افتتح رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الخميس 13 أغسطس/آب 2023، معبد “بن عزرا” اليهودي، أحد أقدم المعابد اليهودية في مصر، الذي بدأت أعمال الترميم فيه في أبريل/نيسان 2022، حيث تعرض لهدم معظم أجزائه ليعاد بناؤه مجددًا على الطراز القديم نفسه.
يأتي ترميم هذا المعبد الواقع في شارع مار جرجس بمجمع الأديان في مصر القديمة بالقرب من المتحف القبطي، ضمن القرار الذي أعلن عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2018 بتخصيص مليار و270 مليون جنيه (71 مليون دولار) لترميم التراث اليهودي في مصر.
يتزامن افتتاح المعبد اليهودي مع حملة شعواء تشنها السلطات المصرية لإزالة عشرات المعالم الأثرية والمقابر التاريخية الإسلامية في منطقة القاهرة القديمة بدعوى شق الطرق والكباري الجديدة، الأمر الذي أثار سخط الشارع المصري الغاضب من هذا التوجه الذي يطيح بأحد أركان الحضارة المصرية رغم المناشدات المستمرة التي يبدو أنها بعيدة تمامًا عن دوائر اهتمام وعناية صناع القرار في مصر.
تلك الازدواجية التي تتبناها السلطات المصرية في التعاطي مع التراث الحضاري، أثارت الكثير من التساؤلات عن دوافعها وأهدافها، علمًا بأن الجالية اليهودية في مصر لا تتجاوز 12 شخصًا، وعلى أقصى تقدير 20 شخصًا، مقارنة بأكثر من 90 مليون مسلم، وهو التناقض الذي يحمل الكثير من الدلالات والتساؤلات.
مشروع قومي
تتعامل السلطات المصرية مع ملف إحياء التراث اليهودي على أنه مشروع قومي بحسب تصريحات السيسي ووزير السياحة والآثار الأسبق خالد العناني، وفي فبراير/شباط 2016 تقدمت 11 مؤسسة يهودية من مختلف دول العالم على رأسها “اللجنة الأمريكية اليهودية” بمذكرة موجهة للحكومة المصرية يطالبون فيها بالاعتراف بالتراث اليهودي في مصر والحفاظ عليه وحمايته من التدمير.
المذكرة حركت المياه الراكدة في تعامل الحكومة مع تلك المسألة، لتبدأ موجة جديدة من المشروعات التي تستهدف حماية التراث اليهودي في البلاد، البداية كانت في العام ذاته حين شكلت الحكومة لجنة لتسجيل التراث اليهودي بمصر، ولتحديد جميع المعالم الأثرية اليهودية وجميع المجموعات اليهودية في المعابد اليهودية.
وفي أغسطس/آب 2017 أعلن مجلس الوزراء المصري عن مشروع ترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية بتكلفة 100 مليون جنيه مصري (تحملتها الحكومة المصرية بالكامل، بعد أن رفضت تلقي أي تبرعات من جهات أجنبية)، الذي افتتح في يناير/كانون الثاني 2020.
أطلقت السفارة الأمريكية في نفس العام مشروعًا للحفاظ على مقابر اليهود بمنطقة البساتين جنوب القاهرة، التي تعد ثاني أقدم مقابر لليهود في العالم بعد مقبرة “جبل الزيتون” في القدس، التي تعرضت لعقود من الإهمال والسرقة، حيث تولى المركز الأمريكي للبحوث بالقاهرة بالتعاون مع جمعية “قطرة اللبن” تنفيذ المشروع، بتمويل أمريكي.
هذا الاهتمام بالتراث اليهودي في مصر أثار تقدير وإعجاب الجاليات اليهودية في العالم، وأحدث طفرة كبيرة في نظرة الدولة المصرية لليهود من كونهم جواسيس يعملون لحساب أجندات أجنبية إلى شركاء في الوطن ومساهمين في نهضته، بحسب تعبير رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، ماجدة هارون التي قالت: “هذا هو الحلم الذى طالما سعيت إليه”.
