تتجاذب موضوع المرأة بشكل عام عدد من الأطر القيمية التي تتخذها موضوعًا له، بدءً من المجتمعات البسيطة، والمعقدة، مرورًا بالأعراف والتقاليد، وانتهاءً بالأديان والمذاهب الفكرية والمعرفية التي تتناول هذا الموضوع. ويتحدد مدى انجذاب المرأة لأحد هذه المواضيع بمديات تأثير وسلطة هذه المواضيع، فكلما كان إطار قيمي له حضور أكبر في الواقع السلوكي والاجتماعي والفكري، كل بحسبه، كلما كان أكثر تأثيرًا.
وفي مثل مجتمعاتنا العربية، وخصوصًا المحلية منها، يمكن قراءة وضع المرأة بين الإسلام كمنظومة متكاملة، والمجتمع ممثلًا بعاداته وتقاليده وسلوكياته المتوارثة. ورغم أن الممارسات الدينية مندكّة في كثير من سلوكيات المجتمع وعاداته، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة عدم التمايز بينهما، ذلك أن الممارسة ليست هي عين الأمر والفكرة التي جاء بها الدين، بقدر ما هي تطبيق تبيّأ فنتج عنه هذا السلوك.
أولًا: الجانب الاجتماعي
يصاحب المجتمع المحلي اليوم نوع من شعور الالتباس والتشويش المفاهيمي المتعلق بموقعية المرأة ودورها في الحياة العامة؛ نتيجة للانفتاح النسبي الذي طرأ في العقود الأخيرة على نمط الحياة عامة، وانتشار التعليم والتنمية الثقافية لكلا الجنسين، والانفتاح الإعلامي الهائل، ونتيجةً أيضا لتعدد أدوار المرأة خارج النطاق التقليدي، حيث أضحت تشغل كافة المناصب التي يشغلها الرجال تقريبًا وتمارس أدوارهم.
التغيير جرّ – وفي حالات مجتمعية كثيرة – تمايزًا وتباينًا لأدوار المرأة على مستويين: مستوى العمل – خارج الإطار التقليدي، ومستوى الداخل – مجتمعي. فإذا كانت المرأة في الإطار المجتمعي التقليدي يحظر عليها أن تخالط الرجال، ويجب عليها الالتزام بارتداء زي معين، وغير ذلك مما قد تفرضه المجتمعات المحلية، فإنها خارج هذا الإطار التقليدي، العمل مثلًا، تكسر هذه القواعد بكل وضوح وصراحة، فهي تعمل مع الرجال، وتلبس ما يناسب وضع تلك المهنة، بل وتملك سلطة إدارية على الرجل، بخلاف ما هو عليه داخل ذلك المجتمع التقليدي.
في مثل مجتمعاتنا العربية، وخصوصًا المحلية منها، يمكن قراءة وضع المرأة بين الإسلام كمنظومة متكاملة، والمجتمع ممثلًا بعاداته وتقاليده وسلوكياته المتوارثة. ورغم أن الممارسات الدينية مندكّة في كثير من سلوكيات المجتمع وعاداته، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة عدم التمايز بينهما
بعبارة أخرى: فإن قواعد الاختلاط بين الجنسين تكاد تكون شبه معدومة في الإطار الخارج-مجتمعي، وذلك بغض النظر عن موافقة الضوابط الشرعية أو لا؛ لأن الأمر راجع لتشخيص الحالات لا إطلاق الأحكام. في حين أنها ما برحت موجودةً في الإطار الداخل-مجتمعي.
وعلى الرغم من أن فئةً لا بأس بها لا زالت تعارض هذا النوع من التوسع في أدوار المرأة في المجتمع، لأسباب قد نتفق معهم فيها أو نختلف، إلا أن الأمر أصبح واقعًا ومن الحتمي التعامل معه، بل لا يمكن الفرار منه، فهو – سواء شئنا أم أبينا – متحقق في العالم الخارجي، الأمر الذي يحتم على الجميع التعامل معه بما هو موجود، بما هو تجربة، لا بما ينبغي أن يكون عليه أو بما هو مثل ونظريات.
وهذا الالتباس لا يظهر بصورة واضحة جلية، وإنما يتمظهر عبر عدد من الانفعالات والسلوكيات التي يتخذها أبناء هذا المجتمع تجاه المرأة، بل والمرأة نفسها في ما يصدر عنها، كما هو شأن كثير من التغيرات. فهو – في أضعف حالاته – مرحلة انتقالية في أدوار المرأة، ستتوج بإزالة لهذا الغموض الحاصل، خصوصًا وأن نشأة جيل محدثٍ على هذه التباينات، يولد فيه رغبة وجنوحًا آليًا للوضوح.
هذا من الجنبة الاجتماعية البحتة. وهي تفرض على أفراد المجتمع أن يضبطوا الحدود بين الجنسين بما لا يخل بالضوابط الشرعية والفقهية، لتلافي أي انفلات قد تخرج به النتائج إذا ما خليت وآليتها الطبيعية.
