“في مسرح يافا، تُعرض مسرحية موسيقية تدور حول حياة أم كلثوم وفنها، تروي المسرحية سيرة حياة أم كلثوم، الفتاة المتنكرة بزي فتى، التي بدأت عروضها الأولى بالتنقل مع والدها، وصولاً إلى تطور سيرتها المهنية العظيمة، بموازاة الصراعات السياسية والثقافية في مصر، وصراعات النفوذ والقوة بين محمد عبد الوهاب وآخرين، في طريقها إلى القمة حيث تحولت إلى رمز وطني وقومي، وإلى حالة إجماع عابرة للثقافات والعوالم”.
ربما إن وجدت الفقرة السابقة في أي من صفحات الفن الشرقي على فيس بوك من الصفحات العربية، لن تستغرب، فربما هو ذكرى رحيل كوكب الشرق المطربة أم كلثوم، حيث يحاول عرب إسرائيل الاحتفال بتراثهم الثقافي العربي، إلا أن المفاجأة هنا تأتي من كون الفقرة السابقة هي من صحفة إسرائيلية، وأن المحتفل بأم كلثوم إسرائيلين وليس من العرب، كما لا يكون الكلام مترجمًا من العبرية إلى العربية، بل هو كلام عربي خالص، بلغة سليمة وصحيحة.
لم تكن تلك المرة الأولى التي نرى فيها دولة الاحتلال تذيع كلامها بالعربية، فبموجب قانون سلطة البث لعام 1965، ينص على أن يعمل البث باللغة العربية في سبيل خدمة المواطنين العرب في إسرائيل، ذلك في سبيل تعزيز التفاهم والسلام ما بين إسرائيل والشعوب العربية المجاورة.
يشكل “صوت إسرائيل“، وهي منصة إذاعية تذيع برامجها باللغة العربية على مدار الأربع والعشرين ساعة، جزءًا من سلطة الإذاعة والتليفزيون العامة في إسرائيل، وهي مؤسسة عمومية مستقلة عن الحكومة في عملها اليومي وتخضع لرقابة لجنة إدارية تمثل معظم فئات الشعب والقوى السياسية.
ما تفعله منصة “صوت إسرائيل” يتشابه بشدة مع الغرض الذي خلقت من أجله “سينما الهولوكوست”، فكانت إحدى أسرع الطرق لتحقيق حلم الوطن القومي لليهود، فمنذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، عرضت السينما العديد من الأفلام السينمائية والوثائقية التي تتبنى وجهات نظر متعددة تصب في صالح نفس المبدأ، وهو تبرير للوطن القومي لليهود، لتعود الآن وبحلة جديدة مستخدمة مواقع التواصل الاجتماعي بعدما بات تأثيرها على تغيير الحراك الشعبي واضحًا بعد ثورات الربيع العربي.
صفحة رئيس الوزراء الإسرائيلي على فيسبوك
كانت مواقع التواصل الاجتماعي منصة ذهبية بالنسبة للكيان الصهيوني، فاستغلها للدعاية عن الوطن القومي لليهود بطريقة يحبها مستخدمو تلك المواقع، وذلك عن طريق التأثير الثقافي والاجتماعي، بتغيير الصورة النمطية المصاحبة لهذا الكيان عند العرب، بكونه دولة الاحتلال التي يصاحب ذكر اسمها القتل والتدمير، إلي الدولة التي تود مصادقة دول الجوار.
نجد على صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية” أن إسرائيل “كيان الاحتلال الصهيوني” هي ملاك الرحمة، تحتفل بالثقافة العربية، وتدواي الجرحى السوريين، وتود التقارب التجاري مع الجانب الفلسطيني، ونشر الثقافة العبرية للتعايش مع العربية.
من صفحة “إسرائيل تتكلم العربية”:
تغيرت منظومة الجوار العدائية مع دخول مئات الجرحى من سوريا جراء الحرب الأهلية وأغلبهم من الأطفال في مشفى “صفد” الإسرائيلي لتلقي العلاج، من تقرير نشر في صحيفة يديعوت “أحرونوت” من صميم الحدث
إسرائيل تتظاهر بالإنسانية وتعلنها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالصور، وليس هذا فقط، بل وباللغة العربية، لتجد متابعين للصفحة، معجبين بمنشوراتها من العرب، وتجدهم يدعون للوصول إلى اتفاق وسطي يرضي الطرفين ما دام الإسرائيلون يعلنون رغبتهم في ذلك، وأنهم في النهاية بشر يتمتعون بالإنسانية ويرغبون في التعايش، وأما الكارهون غير القادرين على التطبيع فكانت للصفحة ردود مختلفة معهم.