يمتلك اليهود في مصر إرثا حضاريًا مميزًا مكونًا من 13 معبدًا يهوديًا تم بناؤهم في القرنين الماضيين، تحتضن القاهرة منهم خمسة معابد، أبرزها معبد عدلي الشهير بوسط البلد الذي يسمى بـ”شعار هاشامايم” الذي يعني بوابة الجنة، وتزخر مكتبته بنوادر المخطوطات التي جمعت من المعابد اليهودية المصرية المغلقة، وسميت بـ”مكتبة التراث اليهودي”.
نجح اليهود من خلال تصريحاتهم المتتالية في الضغط على السلطات المصرية لمزيد من الاهتمام بتراثهم داخل البلاد، حيث وجهت هارون، اتهامها للحكومات المصرية بأنها ترغب في القضاء على هذا التراث قائلة: “ربما تكون هناك رغبة في محو كل أثر ليهود مصر”، متسائلة: “وفقًا للتاريخ، اليهود موجودون في مصر منذ الفراعنة، كيف تريدون محو قرون من التاريخ؟”.
اللافت هنا أن جهود إحياء التراث اليهودي في مصر لم تكن وليدة اليوم، كما أنها لم تتوقف في السابق، لكنها كانت في السر خشية ردود فعل الشارع المصري جراء الانتهاكات التي تمارسها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، غير أنها اليوم باتت علنية وفق خطط حكومية معلنة ورسمية ويصاحبها الاحتفاء هنا وهناك.
لمدير الشؤون اليهودية الدولية للجنة اليهودية الأمريكية الحاخام أندرو بيكر تصريح واضح في هذا الشأن نقلته صحيفة “نيويورك تايمز” في سبتمبر/أيلول 2009 حين قال: “أخبرونا أننا نفعل هذه الأشياء، لكن لا يمكنك أن تخبر أحدًا بذلك، ففي مصر كانوا يفعلون الأشياء، لكنهم يهمسون (لا تدع أحدًا يعلم!)”، ملمحًا إلى عدد من المشروعات التي كانت تتم في هذا الاتجاه في إطار من الكتمان والسرية.
جدير بالذكر أنه لا يوجد إحصاء رسمي لعدد اليهود في مصر، لكن معظم التقديرات تشير إلى تهاوي حجم الجالية من 120 ألف إبان الحقبة الملكية إلى 85 ألف في الأعوام التي سبقت الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إلى أن تقلصت إلى 12 ألف خلال حرب 1967، وصولًا إلى 20 فردًا اليوم، وهناك من يشكك في هذا الرقم ليصل إلى 12 فردًا، وهناك قول إن عددهم 3 سيدات عجائز فقط.
إزالة المعالم الأثرية الإسلامية.. مشروع قومي كذلك
في الجانب الآخر من الصورة، تحتل الجرافات المشهد بامتياز، حيث إزالة المئات من المعالم الأثرية الإسلامية في قلب القاهرة القديمة، في منطقة الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وهدم معظم المقابر في تلك المناطق، بجانب الإطاحة بمدينة الموتى المسجلة على قائمة التراث العالمي قبل نحو 40 عامًا.
على مدار أكثر من عامين تسابق الحكومة الزمن لإزالة تلك المعالم التي يعود بعضها لمئات السنين وللشخصيات البارزة في العلم والأدب والدين، بدعوى شق الطرق والكباري بغية التطوير والتنمية كأحد المشروعات القومية التي تتبناها الدولة، وفق الرؤية الرسمية للنظام الحاكم، دون أي مراعاة لاعتبارات التاريخ والحضارة والتراث.
من أشهر المعالم الصادر بحقها قرارت إزالة بعض الأضرحة والمعالم الأثرية ذات القيمة التاريخية الكبيرة، منها ضريح الراوي ورش (صاحب الرواية المشهورة في قراءة القرآن ورش عن نافع)، وضريح العز بن عبد السلام والليث بن سعد، وغيرها من مقابر أعلام المسلمين وقاماتهم.
