ إلى الأبد، في الأثناء سيفلح الجيل الأخير في لعق آخر العسل قبل أن يسقط في بئر الأفاعي المتربصة، أما تلك اللحظة المجيدة التي انتبه فيها العالم إلى تونس فقد ولت إلى غير رجعة، لقد انتبه الآن وبعد الانبهار إلى أن التونسيين لا يملكون مشروعًا لبلدهم يمكن أن يركز عليهم بؤرة الضوء.