بين الحلم والواقع لحظة انتباه، ينتقل فيها الإنسان من خرافة الحلم الذي لا مستحيل فيه ولا عوائق، إلى الواقع المليء بالشروط والقوانين.
كذلك سيكون انتقال دونالد ترامب الرئيس الأمريكي من حلم دخول البيت الأبيض، وحكم أمريكا والتحكم بمصير العالم، إلى واقع الحكم. وهو أمر مختلف، وعالم آخر من العوائق والمواقف وردود الأفعال الرافضة والمتذمرة، والإرادات المتحدية، نعم ذلك ما سوف يواجهه ترامب بعد أن تزول سكرة الاحتفال بالتنصيب، ويقف على أرض الواقع وحقيقته التي لا تسير وفق هواه وأمانيه، بل إن للسياسة التزاماتها وللواقع حتميته.
إن واقع الحرب الباردة ليس هو واقع ما بعدها، ولا هو واقع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأمريكا التي خاضت حربي العراق وأفغانستان ليست أمريكا اليوم، فإنها إن كانت قد حسمت معركتها في أفغانستان، فهي لم تستطع حسمها في العراق، ولم تستطع مجرد التجربة والاقتراب –على الأرض- من معركة سوريا.
أصبحت القوة العظمى الوحيدة –الولايات المتحدة الأمريكية- عاجزة عن الحسم، وعن صياغة الواقع الدولي بمفردها، بسبب فرض واقع مغاير لرغبة وإرادة أمريكا
لقد فرضت متغيرات الواقع الدولي لما بعد الحرب الباردة نفسها على كل الوحدات الدولية صغيرها وكبيرها، وأصبحت سمة هذا الواقع الدولي تكاد تتميز بالحروب الغير مباشرة، حيث ترجح الكفة فيها لصالح حروب العصابات والمليشيات على حساب الجيوش النظامية، وتكاد تذوب فيها فوارق العدة والعتاد بسبب التكنولوجيا المتطورة التي لم تعد حكرا على الدول والحكومات، والتي ساوت في القدرة على التأثير بين الدول والفاعلين من غير الدول.
وأصبح في مقدور الفرد الواحد أو مجموعة من الأفراد القليلين أن يحدثوا تأثيرًا بالغًا، لم يكن لغير الجيوش النظامية أن تحدثه.
وإذا كان واقع الأمر أن القوة العظمى الوحيدة –الولايات المتحدة الأمريكية- عاجزة عن الحسم، وعن صياغة الواقع الدولي بمفردها، بسبب وجود تلك الفواعل من غير الدول، وقدرتها على مشاطرتها التأثير وفرض واقع مغاير لرغبة وإرادة أمريكا، فإنه ليس أمام الولايات المتحدة اليوم سوى التنسيق مع بقية الدول، ونهج سياسة تشاركية تخدم كل الأطراف، وتوفر أكبر قدر من الحماية لمصالح الجميع.
لأنه ليس من اليسير على أمريكا ولا على غيرها من الدول أن تطارد شبح الإرهاب، الذي لا تعرف عدد أفراده الذين يمكن القبض عليهم، ولا عدته التي يمكن قصفها، ولا جغرافيته التي من الممكن محاصرتها، ولا بنيته التحتية التي يسهل تدميرها. إنه شيء كالسراب، موجود ولكن لا يمكن الإمساك به.
ذلك واقع ما سوف يقف عليه دونالد ترامب مع مرور الوقت، وبعد بضعة أسابيع أو ربما شهور، وبعد شد وجذب ومعارك وهمية كتلك التي خاضها الدون كيشوت، وقرارات يعتقد أنها ستلجم الدول وتحصن أمريكا وتحميها، ليجد أن أصل المشكلة ليس مع الدول، ولا هو مع الأفراد الوافدين، بل هي أفكار وقناعات يزيد هو نفسه من انتشارها وحيويتها بتلك الحماقات، وليجد أن فجوة عميقة كانت تفصله عن هذا الواقع قبل دخوله إلى البيت الأبيض.
قد يبدأ الرئيس الأمريكي بعزيمة هجومية قوية، وقد يأخذ ذلك وقتا أطول من المتوقع بسبب تركيبته العقلية المندفعة والمكابرة، وقد يطول بعض الشيء تهوره واندفاعه، ولكنه سيبدأ في الفتور والتخفيف من ذلك الاندفاع كلما توالت إخفاقاته
عندها يبدأ الرئيس الأمريكي في إعادة صياغة سياسته وأفكاره وقراراته، التي يكون قد اتخذ بعضها في لحظات كانت ما تزال ثمة خيوط رفيعة تربطه بالحلم الذي كان يراوده وهو خارج البيت الأبيض، وهذه السياسة هي النسق الذي سوف يسير عليه حتى نهاية عهدته.
نعم قد يبدأ الرئيس الأمريكي بعزيمة هجومية قوية، وقد يأخذ ذلك وقتا أطول من المتوقع بسبب تركيبته العقلية المندفعة والمكابرة، وقد يطول بعض الشيء تهوره واندفاعه، ولكنه سيبدأ في الفتور والتخفيف من ذلك الاندفاع كلما توالت إخفاقاته، أو كلما وجد أنه بهذه السياسة لا يحقق شيئا، ولا يرى انتصارا ملموسا، وأن الواقع ما يزال على حاله أو هو في طريقه إلى الأسوأ.
إن عدم تحقيق الرئيس ترامب لأهدافه المسطرة، وعدم ظهور مؤشرات لذلك، وما يرده من تقارير عن حصيلة تلك السياسات، سوف يبعث في نفسه خيبة الأمل، التي ستضعف من قوته وتخفف من حماسته التي بدأ بها، وترغمه على إعادة حساباته، والبدء بقراءة الواقع بقيود والتزامات من عايش ذلك الواقع، وليس بسعة من سمع عنه.