صحيح أن أزمة الرئاسة في لبنان، ذلك البلد الذي يضم أكثر من 18 طائفة وعشرات الأحزاب، انتهت بعد مداولات ومحاولات عدة للتوافق، باختيار العماد ميشال عون رئيسًا للبنان، في خطوة اعتبرها المحللون انطلاقة واعدة قد تمهد لتدشين مرحلة من الاستقرار السياسي كانت البلاد في حاجة ماسة إليها اقتصاديًا واجتماعيًا ومعيشيًا، لكن يبدو أن التقاطع الحاصل بين المكونات السياسية اللبنانية والتي تختلف بين بعضها البعض إلى درجة التناقض أحيانًا، في صياغة سلطة سياسية جديدة على أنقاض الانقسام السابق بالدولة الأكثر حراكًا سياسيًا بالمنطقة دون نتائج توافقية، لن يتوقف، وبرز على السطح الاختلاف الحالي بين القوى السياسية بشأن قانون الانتخابات النيابية التي يمكن أن تشهد تحالفًا رباعيًا جديدًا يضم كلاً من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والنائب وليد جنبلاط، وهو تحالف مختلف عن التحالف الرباعي الذي نشأ في العام 2005 وضمّ إلى حزب الله والرئيس بري تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط.
فراغ نيابي
مؤخرًا، برزت مشكلة الانتخابات النيابية بالبلاد، وانبرى الثنائي الشيعي “حزب الله وحركة أمل” يعبرا عن قلقهما من الثنائي “الماروني – السني”، ومحاولاتهما الحصول على أكثرية بمجلس النواب، مما يهدد بأزمة سياسية أخرى، خصوصًا أن ولاية المجلس الحالي الذي جدد مرتين لنفسه، تنتهي بنهاية مايو المقبل، ولم يتبق على إعادة انتخابه – إن تم الاتفاق على آلية هذا الانتخاب – سوى أسابيع قليلة، ولا بد من الاتفاق على قانون انتخابي قبل فتح باب الاقتراع بستين يومًا وإلا ستدخل البلاد في خطر الفراغ النيابي.
عون يرفض قانون الستين ويهدد بفراغ نيابي
عون والستين
وعلى الرغم من أن المدة الزمنية الفاصلة عن موعد إجراء هذه الانتخابات قصيرة نسبيًا، فإن القوى السياسية الممثلة في الحكومة والبرلمان، أخفقت حتى الآن في التوصل إلى تفاهم على صيغة قانون انتخابي جديد، يسمح بإجراء هذه الانتخابات في موعدها، ويرضي في نفس الوقت طموحاتها السياسية.
وتصاعد الخلاف بين القوى والأحزاب السياسية والطائفية التي تعددت اقتراحاتها لتقسيم الدوائر واعتماد آلية للانتخاب، وهو ما حدا برئيس الجمهورية ميشال عون إلى التهديد باستخدام صلاحياته الدستورية، معلنًا تفضيله الفراغ في البرلمان على إجراء الانتخابات وفق قانون “الستين”، الذي صدر عام 1960 وجرت على أساسه انتخابات عام 2009، وهو ما أثار التوجس من أن إنتاج قانون انتخابي دون توافق وطني أو “الفراغ” كما يرى الرئيس، قد يحدث إرباكًا سياسيًا ينذر بمزيد من الانقسام اللبناني، ما لم ينل إعداد القانون الجديد توافقًا وطنيًا.
صيغ متداخلة لقانون الانتخابات النيابية تهدد بأزمة
صيغ متداخلة
لتوضيح الأمر لا بد أن نشرح الموقف السياسي بلبنان منذ البداية والخلافات بشأن قانون انتخاب مجلس النواب، وهو جدل بدأ قبل استقلال لبنان، ولَم يتوقف يومًا بخصوص قانون الانتخابات التشريعية، بين المطالبين بانتخابات وفقًا للنظام النسبي (أي القوائم)، الذي يصفه مؤيدوه بأنه عصري وليس طائفيًا، ومن يريد النظام الأكثري (أي الفردي) الذي يرسخ فكرة المحاصصة الطائفية بوجهة نظر البعض، وكذلك من يقترح النظام المختلط الذي يجمع بين الأول والثاني، وفي المقابل فإن هناك من يسعى لإبقاء القانون الحالي المعروف باسم قانون الستين (الذي ينظم البلاد لدوائر غير متساوية من خلال النظام الفردي)، كما أن هناك القانون الأرثوذكسي، الذي يجعل كل ناخب يدلي بصوته لنائب من طائفته.
