يعتبر الوجه الآخر للفنان الحر، الذي لاحقته الأنظمة بالتهديدات حتى فرّ من بلاده تاركًا أمواله وعمله، الفنان السوري “جهاد عبده”، الذي أرغمه النظام السوري على الاعتذار علنًا عن موقفه المناهض لبشار الأسد، بل قام بتهديده بالقتل بعدما شرع “شبّيحته” بتحطيم سيارة عبده، في محاولة لإرغامه على أن يكون ضمن مجموعة المشاهير والممثلين السوريين المؤيدين للنظام السوري، ليبدأ رحلة جديدة ربما كانت ضارة في بدايتها، لكن كانت نافعة في النهايات، فمن محنة اللجوء والعمل كسائق لسيارات الأجرة، إلى منحة العمل في عالم هوليوود بلوس أنجلوس، كانت رحلة عبده.
في عام 2011، ومع بدأ شرارة الأزمة السورية، كان الخيار المتاح لكل من أراد أن يكمل حياته في سوريا أن يكون مؤيدًا للنظام، حيث كان ذلك الخيار الأسهل عند الأغلبية، وهو ما زادهم شهرة في سوريا لدى النظام وأتباعه، وكراهية على المستوى الشعبي والعربي. إلا أن “جهاد” لم يميل إلى الخيار الأسهل، واختار الدرب الأصعب، ما اضطره في النهاية إلى نسيان عمله كممثل في سوريا، فبعد أن كان بطلًا من أبطال المسلسل السوري الشهير “باب الحارة”، هاجر “جهاد” ومعه زوجته إلى لوس أنجلوس، ليبدأ مشوارًا فنيًا جديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
عانى “جهاد” كثيرًا في سنواته الأولى في أمريكا، فكانت المهن المتواضعة سبيله للحياة في البلاد التي هاجر إليها، فبدأ بتوصيل البيتزا، وبعدها انتقل إلى توصيل باقات الزهور للمنازل، من ثم عمل سائقًا للتاكسي في شوارع لوس أنجلوس، كما كان بائعًا في محل للملابس في أحد الأيام، قبل أن يشق طريقه إلى هوليوود، ويتحول من لاجىء مطارد إلى نجم عالمي كبير.
“عندما خرجت من سوريا، لم أكن أتخيل أنني لن أعود لها أبدًا، لم أكن أتوقع أن الأمر سيطول إلى هذا الحد، كنت أتوقع أنني سأعود مجددًا ريثما يهدأ الوضع، وهو ما ظننته سريع الحدوث حينها”
استطاع “جهاد” أن يجد نفسه في المجال السينمائي مرة أخرى بعمله مع شركة Dream Works الفنية، والتي كانت مدخله إلى عالم الشهرة من جديد، ليجد مكانه وسط أبطال هوليوود، بل ويقابلهم وجهًا لوجه في المشاهد الخاصة به في الأفلام، وهو الذي حظي بمسيرة فنية مذهلة كانت ولا زالت مضيئة، فقد اشترك في حوالي 43 فيلمًا في أدوار البطولة والأدوار المساعدة، كما ظهر فيما يقرب 1000 حلقة تلفزيونية، بالإضافة إلى ظهوره في 23 مسرحية.
“لم أستطع أن أكون جزءًا من تلك اللعبة القذرة الجارية في سوريا، استطاع البعض أن يكون رغم عدم إيمانه بذلك، واستطاع البعض الآخر أن يلعب دورًا لأنه لم يكن لديه خيار آخر، ولكنني لم استطع أن أكون من المطبلين للرئيس”
يتابع “جهاد” من خلال سلسلة “
“>قصص من سوريا” على يوتيوب بأنه لم يكن بأمان بسبب وجهة نظره السياسية، حينما كان في سوريا، فتمت مهاجمته في الشوارع، واتهمه من حوله بالخزي والعار، لذلك قرر الرحيل بدون أن يفكر في أملاكه وشهرته في “دمشق”، فهي بالنسبة إليه لا تساوي شيئًا مقابل معاناة الملايين من اللاجئين والمشردين من السوريين حول العالم.
