قبل أيام قليلة، تسربت تفاصيل لقاء جمع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش ونظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين في روما، وبمجرد انتشار الخبر انتاب الشارع الليبي حالة من الغضب وخرجت مسيرات من كل المدن الليبية رافضة للعلاقة مع “إسرائيل”.
تبين لاحقًا أنها ليست المرة الأولى التي يدّعي فيها كيان الاحتلال عقد لقاءات مع مسؤولين ليبيين، فمنذ سنوات تورط العديد من المسؤولين في محاولات التطبيع، ورغم اختلاف تداعيات ونتائج كل لقاء، فإن الهدف واحد وهو جر ليبيا إلى فخ التطبيع، لكن الموقف الشعبي الرافض يحول دون إحراز أي تقدم ممكن في مسار التطبيع بين البلدين.
إلى جانب الرفض الشعبي، فإن القانون الليبي رقم 62 الصادر عام 1957 يحظر على كل شخص طبيعي أو اعتباري أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقًا من أي نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في “إسرائيل” أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو مع من ينوب عنهم، ويعاقب كل من يخالف ذلك بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على 10 سنوات، ويجوز الحكم بغرامة مالية.
وما يؤكد أن القضية الفلسطينية عند الليبيين هي الأولى ولا جدال بشأنها، أعلن رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة إقالة الوزيرة المنقوش من مقر السفارة الفلسطينية، وفي استطلاع للرأي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 4 يناير/كانون الثاني الماضي، أفاد بأن 96% من الليبيين يرفضون التطبيع أو الاعتراف بكيان الاحتلال.
وبحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه المركز على 14 دولة عربية، حلّت ليبيا في المرتبة الثانية في رفض الاعتراف بـ”إسرائيل” بعد الجزائر وموريتانيا بنسبة 99%، في حين بلغت نسبة رافضي التطبيع في العراق 92% وتونس 90%.
محاولات سابقة للتطبيع
شهدت العقود الأخيرة لنظام معمر القذافي أول الاتصالات بين النظام واليهود ذوي الأصول الليبية الذين غادروا ليبيا عام 1976 إثر احتجاجات شعبية، إذ طالب اليهود الليبيون بحقهم في العودة والتعويض عن ممتلكاتهم السابقة.
كشف عن تلك الاتصالات حديث لسيف الإسلام القذافي، في أحد خطاباته عام 2008 ضمن برنامجه السياسي الذي حمل مسمى “ليبيا الغد” الذي كان يهدف لتحديث نظام والده، ودفع تعويضات لليهود ذوي الأصول الليبية عن ممتلكاتهم التي فقدوها، بمن فيهم الذين غادروا إلى “إسرائيل”، وإمكانية عودتهم إلى ليبيا والتمتع بكل حقوقهم المدنية.
بعد تداول حديث سيف القذافي عبر وسائل الإعلام، عاد ليؤكد أن دفع التعويضات لليهود لا يترتب عليه فتح اتصالات مع “إسرائيل” لإقامة علاقاته معها.
في يوليو/تموز 2017 كُشف الغطاء عن أول لقاء رسمي جمع مسؤولين ليبيين بمسؤولين إسرائيليين برعاية منظمة “اتحاد يهود ليبيا”، التي تضم اليهود الليبيين من غير الإسرائيليين، في جزيرة رودوس اليونانية تحت عنوان “مؤتمر المصالحة والحوار بين يهود ليبيا والعرب”.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، كشفت صحيفة “معاريف” عن اتصالات دارت على هامش القمة الدولية بشأن القضايا الليبية في باريس لمحاولات تدارس إقامة علاقات دبلوماسية بين كيان الاحتلال وليبيا.
تنوعت أغراض اتصالات حفتر بـ”إسرائيل” طيلة السنوات الماضية سواء من أجل الدعم العسكري أم الدبلوماسي وتعزيز موقعه بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف الليبي
وفي 12 يناير/كانون الثاني 2022، ذكرت قناة “العربية الحدث” السعودية ما تداولته وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن “الدبيبة بحث مع رئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع في عمان تطبيع العلاقات بين ليبيا و”إسرائيل”.
أما على الصعيد غير الرسمي، ففي أواخر 2021، ادعت صحيفة “إسرائيل اليوم” أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر تحدث أكثر من مرة عن التوصل إلى اتفاق تطبيع، ويوصف حفتر بأنه أبرز الشخصيات المرشحة لتحقيق الطموحات الإسرائيلية، سواء بسبب عدائه الواضح للقوى الثورية والإسلام السياسي أم بفضل علاقاته الوثيقة بالإمارات، التي باتت الصديق الأبرز لـ”إسرائيل” في العالم العربي.
تنوعت أغراض اتصالات حفتر بـ”إسرائيل” طيلة السنوات الماضية سواء من أجل الدعم العسكري أم الدبلوماسي وتعزيز موقعه بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف الليبي، بالإضافة إلى سعيه للحصول على دعم في وجه المحاكم الأمريكية التي تطالبه بالمثول أمامها على خلفية اتهامات وجهتها له أسر ليبية قُتل أبناؤها خلال حروبه في بنغازي وطرابلس.