“إن زرت بلادنا، لن تود العودة إلى بلدك مرة أخرى، هل تعلم أن من يعيشون في إسرائيل من العرب يتمتعون برفاهية ورغد لا يلقونه في بلادهم، اللوم هنا على وسائل الإعلام المضللة التي تشوه الصورة”
هذا التعليق السابق يعبر عن الطريقة التي يحاول بها الكيان الصهيوني التأثير على شرائح ضخمة من المجتمع العربي تعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي مصدرًا لمعلوماتهم، كما تناقش الصفحة على الجانب الآخر من لا يتفق معها في الرؤية، بنبرة هادئة، وبالتبعية يكتسب متابعًا جديدًا للصفحة، فالهدف منها اكتساب المعارضين وجذبهم وتدريجيًا يمكن للصفحة أن تغيّر رأيهم بالفعل في دولة الاحتلال.
“يقال “اعمل الخير وارميه في البحر”، هذا الوصف ينطبق على العمل الإنساني الذي قدمته عائلة فلسطينية في منتصف الليل عند انقلاب حافلة ركاب وانزلاقها إلى وادٍ واستدعاء فرق الإنقاذ”
لا تكمن مهمة تلك الصفحات في جذب القارئ العربي وتغيير صورة إسرائيل النمطية عنه فحسب، بل تقوم بالترويج للعلاقة الطيبة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتغيير الصورة النمطية التي تتلخص في صواريخ المقاومة والغارات الجوية التي تعبر عن علاقة إسرائيل بفلسطين، فكما تعمل سينما الكيان الصهيوني على إظهار الفلسطيني أو العربي بشكل عام في أفلامه بشكل متعاون للغاية مع الإسرائيلي، تقوم تلك الصفحات بنفس المهمة تقريبًا.
إسرائيل أم فلسطين على الخارطة
كاريكتير من صفحة “إسرائيل تتكلم العربية”
إذا ما حاولت إغاظة القائمين على الصفحة وذكر عدم وجود إسرائيل على الخريطة، سيكون هذا الرد كما جاء رد الصفحة تعليقًا على كلام أحد متابعي الصفحة:
هذا الكلام ليس إلّا أُسطوانة مشروخة، ومن يريد أن يحارب طواحين الهواء، يُمكنه تكرارها كما يشاء، لا محيد عن التسليم بالأمر الواقع والقبول على ما هو عليه.
تقوم الصفحة بالدعاية للكيان الصهيوني بطريقة خاصة، وذلك عن طريق عرض محتوى رقمي جيد عبارة عن مقالات وتقارير وفيديوهات ومنشورات وتغريدات تعرض فيها إنجازات إسرائيل العلمية وترتيب الجامعات الإسرائيلية ودخولها في قائمة أفضل مئة جامعة في العالم، مع عرض إنتاج “إسرائيل” الثقافي والأدبي في مجال التأليف والموسيقى وإنتاجهم السينمائي الضخم، بالإضافة إلى رواد إسرائيليين في مجالات مختلفة.
هناك نماذج من تلك الصفحات لصفحات من أفراد الجيش نفسه، تتواصل بالعربية مع الجمهور العربي وتهنئه في أعياده غير مبالية بالشتائم والسباب من متابعي تلك الصفحات، إلا أنه في النهاية، يبقى الحاقد عليهم متابعًا، يرى محتواهم ويقرأه حتى ولو لم يعجبه، وهو ما يعتبر نجاحًا وتقدمًا من الجانب الإسرائيلي في محاولة التقرب من العرب واختراقهم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، أما على الجانب الآخر فكم نموذجًا خرج من العرب بالعبرية في مخاطبة الجانب الإسرائيلي، وكيف كانت مقاومة العرب الثقافية أمام هذا الاختراق الإسرائيلي؟