ثانيًا: الجانب الديني
أما من جنبة الدين، وهو الإطار القيمي الآخر الذي يشكل السمة الأكثر بروزًا في المجتمعات العربية والخليجية خصوصًا، فالأمر يغدو أكثر التباسًا منه في المجتمع، وذلك للتباينات والخلافات – التي تكاد تصل لحد كبير أحيانًا – حول طبيعة دور المرأة وحدود علاقتها بالأجنبي وما يمكن لها أن تمارسه، والأحكام الشرعية المتعلقة بها وغير ذلك من دينيّات المرأة في الداخل الديني نفسه، إن على صعيد رجال الدين فيما بينهم أو المثقفين ورجال الدين.
يصاحب المجتمع المحلي اليوم نوع من شعور الالتباس والتشويش المفاهيمي المتعلق بموقعية المرأة ودورها في الحياة العامة؛ نتيجة للانفتاح النسبي الذي طرأ في العقود الأخيرة على نمط الحياة عامة، وانتشار التعليم والتنمية الثقافية لكلا الجنسين
وإذ نتكلم عن هذه الجنبة، لا بد من الإشارة إلى صعوبة الفرز المنهجي أحيانًا بين الدين والمجتمع، نتيجةً لشبه الالتحام بين سلوكيات المجتمع والتعاليم الدينية من حيث انفعال المجتمع بالدين، غير أنّا ننظر في هذا الإطار للدين لا بوصفه ممارسةً مجتمعية بحتة صادرة عن المجتمع، بل بوصفه التعاليم التي تؤدي دور الفاعل والمحرك، وإن كان الخلاف قائمًا حول هذه التعاليم ومصادرها.
والأمر يصبح أكثر التباسًا في التعاليم الدينية ذات المرجعية العرفية في التفسير، كالأخلاق واللباس والمأكل والمشرب وغيرها من واجبات وسنن، حيث كثيرًا ما تعتبر الذهنية العرفية ممارسات فئة معينة في إطار زماني ومكاني ما، تعتبرها الأنموذج الحصري لتطبيق هذا الحكم، وبالتالي تُنقل التعاليم الدينية الفاعلة مثقلةً ومصقولةً بتلك الممارسة. ومن غير الخفي الخطل في ذاك.
وعلى أي حال، فإن الجدال حول مسائل المرأة من منظور ديني، يمكن القول أنه حميَ في القرن العشرين في العالم الإسلامي، وذلك في الوقت الذي كاد الأمر أن يكون محسومًا، بل أصبح، في الجانب الغربي، على الرغم مما فيه من تعقيدات وما مر به من خلافات وإرهاصات أنتجته. لكنه كان في الزمن نفسه، على العكس عند المسلمين.
أخذت الخلافات والتباينات الفكرية في الداخل الإسلامي تصبح أكثر بروزًا تجاه المرأة وقضاياها في القرن العشرين، حيث خلّف هذا القرن اتجاهات عدة في هذا الشأن، لا تزال تأثيراتها لليوم، ولم ترقَ إلى أن تكون شيءً واحدًا جامعًا بين الأمة ككل، كما حصل عند الغرب.
ويمكن لنا الحديث في هذا الشأن عن ثلاثة مواقف أساسية في النظر للقضايا المستحدثة، والتي كانت المرأة واحدة منها، وذلك تبعًا للبنى التحتية التي يقوم عليها فكر من حاول المعالجة، وهي مواقف لا تخرج أية محاولة في قضية المرأة عن واحد منها:
أ: الاتجاه التجديدي النصي
حيث لا زال هذا الاتجاه مصرًا على الاحتكام لمرجعية النص الشرعي، من كتاب وسنة، وسلطته على المنظومة الفكرية الإسلامية. غير أن سمة الجدادة فيه ظهرت عبر العمليات التي مارسها على النص نفسه، والتي أدت بشكل ما إلى تقويض سلطته أو الحد منها، ويمكن الإشارة لعمليتين أساسيتين:
الأولى: إعادة موضعة النص في سياقه التاريخي، حيث تفترض نوع من التاريخية تحيط بالنص، مفادها أن النص ناتج عن بنى اجتماعية قديمةٍ مباينة للواقع الاجتماعي الحالي. فعلى سبيل المثال، افترض ربط مسألة إرث المرأة بالاقتصاد المجتمعي الذي كان قائمًا آنذاك على الذكور فقط، وافترض وجود نوع علاقة بين المستوى المتدني للمرأة آنذاك وقوانينَ الأسرة في الإسلام، وهكذا.
الثانية: التنقيب في الجنبة الصدورية لنصوص السنة، أما القرآن فمن الصعب افتراض ذلك. فيهدف هذا التنقيب إلى تمييز الصادر من الذي لا يمكن التحقق من نسبة صدوره، وبالتالي حدٌّ من سلطة بعض النصوص. صحيحٌ أن هذا النوع من العمليات على النصوص موجود مسبقًا عند الفقهاء، لكن ما ميزها ههنا هو أن ذهنية المجتمع القديم كانت تحمل تصورات كثيرة لا يمكن القبول بها الآن، وبالتالي يتسرب احتمال كون النص النبوي موضوعًا بناءً على استفحال تلك الفكرة، ولما كان الفقيه السابق من بني ذاك المجتمع، متساوقًا معه، كان من الطبيعي أن يغض نظره عن احتمال الوضع، اتكالًا على الفهم العام، كما هو الأمر في مسألة نقصان عقل المرأة مثلًا.