وكانت أول اتصالات حفتر بتل أبيب عقب إطلاقه عملية الكرامة في بنغازي، في 2014، حين أعلنه مجلس النواب “قائدًا عامًا للجيش” ورقاه لرتبة “مشير”، وكان هدف الاتصالات القيام بعملية عسكرية كبرى في ليبيا وفقًا لموقع “ديبكا” الإسرائيلي.
تاريخ العلاقات الفلسطينية الليبية
منذ احتلال الأراضي الفلسطينية، لم تتوان ليبيا عن تقديم المساعدة للفلسطينيين، فاعتبرت قضيتهم عادلة تحتاج إلى حل سياسي يتمثل في إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على أراضيها المحتلة بما في ذلك شرقي القدس.
فتحت ليبيا بواباتها لاستقبال الفلسطينيين الذين تمتعوا بذات الحقوق التي ينالها المواطن الليبي حيث التعلم والعلاج المجاني، بالإضافة إلى الحصول على وظائف تناسب تخصصاتهم، كما حدثت مصاهرة بين الشعبيين كون كثير من العائلات استقرت في المدن الليبية.
يصف إبراهيم حبيب أستاذ الدراسات الإستراتيجية وخبير الأمن القومي، العلاقات الليبية الفلسطينية أنها متجذرة منذ عقود طويلة، وقد مثل الشعب الليبي في محطات كثيرة حاضنة للفلسطينيين وقدم الدعم والإسناد المالي للثورة الفلسطينية واحتضن قادتها.
ذكر حبيب لـ”نون بوست” أن زمن معمر القذافي – الرئيس الليبي السابق – كان الفلسطيني يتمتع بذات الامتيازات التي يحصل عليها الليبي من حيث الصحة والتعليم والحقوق، موضحًا أن النظام الليبي استوعب الطلبة الفلسطينيين أيضًا في الجامعات خاصة أن فلسطين كانت القضية الأولى لهم.
وعن الاحتجاجات الشعبية التي خرجت من ليبيا لتندد بلقاء وزير خارجيتها المنقوش مع نظيرها الإسرائيلي، أكد أن ذلك ليس غريبًا على الشعب الليبي ليظهر معاداته لـ”إسرائيل”، فهو رغم الحالة التي يعيشها منذ ثورته 2011 لديه القدرة للتعبير عن إرادته الوطنية والقومية.
وأشار حبيب إلى أن إعلان رئيس الحكومة الدبيبة إقالة وزيرة الخارجية من مقر السفارة الفلسطينية له دلالاته التي تؤكد عمق العلاقات الفلسطينية الليبية.
تؤكد العلاقة التاريخية بين فلسطين وليبيا، والاحتجاجات التي دارت في شوارع طرابلس لفظ الجماهير لأي مصالح دبلوماسية أو اقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي
ولفت إلى أن “إسرائيل” لا تكل من محاولات التطبيع للالتفاف على القضية الفلسطينية عبر الدول العربية، مبينًا أن هذه المرة كانت برعاية أمريكية لاستعطاف الليبيين وإغرائهم بالمكاسب السياسية والاقتصادية، لكن رد الشعب الليبي كان واضحًا.
وفيما يتعلق بلقاءات سرية جرت قبل ذلك في “إسرائيل” مع اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر أو ابنه صدام لطلب مساعدة عسكرية وسياسية من تل أبيب مقابل إقامة علاقة دبلوماسية بين ليبيا و”إسرائيل”، يعقب حبيب بالقول: “حفتر كان يستقوي بالاحتلال والأنظمة الأوروبية في محاولة لفرض سيطرته على ليبيا، وهذا الأمر متوقع من وجود شخصيات لديها النية للتطبيع مع الاحتلال لتحقيق مكاسب سياسية”.
نقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن مصادر دبلوماسية في الدول العربية والولايات المتحدة أن الاضطرابات التي أحاطت بالاجتماع بين وزير خارجية الاحتلال ونظيرته الليبية ستؤثر في محاولات تعزيز التطبيع بين “إسرائيل” والدول العربية والإسلامية الأخرى في المستقبل القريب.
وعما سبق، يرى حبيب أن ما جرى قبل ليبيا، وقع في السودان لكن بعد إعلان التطبيع حيث الدمار والخراب كان دليلًا واضحًا على رفض الشعوب للتطبيع رغم موافقة المستوى السياسي، بالإضافة إلى أن هناك دولًا مثل تونس تخشى الإعلان عن التطبيع خاصة في ظل المشكلات الداخلية التي يعاني منها رئيسهم قيس بن سعيد.
تؤكد العلاقة التاريخية بين فلسطين وليبيا والاحتجاجات التي دارت في شوارع طرابلس، لفظ الجماهير لأي مصالح دبلوماسية أو اقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة لديهم، فأي محاولة رسمية جديدة للتطبيع تنذر بتفجير الأوضاع الداخلية في ليبيا.