بعدما اتهم النظام السوري بالفساد وتعذيب السجناء والمعارضين حتى الموت، قام مجهول بالاتصال به وتهديده بالموت إن لم يظهر على شاشة التلفزيون المحلية، ويخبر الجميع باعتذاره علنًا، وأنه يؤمن بالنظام السوري، ويؤمن بقدرة “بشار الأسد” على الرئاسة وقمع “المتمردين” من الثوار والمعارضين، إلا أنه لم يفعل ذلك، ليكون الرحيل خياره الأوحد من أجل حياته.
لم يكن صعبًا بالنسبة إلي العودة للصفر من جديد، ذلك لأنني عشت مرفوع الرأس، وعشت بكرامتي
من “باب الحارة” إلى الأفلام العالمية
جهاد عبده في باب الحارة
شارك “جهاد عبده” مؤخرًا في فيلمين لأكثر نجوم هولويوود شهرة؛ وهما “نيكول كيدمان” و “توم هانكس”، فشارك مع الأخير في فيلم “A Hologram for the King”، والذي كان إحدى التجارب المشوقة في مسيرة “جهاد عبده” الفنية بمقابلته وتصويره مع الفنان العبقري”توم هانكس”، حيث أشار “جهاد” في تقارير صحفية بأنه لم يقابل ممثًلا أكثر تواضعًا من “توم هانكس” وظل الأخير يردد على مسمع “جهاد” بأنه هنا من أجله دومًا ومن أجل كل من مر بتجربة قاسية مثل تجربة اللجوء.
جهاد عبده وتوم هانكس
أما فيلم “نيكول كيدمان”، فنال “جهاد” فرصة الظهور أمام واحدة من أشهر نجمات هوليوود منذ عهود، وذلك في فيلم “Queen of the desert”، “ملكة الصحراء”، بعدما اختاره المخرج الألماني “فرنر هرزوغ” في دور “فتوح”، مرشد ودليل “نيكول كيدمان” في كل جولاتها وهو الفيلم الذي يروي حكاية المؤرخة والروائية وعالمة الآثار “جيرترود بيل”، التي عملت ضمن جهاز المخابرات البريطانية ولعبت دوراً حاسماً في وضع مسار للنظام السياسي الجديد في الشرق الأوسط عام 1920.
“بون فوياج”.. وذكرى اللاجئين
لم ينسى “جهاد عبده” اللاجئين أثناء مسيرته الفنية، فهو بالنهاية واحدًا منهم، لذا قام بتصوير فيلم “بون فوياج” “Bon Voyage” الفرنسي، الذي يوثق مأساة رحلات اللاجئين إلى أوروبا، حيث قام فريق العمل بالتصوير في أكثر الأماكن عرضة لتلك القصص المأساوية، منها تركيا واليونان، ليحصل الفيلم على ثمان جوائز في مهرجانات عالمية.
غيّر “جهاد” إسمه إلى “جاي – Jay”، بعدما أصبح كأي نجم من نجوم هوليوود، وذلك لعدم تقبل اسمه في الثقافة الغربية، لذا اختار “جهاد” الحرف الأول من اسمه للتعبير والإشارة عنه، فعلى الرغم من افتخاره بإسمه إلا أنه كان عليه أن يتخلى عنه ليحقق حلمه السينمائي.
“لن أعود إلى سوريا قبل أن أرى فيها ديموقراطية”
تتوالى نجاحات “جهاد عبده” في المجال المهني، فهو الآن يشارك في العديد من الأعمال العالمية منها المسلسل المرتقب “Patriot”، كما من المتوقع مشاركته في مسرحية بريطانية عن اللاجئين، وعلى الرغم من قدرته الآن على العودة إلى سوريا، إلا أنه يرفض العودة رغم أنه يشتاقها، مؤكدًا أنه سيعود لزيارة دياره بعد أن تتحقق فيها الديموقراطية، ليكون بذلك “جهاد عبده” واحدًا من القلة القليلة المناضلة والمؤمنة بفكرة إنسانية، يندر وجود أمثالها في الوسط الفني العربي كله.