بسبب هدم المقابر التاريخية.. بيان مشترك لـ300 معماري وخبير تراث يؤكدون فيه اعتزامهم التوجه ببلاغ للنائب العام ضد وزيري السياحة والآثار والأوقاف ومحافظ القاهرة للمطالبة بفرض الحراسة ومنع تدمير المزيد مباني #القاهرة التاريخية pic.twitter.com/xjy46a0xTR
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) September 2, 2023
فيما تم هدم أخرى بالفعل كما حدث مع وكالة العنبريين بوسط القاهرة التي ترجع إلى القرن الـ19، إذ كانت واحدة من أبرز المعالم الأثرية في منطقة القاهرة الفاطمية والمسجّلة ضمن التراث العالمي، حيث هدمت في فبراير/شباط 2019، كما سوّت الجرافات طابية الفتح الأثرية في مدينة أسوان بالأرض، رغم قيمتها التراثية والأثرية الكبيرة، في منتصف مايو/ أيار 2021.
رغم أنه لا يوجد إحصاء رسمي لعدد المعالم الأثرية التي تمت إزالتها في مصر خلال السنوات الأخيرة، فإن هناك تقديرات نشرتها وسائل إعلام محلية مصرية تشير إلى أنه قد تم هدم أكثر من 2700 مقبرة ومعلم، وأن هذا العدد مرشح للزيادة في ظل تلك الحملة الممنهجة التي تقوم بها الدولة مؤخرًا.
ازدواجية تثير التساؤل
على مقربة من مقابر الإمام الشافعي والبساتين والسيدة نفيسة التي تعرضت ولا تزال لعمليات هدم مستمرة بغية التطوير، توجد مقابر اليهود التي تقع على مساحة تبلغ أكثر من 120 فدانًا، وبالقرب منها توجد مقابر الأقباط المحاطة بأسوار عالية تملأها الأشجار الوارفة الظلال، التي تحوّلت إلى مزارات سياحية كبيرة.
في الوقت الذي تتجاهل فيه الدولة صراخ ذوي المدفونين في المقابر الصادر بحقها قرارات إزالة، وتغض الطرف عن مناشدات الأثريين وخبراء الثقافة بوقف هذا العبث بالتراث المصري، توفر كل سبل الراحة والأمان والدعم لمقابر اليهود والمسيحيين، الأمر لا يقتصر على هذا، بل إن المعالم الأثرية اليونانية والرومانية تحظى هي الأخرى بعناية الدولة بشكل كبير.
وعلى عكس أحادية وسلاسة ووضوح القانون الذي ينظم التعامل مع التراث اليهودي والمسيحي والروماني واليوناني والفرعوني، فإن الآثار الإسلامية تعاني من فوضى وبيروقراطية غير طبيعية، فالأثر الواحد قد يكون تابعًا لـ3 أو 4 جهات في وقت واحد، وهنا تتفرق المسؤولية بين أكثر من جهة، وعليه يكون التنصل سهلًا ميسرًا، فلا يحاسب أحد ولا يراقب أحد.
#هدم_المقابر_التاريخية وترميم المعابد اليهودية#مزيد pic.twitter.com/Mw4PhiZFO4
— مزيد – Mazid (@MazidNews) September 2, 2023
وكما يعزف النظام على وتر الفقر والعوز والعجز في تلبية احتياجات المواطنين جراء الأزمة الاقتصادية العالمية ووضعية الاقتصاد الوطني الحرجة، إذ به يفتح الخزائن أمام تجديد وترميم المعالم الأثرية اليهودية ومن قبلها المسيحية والفرعونية، مقارنة بنظيرتها من المعالم الإسلامية التي رغم ما توليه الحكومة من اهتمام بها، فإنه لا يتناسب وحجمها قياسًا بنظيراتها من الحضارات الأخرى.
