ليس أمامهم خيارًا آخر.. هجرة الموريتانيين نحو الحلم الأمريكي

استفاق أمير باكرًا على غير عادته، إذ ينتظره يوم مصيري في السفارة التركية، إذ كان يأمل أن يسافر إلى إسطنبول، برفقة مجموعة من أصدقائه، لا للتعرف على تاريخ هذه المنطقة أو ملامحها الطبيعية، وإنما العبور من خلالها نحو أمريكا اللاتينية، بهدف الوصول إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
أدركنا من حديثنا مع أمير في “نون بوست”، أن الهجرة نحو بلاد العم سام أصبحت الشغل الشاغل للموريتانيين، وهو ما دفعنا إلى تخصيص هذا المقال للحديث عن هذه الظاهرة وبيان مسارها، فضلًا عن البحث في أسبابها.
البحث عن الذهب
درس أمير 5 سنوات في إحدى الجامعات العمومية التونسية، تحصل في السنوات الثلاثة الأولى على منحة دراسية من الدولة الموريتانية وأخرى من الدولة التونسية، فيما درس مرحلة الماجستير على كاهله الخاص، وكان أهله يرسلون له مستلزماته المالية كلّما طلب ذلك، وفق حديثه لـ”نون بوست”.
تحصّل على شهادتَين في المحاسبة، وكان ظنّه أن الدراسة في تونس ستفتح له أبواب العمل في بلاده، لكن ما أن عاد إلى موريتانيا عام 2021 حتى اصطدم بالواقع المرير، فنِسَب البطالة مرتفعة وفرص الشغل منعدمة، ما دفعه إلى التوجه نحو صحراء تازيازت الشاسعة بمحافظة إينشيري، شمال البلاد.
يذهب في الصباح مع صديقَيه المقربَين غير آبهين للصحراء وطبيعتها القاسية والجافة ورمالها الوعرة التي تمتد مدّ البصر، بحثًا عن الثراء ورغد العيش، فقد انتشر بين مقاهي موريتانيا أن صحراء البلاد مليئة بالذهب.
في هذه الرحلة الخطيرة، يمرّ الشاب الموريتاني عبر مختلف أنواع التضاريس الوعرة، من متاهات الصحراء وأدغال الغابات والجبال والوديان
خرجت رحلات البحث عن الذهب في الصحراء من دائرة التداول السرّي إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ ظهرت في ذلك الوقت إعلانات تروج لأجهزة الكشف عن الذهب مصنوعة في دول أوروبية، تعرض في أسواق نواكشوط ويصل سعرها إلى نحو 2000 دولار.
كان ظنّ أمير والمئات من الموريتانيين أن هذه الرحلات “بريق أمل” لهم، لها أن تخرجهم من الفقر والفاقة إلى رغد العيش، إلا أن هذه التجربة لم تنجح، إذ لم يجنِ الشاب الموريتاني غير الفتات، حتى أن قطع الذهب القليلة التي تحصّل عليها في رحلاته المتعددة لم تعادل قيمة ما خسره خلال هذه التجربة.
بعد أشهر من البحث المضني، قرّر أمير العدول عن البحث عن الذهب بعد أن تيقّن استحالة المهمة، فالمغامرة خطيرة (توفي عدد من الموريتانيين أثناء عملية البحث عن الذهب)، كما أن الشركات الأجنبية المنتصبة في صحراء البلاد لم تترك للأهالي شيئًا.
في يوم حارّ صيف هذه السنة، بينما يتصفّح أمير هاتفه الذكي، اعترضته تدوينات تحكي عن “فرصة الحلم” ومسار الوصول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن هذه المرة الأولى التي يسمع أمير أو يقرأ عن الهجرة إلى بلاد العم سام، لكن لم يكن يعرف التفاصيل.
تساءل أمير بداخله: “لما لا أجرب مثل غيري؟”، فقد سمع أن آلاف الموريتانيين وصلوا إلى أمريكا وأن الطريق سهل ومعبّد، فقط يحتاج بعض المال والشجاعة، بالنسبة إلى الأخيرة فقد اكتسبها في رحلاته العديدة بحثًا عن الذهب، وأما المال فيعرف من أي سيتحصّل عليه.
مسارات خطيرة
حدّث أمير أمه في الأمر، وأخبرها بنيته الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه في حاجة إلى قرابة 8 آلاف دولار حتى يتمّم الأمر، لم تعارض الأم الفكرة، وبدأت على الفور اتصالاتها للحصول على هذا المبلغ.