أزمة حقيقية تلوح بالأفق اللبناني
اتهامات متبادلة
برؤى المراقبين فإن العرقلة الحالية للاتفاق على قانون الانتخابات النيابية، تقارب في قوتها تلك التي سادت مفاوضات تشكيل الحكومة بعد انتخاب عون للرئاسة، وباتت تطرح علامات استفهام عما إذا كان هناك من يريد أن يفقد العهد الجديد برئاسة عون بريقه وزخمه، ليسقطوا معه نظرية الرئيس القوي، ليبقى التيار الشيعي وعلى رأسه حزب الله مسيطرًا على الوضع بالبلاد؟ في مقابل رأي آخر يرى أن السقوط المتتالي لاقتراحات القوانين الانتخابية، من الستين إلى المختلط، يجعل البلاد أمام سؤال آخر، هل يتم الدفع باتجاه قصر الخيارات بين التمديد الثالث أو الفراغ خصوصًا أن لبنان الذي شهد مرارًا حالات شغور في رئاسة الجمهورية، لم يشهد منذ الاستقلال أي حالة شغور في مجلس النواب، حتى وقت الحرب الأهلية، حيث كان النواب يعمدون تكرارًا إلى تمديد ولاية المجلس الذي حدث 6 مرات؟
النسبية تؤدي للإخلال بموازين التمثيل اللبناني
لا للنسبية
بعيدًا عن تلك الجدلية، فإن الأقرب للحدوث في لبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة، إغفال فكرة قانون النسبية واتجاه الكتل السياسية للتفكير في قانون انتخابي يكون من وحي قانون الستين المرفوض من عون وتياره مع تعديلات طفيفة في تقسيم الدوائر أو ربما التوصل لخيارين لانتخابات البرلمان المقبل “إما قانون نسبي شامل أو على أساس أكثري”.
صراع الكراسي كلف لبنان الكثير تاريخيًا
تهديدات عون واتفاق الطائف
لكن إعلان الرئيس عون تفضيله فكرة الفراغ النيابي على العودة إلى قانون الستين، أعاد خلط الأوراق، وأسهم في احتدام النقاش عن القانون المزمع التوافق عليه، خصوصًا بعد تقديم وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر (تيار الرئيس) جبران باسيل اقتراحه قانون انتخابي يجمع بين نظامي النسبي والأكثري، وهو اقتراح رأى فيه البعض محاولة “تهميش” لهم، ويهدف إلى المساس باتفاق الطائف والعودة بالبلاد إلى ما قبل العام 1975.
فراغ نيابي محتمل أم تجديد للمجلس الحالي؟
رأس السلطات
ميدانيًا، تزداد أهمية قانون الانتخابات النيابية بالنظر للطابع الطائفي للسياسة اللبنانية، إذ إن أغلب إن لم يكن كل الأحزاب اللبنانية الكبرى هي أحزاب طائفية، لا تعتمد على برامج سياسية والناخب يختار بناءً على انتمائه الطائفي، وإذا كان هناك تنافس فيكون بين الأحزاب داخل الطائفة الواحدة، وبالتالي فإن توزيع الدوائر وطريقة الانتخابات يحددان النتيجة بشكل كبير بناء على انتماءات السكان الطائفية، وهي خطوة خطيرة على الوضع الداخلي اللبناني الحالي الذي بدأ يستشعر الاستقرار ولو بشكل جزئي، لأن المجلس الذي ستفرزه تلك الانتخابات يشكل كل السلطات السياسية الأخرى، فهو يختار ويعزل رئيس الجمهورية، ويتم من خلاله تعيين الحكومة بناء على الأغلبية البرلمانية، ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة البرلمانية.
لمن وكيف سيصوت الناخبون في يونيو المقبل؟
تسريبات ومواءمات
خلاصة القول أن تسريبات اللجنة الرباعية بين القوى السياسية التي اجتمعت مؤخرًا للاتفاق بشأن صيغة القانون الانتخابي، تقضي بأن الجميع يفكر في إجراء الانتخابات في معظم الأقضية ذات الغالبية المسيحية على الأساس الأكثري، أي إبقاء الدوائر والمقاعد وفق قانون الستين الحالي، أما في المناطق ذات الغالبية المسلمة، فسيتم تقسيمها بين الأكثري والنسبي، مما يعني أن شعارات محاربة الطائفية أو ضمان التمثيل العادل للطوائف التي يرفعها زعماء الطوائف هي مجرد شعارات جوفاء تسعى فقط لإعادة إنتاج سلطتهم وضمان استمرار النظام الطائفي بالبلاد.