سار ملف الحل السياسي في سوريا في خط متعرج متقلب، ومرّ بمراحل متعددة تأثرت بتغييرات سياسية ودولية ومواقف القوى الدولية من الملف السوري وحجم تداخلها وانخراطها فيه، ابتداءً ببيان جنيف1 عام 2012، مرورًا بفكرة المجموعات الأربعة وبيانات فيينا 1+2 والقرار رقم 2254، ومساري أستانا وسوتشي، وانتهاءً باللجنة الدستورية وانطلاق أول اجتماعاتها في عام 2019.
وأصاب هذا الملف انحرافات حادة عقب التدخل الروسي المباشر في سوريا عام 2015 إلى جانب نظام الأسد، وتمكّنها من زيادة مساحة سيطرته على طول الجغرافيا السورية، وتثبيت أركان النظام ومنع سقوطه عسكريًا، وتراجع قوى الثورة والمعارضة عسكريًا وسياسيًا، وتماهي المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة، مع نظرة روسيا ورؤيتها للحل السياسي في سوريا.
ومع فشل نظام الأسد وحلفائه في تحقيق حسم عسكري شامل، وانقسام الخريطة السورية إلى عدة مناطق نفوذ مدعومة بقوى إقليمية ودولية، تراجعت حظوظ الحسم العسكري لأحد الأطراف، وأصبح أكثر تعقيدًا، ووصل إلى طريق شبه مسدود، في مقابل ازدياد حظوظ الحل السياسي، واستخدام مختلف الأطراف الدولية أوراقًا سياسية واقتصادية وعسكرية توسع بها هامش مكاسبها، وتحجز بها مقعدًا في المرحلة المقبلة.
وهو ما ينطبق تمامًا على القوى الدولية الممسكة بورقة تمويل إعادة إعمار سوريا، وتحديدًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي ترفض رفع عقوباتها الاقتصادية عن نظام الأسد، وتصر على التشبث بها وتحرص على تجديدها باستمرار، واستحداث عقوبات جديدة وفقًا لطبيعة المرحلة، وتطورات الموقف السياسي تجاه الملف السوري، قبل تقديم النظام وحلفائه تنازلًا حقيقيًا بما يتعلق بالانخراط الفعلي بحل سياسي يسبق عملية إعادة الإعمار.
الحل السياسي شرط لإعادة الإعمار
يرتبط ملف إعادة الإعمار ارتباطًا وثيقًا بتحقيق توافق وحل سياسي شامل ونهائي في سوريا، يوفر بيئة آمنة ومستقرة، بعيدة عن التهديدات الأمنية والعسكرية، ويعيد بناء المؤسسات الحكومية وهيكلتها، ويستجلب موارد التمويل الاقتصادي اللازم للبدء بمشاريع الإعمار من المانحين الدوليين، ويعيد اللاجئين السوريين إلى بلدهم وينهي مأساتهم ويضمن مشاركتهم بعملية الإعمار، بمختلف جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.
ولما للحل السياسي من أهمية كبيرة كونه قاعدة أساسية سابقة لعملية إعادة الإعمار، فقد أولته القوى الدولية المنخرطة في الملف السوري أيضًا أهمية فعلية، ووضعته على سلم الأولويات للبدء بعملية الإعمار، لا سيما روسيا والغرب.
إذ حرصت روسيا على الهيمنة على تفاصيل وترتيبات الحل السياسي المحتمل في سوريا، وتجييره لصالح حليفها نظام الأسد، ولصالح سرديتها للحل النهائي في سوريا، مستفيدةً من التماهي الدولي مع رؤيتها الداعمة لتحركات النظام، وفرضت على مختلف الأطراف واقعًا عسكريًا وسياسيًا لا يمكن تجاهله.
وسعت عبر دبلوماسيتها إلى إقناع المجتمع الدولي بضخ الأموال لإعادة الإعمار، لما قد ينعكس على اقتصاد نظام الأسد، وكسر العزلة الدولية المفروضة عليه، وما قد تجنيه من عوائد مالية واستثمارات ضخمة للشركات والمؤسسات الروسية الفاعلة في سوريا.
ويمكن القول إن نظام الأسد وحلفاءه فشلوا فعليًا في حصد نتائج الانتصار العسكري وتحويله إلى انتصار آخر سياسي معترف به دوليًا يفتح لهم نافذة نحو إعادة الإعمار بعد فشل خطوات إعادة تعويم الأسد، وعجزهم عن إقناع المانحين الدوليين بضخ أموال الإعمار.
بالتزامن مع انعكاس توتر العلاقات الأمريكية الأوروبية مع روسيا وحلفائها، نظام الأسد وإيران، عقب الحرب الروسية على أوكرانيا، التي أدت إلى تراكم الضغوطات الاقتصادية، فضلًا عن عقوبات أمريكية أخرى بموجب قانون قيصر.
لا إعمار دون حل سياسي في سوريا
رغم الانكفاء الغربي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) عن المسألة السورية، وإفساح المجال أمام روسيا وإيران لدعم نظام الأسد في تثبيت حكمه عسكريًا، وغض الطرف نسبيًا عن خطوات التطبيع الإقليمي مع النظام، فقد تشبث الغرب برفض الاعتراف بنظام الأسد ونصر حلفائه العسكري، والحرص على عدم تحويله إلى انتصار سياسي وفق رؤية النظام.