لم يمرّ أسبوع حتى توفر المبلغ المطلوب، ذلك أنهم ينتمون إلى عائلة كبيرة ميسورة الحال نوعًا ما، وفي الأثناء، ركّز أمير كلّ جهده للتواصل مع أحد الوسطاء لتأمين عملية السفر، فقد علم من أصدقائه أن مسارات الهجرة عديدة، وقد اختار أقلها خطورة، أي السفر إلى تركيا ومن ثم إلى نيكاراغوا وبعدها إلى المكسيك، ليجتاز الجدار الفاصل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
يقول أمير لـ”نون بوست” إنه خيّر الذهاب إلى تركيا لأن الحصول على التأشيرة إلى هناك أمر سهل بالنسبة إليه، ولوجود رحلات مباشرة بين إسطنبول وماناغوا، وكانت حكومة نيكاراغوا قد أجرت تعديلات مؤخرًا تتعلق بتأشيرات الدخول، فأصبح من الممكن للكثير من مواطني الدول الأفريقية الحصول على تأشيرة بسهولة أكبر وتكاليف أقلّ.
لم يبدأ الشاب الموريتاني رحلته بعد، لكنه حفظ أدقّ تفاصيلها، فبعد الوصول إلى نيكاراغو سيتوجه إلى هندوراس ومن ثم إلى غواتيمالا، وصولًا إلى مدينة تيخوانا المكسيكية، ومنها إلى آخر نقطة حدودية مع أمريكا.
عدد الموريتانيين الذي دخلوا الأراضي الأمريكية عن طريق المكسيك خلال الفترة من مارس/ آذار إلى يونيو/ حزيران 2023 بلغ 8 آلاف و500 شخص
في كلّ خطوة سيخطوها أمير في تلك الأراضي سيدفع للمهربين، فالأمر ليس سهلًا ويتطلب إنسانًا عارفًا بالمناطق الوعرة والبعيدة عن أعين الشرطة والجيش في تلك البلدان، لتجنّب مفاجآت يمكن أن تضع حدًّا للمغامرة بسرعة.
يتواصل أمير في الفترة الأخيرة مع بعض أصدقائه الذين وصلوا إلى البرّ الأمريكي، وقد حدّثه بعضهم أن تسلّق الجدار الحدودي بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية يتطلب مساعدة أحد المهربين مقابل نحو 250 دولارًا.
بمجرد تجاوز هذا الجدار، سيقع المهاجر في قبضة حرس الحدود الأمريكي، ومن ثم ينقلونه إلى دائرة خدمات الهجرة والجنسية، حيث يخضع للتحقيق حول دوافع قدومه إلى أمريكا وهناك يقدّم طلب لجوء، ويسمَح له غالبًا بالمرور في انتظار موعد المحكمة، لرؤية ما إذا كان سيحصل على صفة اللاجئ.
غالبًا ما تكون الوجهة إلى سينسيناتي في أوهايو وسط غرب الولايات المتحدة، فهناك مجتمع صغير من الموريتانيين الذين جاء الكثير منهم إلى البلاد كلاجئين منذ عقود، وهناك تتم مساعدة المهاجرين غير النظاميين في الحصول على عمل ودفع إيجار السكن.
لم يكن هذا المسار الوحيد للوصول إلى أمريكا، فبعض الموريتانيين وفق محدّثنا، يختارون الذهاب إلى تونس أو الجزائر في البداية، فهما لا تشترطان الحصول على تأشيرة دخول من الموريتانيين، ومن ثم الانتقال إلى الإكوادور، فهي لا تفرض تأشيرة على الموريتانيين للدخول إليها.
بعد الوصول إلى الإكوادور، تكون الوجهة إلى كولومبيا برًّا عبر مسالك وعرة يؤمّنها مهربون عادة من الأفارقة، وثم بنما فكوستاريكا ونيكاراغو وهندوراس وغواتيمالا، وصولًا إلى المكسيك ومنها إلى الجدار الحدودي.
يتألّف الجدار الحدودي بشكل حصري تقريبًا من أعمدة سميكة يصعب التمسك بها، ويمتد على طول التلال والكثبان الرملية الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة، وصولًا إلى المياه المضطربة في المحيط الهادئ، وللوهلة الأولى يبدو عبور الجدار الحدودي هذا شبه مستحيل، لكن المهربين اخترعوا طرقًا جديدة لتجاوزه.