هذا التناقض وتلك الازدواجية تثير الكثير من علامات الاستفهام، التي ربما تكون بعيدة بشكل أو بآخر عن فكرة الاستهداف العقدي، لكنه أمر يدعو للتساؤل، فالاهتمام بكل التراث – أيًا كانت هويته – مسألة قومية وضرورية حضارية يجب أن توضع تحت مجهر عناية سلطات الدولة، لكن أن يتم الاعتناء ببعضها وإهمال الأخرى، فهنا لا بد من تفسير وتبرير تجنبًا للولوج في مناطق أخرى ربما تكون محظورة وتهدد الأمن والسلم المجتمعي.
إذًا ما الدوافع؟
في تحليل للباحث الأكاديمي هيثم حسنين، الزميل المشارك في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، نشره على موقع المعهد في ديسمبر/كانون الأول 2018 حاول – بعد استعراض أوجه الاهتمام الرسمي بالمعالم الأثرية اليهودية في مصر – الإجابة عن التساؤل الآتي: لماذا يولي نظام السيسي كل هذا الاهتمام للتراث اليهودي في بلاده؟
تطرق الباحث إلى 3 دوافع رئيسية يرى أنها الأسباب الأبرز وراء هذا الاهتمام، أولها: تحسين نظرة واشنطن إلى القاهرة، إذ يعتقد من هم في السلطة في مصر أن المواطنين اليهود في أمريكا و”إسرائيل” والمنظمات التي تمثلهم هم البوابة الأبرز لصناع القرار في الولايات المتحدة، وعليه فإن الاهتمام بتراث اليهود ربما يساعد في تقوية العلاقات بين الإدارة الأمريكية ونظام السيسي.
أما السبب الثاني فهو تعزيز السياحة التي تعرضت لضربات قوية بعد يوليو/تموز 2013، حيث تميل الحكومة المصرية إلى سردية أن ترميم التراث اليهودي ربما يكون سببًا كبيرًا في تسويق مصر كوجهة سياحية لليهود في العالم، وهو الأمر الذي قد يدفع به حلفاء القاهرة في ذلك الوقت وعلى رأسهم “إسرائيل”.
فيما يأتي الدافع الثالث متعلقًا بمحاولة إظهار الاعتدال لدى نظام السيسي، وتجميل صورة الرئيس كونه المتسامح الذي يهتم بكل الأديان السماوية ولا يفرق بين ملة وأخرى، هذا بجانب مساعي امتصاص الغضب الشعبي جراء التعديل الدستوري الذي تم في 2018 ويسمح للسيسي بالبقاء في السلطة حتى 2030.
السمة الغالبة في سلسلة الدوافع التي ساقت نظام السيسي للاهتمام بالتراث اليهودي في بلاده تتمحور في الأهداف السياسية ومحاولة توظيف هذا الملف لتحقيق مكاسب سلطوية في وقت كان يعاني فيه من انتقادات حادة بسبب الانتهاكات التي ارتكبت في مصر منذ أغسطس/آب 2013 وحتى اليوم
وكانت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية قد نقلت عن رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية، عزرا فريدلاندر، الذي التقى ووفد من اللجنة مع السيسي في القاهرة قبل سنوات، قوله إن الرئيس المصري تعهد لهم بإجراء عملية تنظيف وتنظيم لمقابر اليهود بمنطقة البساتين في القاهرة.
فريدلاندر نقل عن السيسي كذلك مخاوفه من استعادة جماعة الإخوان المسلمين السلطة إذا لم يحصل هو على دعم أمريكي، وتابع “من الواضح أن السيسي يبحث عن الدعم في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه من واجبنا الأخلاقي دعمه إلى أقصى حد ممكن”.
بات من الواضح أن ازدواجية تعاطي الدولة المصرية في السنوات الأخيرة مع ملف التراث وحماية الآثار، يغلب عليها الطابع السياسي من الدرجة الأولى، فالاهتمام بالتراث اليهودي والمسيحي وحتى الفرعوني واليوناني على حساب الإسلامي يحمل الكثير من الدلالات والرسائل للداخل والخارج، معظمها يدور في فلك سياسي بحت والبحث عن مكاسب من وراء هذا التوجه، ضاربًا بغضب ومشاعر الملايين من المسلمين والمهتمين بالآثار والتاريخ والحضارة عرض الحائط.