واستطاع الغرب قطع الطريق أمام نظام الأسد وحلفائه، عبر إمساكه ورقة إعادة الإعمار والعقوبات الاقتصادية التي تحول دون ضخ أموال الإعمار وتمنع المانحين الدوليين من تقديم الأموال والقيام بالاستثمار، وربط العملية بالوصول إلى حل سياسي شامل وفقًا لمخرجات قرار مجلس الأمن 2254 عام 2015، ومقاربته المبنية على تحقيق انتقال سياسي في سوريا، الذي يؤكد على تطبيق 4 مضامين رئيسية تتمثل بقيام حكم شامل وغير طائفي وتوفير بيئة آمنة ومحايدة وكتابة دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات نزيهة.
وتصر الولايات المتحدة على ربط عملية الإعمار بتحقيق حل سياسي نهائي، وربطت ذلك بسلسلة عقوبات اقتصادية ذات طابع وأهداف سياسية، أبرزها قانون قيصر الذي أقرته أواخر عام 2019م، الذي يحمل رسائل أمريكية واضحة باستحالة بدء عملية الإعمار، واستئثار نظام الأسد وحلفائه بعقود الإعمار، دون التوصل إلى الحل السياسي.
كما أن انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا تؤثر سلبًا على ملف إعادة الإعمار، وعلى جهود تعويم نظام الأسد دوليًا، ورفع العقوبات الاقتصادية عنه، أو التغاضي عن تجاوزات بعض القوى الإقليمية والدولية فيما يتعلق بمحاولاتها كسر عزلة النظام، والشروع في استثمارات معتبرة تحت بند إعادة الإعمار أو التعافي المبكر، لا سيما بعد موقف نظام الأسد الداعم للحرب الروسية، وإرساله مرتزقة سوريين للمشاركة معها.
إذ أكد الاتحاد الأوروبي على رفضه القاطع المساهمة بعملية الإعمار قبل تحقيق تقدم في العملية السياسية، وتقديم تنازلات جادة على طاولة المفاوضات السياسية، وكرر تشديده على لاءاته الخاصة تجاه سوريا، وهي “لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات”.
وشرع الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات اقتصادية دورية على أفراد وكيانات مرتبطة بنظام الأسد، كان آخرها إقراره حزمة عقوبات اقتصادية بتاريخ 24 أبريل/نيسان عام 2023 شملت 25 شخصية و8 كيانات مرتبطة بالنظام وتتورط بانتهاكات ضد السوريين، وعلى صلة بإنتاج وتهريب المخدرات.
كما صعّدت الولايات المتحدة لهجتها تجاه نظام الأسد وتوعدت بملاحقته ومحاسبته دوليًا على جرائمه، مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوتر علاقاتها مع روسيا، بعد فترة من تبنيها سياسة التراخي والتجاهل تجاه جهود تعويم النظام.
فقد نشرت السفارة الأمريكية في دمشق في مارس/آذار عام 2022 عقب اندلاع الحرب تغريدة عبر حسابها الرسمي في “توتير” قالت فيها: “شهر مارس/آذار سيكون شهر المحاسبة، وسينتهي الإفلات من العقاب في سوريا”، وذكرت بجرائم رأس النظام ضد السوريين.
وأكدت خلال اجتماع لمجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، الذي ضم ممثلين عن الولايات المتحدة وتركيا وفرنسا وألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة والعراق والأردن وقطر والمملكة العربية السعودية في العاصمة الأمريكية واشنطن، الالتزام بتطبيق القرار 2254 وتحقيق نتائج ملموسة في الجولة السابعة للجنة الدستورية وإطلاق سراح المعتقلين وملاحقة الجرائم المرتكبة في سوريا.
فضلًا عن تضمينها قانون مكافحة تجارة مخدرات النظام في ميزانية الدفاع لعام 2023، وإقرار لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع النظام في العام نفسه، ورفض تجديد “الإعفاء الإنساني” التي عُلقت بموجبه العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد عقب الزلزال في شهر فبراير/شباط الماضي.
إضافة إلى تقديم مجموعة مشرعين أمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مشروع قرار يمنع الحكومات الأمريكية من الاعتراف ببشار الأسد رئيسًا لسوريا.
وعمومًا، يشهد الملف السياسي في سوريا جمودًا بعد عشرات الاجتماعات العبثية للجنة الدستورية السورية، التي اختزل المجتمع الدولي الحل السياسي بها، واستطاع نظام الأسد إغراق قوى المعارضة السورية فيها بالتفاصيل، دون تقديم أي تنازل حقيقي فيما يتعلق بانخراطه الفعلي في مسار الحل السياسي.
فضلًا عن بقاء الملف السوري حبيس التوافقات الدولية والإقليمية التي لم تصل إلى الآن إلى حل وسط بينها يضمن مصالحها الإستراتيجية في سوريا والمنطقة، وهو ما يعني استبعاد الوصول إلى حل سياسي لسوريا في الوقت الراهن.
ولا يبدو أن النظام مهتم بتحقيق تقدم ملموس أو تقديم تنازل سياسي معين، حيث كرر رأس النظام في مقابلته الأخيرة مع قناة سكاي نيوز عربية رفضه أي حل سياسي يمهد لانتخابات حرة ونزيهة أو الاعتراف بالمعارضة، متهمًا إياها بالعمالة للخارج.
وبالتالي، فإن ضخ الأموال لإعادة الإعمار والبدء بمشاريع واستثمارات الإعمار في سوريا أمر مستبعد وغير وارد حاليًا، نتيجة استمرار العقوبات الاقتصادية، لا سيما الأمريكية، على نظام الأسد، وربط ملف الإعمار بالحل السياسي الذي ما زال رهين تعنت نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.