يخاطر الشباب الموريتاني بحياته رغبة في الوصول إلى الولايات المتحدة، رغم أن بلاده تتمتع بعديد الثروات.
يستخدم المهربون سلالم مصنوعة يدويًّا من حديد التسليح المستخدم في البناء، ونهايته تعمل على شكل الحرف “U” بالإنجليزية، حتى تسهل عملية وضعه على الجدار وتسلقه للوصول إلى الجانب الآخر من الحدود.
وهناك من الموريتانيين من يتوجه إلى مدينة يوما بولاية أريزونا، فهناك فجوة ينفذ منها غالبية المهاجرين غير النظاميين طولها حوالي 8 كيلومترات على طول نهر كولورادو، ولم تتمكن السلطات الأمريكية بعد من سدّها.
في هذه الرحلة الخطيرة، يمرّ الشاب الموريتاني عبر مختلف أنواع التضاريس الوعرة، من متاهات الصحراء وأدغال الغابات والجبال والوديان، وغالبًا ما يتم الأمر بواسطة مجموعة تهريب منتشرة في مختلف دول أمريكا اللاتينية.
الآلاف هاجروا ومثلهم في قائمة الانتظار
لم تعد الهجرة نحو أمريكا حديث المقاهي فقط، إنما انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا، حيث تقدّم بعض وكالات السفر والمؤثرون على “تيك توك” على وجه التحديد عروضًا لرحلات جوية، ونقل المهاجرين الموريتانيين عبر مطارات في تركيا وكولومبيا والسلفادور.
كما انتشرت عديد الصفحات على مواقع التواصل لتقديم النصائح للموريتانيين في كيفية التعامل مع طريق الهجرة والمهربين، ذلك أن الهجرة أصبحت حلم النسبة الأكبر من الشباب الموريتاني الراغب في تحسين ظروف حياته.
لا تقتصر ثروات البلاد على المعادن، إذ يوجد في موريتانيا واحد من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى، وذلك على امتداد قرابة 800 كيلومتر على المحيط الأطلسي
لا توجد أرقام رسمية تحصي عدد المهاجرين، إلا أن بعض الجهات غير الرسمية تقدّر أعداد المهاجرين الموريتانيين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة خلال العام الحالي بنحو 10 آلاف شاب، وهو نفس عدد الجالية الموريتانية المقيمة هناك قانونيًّا.
بدورها، كشفت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، نقلًا عن مصالح الجمارك وحرس الحدود الأمريكيَّين، أن عدد الموريتانيين الذي دخلوا الأراضي الأمريكية خلال الفترة من مارس/ آذار إلى يونيو/ حزيران 2023 بلغ 8 آلاف و500 شخص، عن طريق عبور الحدود بشكل غير قانوني من المكسيك، بعد أن كان عددهم 1000 فقط في الأشهر الأربعة السابقة.
ما الدوافع؟
يخاطر الشباب الموريتاني بحياته رغبة في الوصول إلى الولايات المتحدة، رغم أن بلاده تتمتع بعديد الثروات على رأسها الذهب الذي بدأ استخراجه في البلاد عام 2005 مع إنشاء شركة مناجم النحاس الموريتانية، وهي الشركة التي يصل متوسط إنتاجها السنوي من الذهب إلى 50 ألف أونصة، حسب بيانات الشركة.
فضلًا عن الذهب، يمتلك هذا البلد العربي ثروة هائلة من الحديد، وتمكنت البلاد من تصدير 12.5 مليون طن من الحديد الخام عام 2020، ما يمثل زيادة معتبرة مقارنة بمبيعات عام 2019 وفق المدير العام للشركة الوطنية للصناعة والمناجم في موريتانيا، المختار ولد أجاي، ناهيك عن النحاس الذي يبلغ احتياطي البلاد من هذا المعدن 28 مليون طن.
يعاني طفل من بين كل 5 أطفال من سوء التغذية، في وقت يعدّ فيه متوسط الدخل السنوي للمواطن الموريتاني من أقل المتوسطات عالميًّا ولا يتجاوز 1670 دولارًا
لا تقتصر ثروات البلاد على المعادن، إنما تتعداها إلى الأسماك، إذ يوجد في موريتانيا واحد من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى، وذلك على امتداد قرابة 800 كيلومتر على المحيط الأطلسي، وعرف إنتاج السمك طفرة كبيرة فترة 2009-2016 من 90 ألف طن إلى 773 ألف طن، أي بزيادة قدرها 759%.