ويمكن تلمس انعكاسات هذا الأمر في أصول الفقه، متمثلًا بإعادة تحقيق مقولتي الإجماع والشهرة والسلف الصالح. وكذلك فإن الاتجاه التقليدي في علماء الدين قد ألف هذا الأمر مسبقًا كما بينت، بخلاف الأمر الأول، الذي يصطحب معه شعورًا بالتنافي مع المسلمات الفقهية والكلامية الثابتة بأدلة قوية، والتي مفادها ثبات النص وصلاحيته لكل مكان وزمان.
ب: الاتجاه التجديدي العقلاني المحض
وهو على خلاف السابق، فبدلًا من الارتكاز على النص وممارسة بعض العمليات التبييئية للنص على الواقع، ذهب هذا الاتجاه إلى إنكار أن يكون للنص مرجعية في هذا النوع من الحقول والمسائل، وذلك بدرجة متفاوتة بينهم.
فوفق هذا الاتجاه، إنما يجب خوض هذه المسائل من زاوية حضارية بحتة، غير متشبة بأذيال الماضي ومحملة بأثقاله، فيبرر بذلك التغيير الجذري لبعض أمور مؤسسة الزواج، والميراث، والطلاق، هذا فضلًا عن الفراغ من مسائل الزي والمساواة التامة وقوانين العقوبات.
ج: الاتجاه المدَرسي
وهو اتجاه الغالبية المحضة من العلماء، الذين واجهوا الشؤون المستحدثة تلك، وذلك عبر أحد طريقين:
الأول: الاتجاه الماضوي، والذي رفض رفضًا شاملًا أي حديث عن المرأة، واكتفى بالنتاج الفكري القديم والوضع الاجتماعي القديم، حيث انطلقوا من عدة قناعات كلامية وفقهية، ومن تجارب سابقة يرون فيها أفضل أنموذج لحفظ الأسرة والمجتمع، وتخفيض الفساد الأخلاقي والاجتماعي.
على الرغم من أن فئةً لا بأس بها لا زالت تعارض التوسع في أدوار المرأة في المجتمع، لأسباب قد نتفق معهم فيها أو نختلف، إلا أن الأمر أصبح واقعًا ومن الحتمي التعامل معه، بل لا يمكن الفرار منه
الثاني: وهو اتجاه يمكن وصفه بالتوفيقي والعقلاني، حيث كان هذا الاتجاه – مع شدة حرصه على القداسة في أحكام الله جل وعلا – يقدم تفسيرات عصريةً للنتائج المفروغ منها، أي أنه يقوم بعملية عقلنة لمعطيات النصوص، فمثلًا: يقدم تفسيرات لقضايا الحجاب وعلاقته بالحرية، وتعدد الزوجات وعلاقته بالحقوق وغير ذلك.
وقد ساعادت التركيبة الذهنية – الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية على نجاح هذه التبريرات ومعقوليتها لدى الرأي العام، وهو ما يبعث القلق على استمرارية بقاء هذه التفسيرات؛ نتيجة التغيرات التي تطرأ دائمًا على هذه الذهنية.
وعلى أي حال، فإنا نجد – مع الأسف – أن واحدًا من أبرز الإشكاليات التي عانت منها كافة تلك الاتجاهات هي مرجعية الفكر الغربي، ففريق كان يرى الأنموذج الأسمى للمرأة في الفكر الغربي فيجذب قراءاته نحوه، وآخر كان يصر على التموضع في مكانه جراء وجود مرجعية عكسية هي الفكر الغربي، إلا ما ندر طبعًا.
في الواقع، لا يمكن لنا اليوم أن نفصل الغرب عن أي مشروع فكري عالمي، لكن في الوقت ذاته، لا يحق للإسلامي، من ناحية منهجية ومعرفية، أن يتماهى مع الغربي في مشروعه، بل إن لكل حضارة وأمة خصوصياتها الثقافية والفكرية، على أن هذا لا ينفي أن تقتبس كل حضارة من الأخرى، وإنما الاقتباس لا ينشأ عنه إفناء الهوية، وإلا صار استنساخًا.
وأيًا يكن، فكما لاحظنا، تختلف الاتجاهات الدينية – الفكرية الدينية في التعاطي مع موضوع المرأة انطلاقًا من الأصول المعرفية والفقهية التي يؤسس عليها هذا الفقيه أو المفكر بناءاته، ومن هنا وجدنا الاختلافات.
إن ما يمكن فعله لأجل استجلاء المواقف، هو الوعي الشديد من قبل أفراد المجتمع تجاه هذه الاتجاهات، وسلوك الجادة السليمة التي يتأتى معها القدر المتيقن من الاحتياط والمصلحة الدينية.