تمتلك موريتانيا أيضًا ثروات حيوانية وفيرة ومتنوعة، بمساحات رعوية شاسعة، ما مكّن البلد من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الحيوانية، وتقدَّر الثروة الحيوانية في موريتانيا بأكثر من 22 مليون رأس (إبل وبقر وماعز وضأن)، وتتزايد هذه الثروة بشكل مستمر بنسبة تفوق 3.5% سنويًّا.
إلى جانب ذلك، عرفت موريتانيا في السنوات الأخير اكتشافات مهمة للغاز في أراضيها وحدودها البحرية، ومن المنتظر أن تبيع أول شحنة غاز نهاية عام 2023، ويعتبر حقل بئر الله الواقع في المياه الموريتانية بالمحيط الأطلسي من أبرز هذه الاكتشافات، إلى جانب حقل سلحفاة آحميم وهو مشترك مع السنغال.
رغم كل هذه الثروات، يضطر الشاب الموريتاني للمخاطرة بحياته والهجرة إلى الولايات المتحدة، ذلك أن نسبة البطالة في البلاد مرتفعة وتتجاوز 31%، أي أن قرابة ثلث الشعب ليس له مصدر دخل، كما يوجد نحو 600 ألف شخص يعانون الجوع.
وما زال معدل الفقر مرتفعًا، حيث يعيش 28.2% تحت خط الفقر، فيما يعاني طفل من بين كل 5 أطفال من سوء التغذية، في وقت يعدّ فيه متوسط الدخل السنوي للمواطن الموريتاني من أقل المتوسطات عالميًّا ولا يتجاوز 1670 دولارًا لعام 2020، ما يجعل موريتانيا ضمن الدول الأقل سعادة في العالم.
إلى جانب الفقر وارتفاع نسب البطالة وغياب مظاهر التمدن في البلاد، هناك أسباب أخرى تدفع الموريتانيين إلى الهجرة، وأهمها فساد المنظومة الحاكمة وسيطرة العسكر والقبيلة على البلاد، فهما بمثابة العائق أمام تقدم الدولة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية ودولة القانون، وبروز ديمقراطية حقيقية.
ماذا عن دوافع “السود”؟
الملاحظ خلال موجة الهجرة الأخيرة، أن أصحاب البشرة السوداء يمثلون النسبة الأكبر من المهاجرين غير النظاميين، ويقول هؤلاء إنهم مستهدفون من قبل نظام الرئيس محمد ولد الغزواني بسبب لون بشرتهم، وهو السبب نفسه الذي دفع آلاف الموريتانيين للهجرة إلى أمريكا في تسعينيات القرن الماضي.
نهاية شهر مايو/ أيار الماضي، شهدت موريتانيا مظاهرات واحتجاجات بعد مقتل الشاب عمر ديوب في مركز للشرطة بالعاصمة نواكشوط، وهو شاب من الأقلية السوداء، وخلال الاحتجاجات لقي شخص مصرعه وأصيب آخرون في مدينة بوغي بولاية لبراكنه (جنوب)، بينما كانت الشرطة تفرّق تظاهرة غاضبة.
كثيرًا ما تشهد موريتانيا احتجاجات من أصحاب البشرة السمراء، ردًا وتنديدًا باستهداف الحكومات الموريتانية المتعاقبة على حكم البلاد لهم، خاصة أن ملف الانتهاكات والتجاوزات الإنسانية الصارخة التي حدثت في موريتانيا بالفترة ما بين عامَي 1989 و1992 التي أعدم خلالها مئات السود الموريتانيين، ما زال محفورًا بذاكرتهم.
ينقسم السود إلى 3 شرائح، وهي البولار والسونيكي والولوف، لكل واحدة منها لهجتها الخاصة، ويتعرضون لمضايقات النظام وحقوقهم مهدورة، وكل الوعود بإنصافهم لم تتحقق بعد.
يسلّم الشباب الموريتاني حياته للسماسرة، رغم خطورة الأمر، بحثًا عن بلد من شأنه أن يوفر لهم مستقبل أفضل، ذلك أن بلادهم تنكرت لهم وحرمتهم من أبسط مقومات الحياة الكريم، في ظلّ استمرار سيطرة العسكر والقبيلة على حكم البلاد.