الصورة لغة يصنعها المتخصص ويقرؤها العامي، لكل عنصر فيها معنى مستبطن داخلها لكن الفارق انها تستخدم العناصر المرئية بدلاً من الكلمات؛ وهي بذلك تتخطى كل الحواجز الإنسانية لأنها تخاطب العين التي تنفذ إلى القلوب والألباب، فتقص عليها العديد من الحكايا الكامنة فيها دون أن تشعر، و لذلك الصورة قد تكون إنسانية جدا أي تعبر الحواجز بين البشر لتعرفهم بواقع غائب عنهم؛ لكنها في الوقت ذاته قد تكون مضللة لأبعد حد حيث قد تزيف وعيهم بواقعهم، فهي بذلك تجمع النقيضين بين ثناياها.
الصورة بطبيعتها متحيزة، فصانعها ينتقي تفاصيل من الواقع ليعرضها حسب وجهة نظره، ويصوغ المعني الكامن فيها باستخدام العناصر المرئية المكونة للصورة التي تتمثل في كيفية التقاط الصورة وكيفية تكوينها؛ فالمخرج حين يحدد المكان الذي ستوضع فيه الكاميرا والمساحة التي سيراها المشاهد فإن كل زاوية رأسية أو أفقية يختارها وكل حركة للكاميرا وكل “حجم” لقطة يحددها يعطي معني مختلفاً، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن اللقطة العامة Long تعرف المشاهد بالعناصر المختلفة في المشهد والعلاقات بينها وتعطي له شعوراً بالاتساع لأنها تعرض تفاصيل أكثر في الكادر.
وعلى النقيض تركز اللقطة القريبة close-up على تفاصيل معينة لجذب الانتباه إليها وهي الأداة الأقوى في يد المخرج لإيصال المشاعر الإنسانية للممثل، وبالمثل تحدد كل زاوية للكاميرا سواء كانت رأسية أو أفقية وكل حركة للكاميرا معانٍ مختلفة، بعض تلك المعاني متعارف عليه بين أصحاب المهنة والآخر يصنعه كل مخرج من نسيج خياله، كما أن المخرج حينما يقرر المخرج توزيع العناصر داخل الكادر بطريقة ما فإنه بذلك يوزع أوزان القوي النسبية لها تبعاً لموضعها؛ أي يحدد الأشخاص والأشياء التي هي في موضع قوة مقارنة بغيرها داخل الكادر؛ فمثلاً يُنسب للجسم الموضوع في مقدمة الكادر قوة نسبية أكبر من نظيره في خلفية الكادر لأن الأول يستحوذ على الانتباه الأكبر من المشاهد.
إن تكرار الصور المرئية التي تربط معان سلبية أو إيجابية برمز بصري معين يجعل ذلك الرمز يتحول إلي صورة ذهنية نمطية لدي المشاهد
وبالإضافة إلى تكوين الكادر يوحي الإضاءة من عنصر لآخر داخل اللقطة، ومن مشهد لآخر داخل الفيلم بمعاني ومشاعر مختلفة تبعاًً للنظام المتبع في تكوين الإضاءة وأنواع الكشافات المستخدمة وكيفية توزيعها.
وحينما يصاحب الصورة كلمات فإنها تساهم في تأطيرها لتفهم علي نحو معين، هذه الكلمات قد تكون نصاً مكتوباً في شكل تعليق على الصورة أو جملة حوارية بين ممثلين أو جملة مقروءة في شكل تعليق صوتي، وفي كل الأحوال فإن الكلمة تضيق من المجال الدلالي للصورة فتجعلنا ندرك الصورة على نحو أكثر تحديداً.
ومن جهة أخرى فإن المشاهد أيضاً يفهم الصورة بشكل انتقائي أي يركز علي التفاصيل التي تتفق مع أفكاره وقيمه السابقة علي حساب الأخرى لتجنب الشعور بصراع داخله بين فكرتين متناقضين وهو المعروف “بالتنافر المعرفي”، الخلاصة إذن أن الصورة هي وجهة نظر صانعها التي ينقلها للمستقبل الذي يفهمها ويفسرها حسب إدراكه، فهي بالأساس إعادة بناء للواقع من وجهة نظر المخرج عن طريق انتقاء متعمد لجوانب معينة على حساب أخرى وإبراز لتفاصيل معينة داخل الجانب الواحد على حساب تفاصيل أخرى، وحينما يقترن حجم اللقطة وإضاءتها وزاويتها الرأسية والأفقية وحركة الكاميرا فيها بتوزيع العناصر داخل الكادر والكلمة المصاحبة للقطة فإن تلك العناصر جميعها تشكل المعنى المستبطن داخل اللقطة الذي يميزها عن غيرها.
الصورة أيضاً حكاية عن الواقع، قد يمثل الواقع نفسه فيها كما في القوالب الحقيقية غير الخالية “Non-Fiction” وقد يعاد تقديمه عبر واقع من صناعة المخرج كما في الأفلام الروائية “Fiction”، وفي كلا الحالتين فإن وراء كل صورة حكاية ما مصوغة من مفردات تتخطى الفوارق البشرية وتخاطب الأصل الإنساني بداخل المشاهد؛ فيفهمها الغني والفقير،المتعلم والأمي، العربي والأعجمي، وحتى إن اختلفت درجات فهم الجمهور للصورة باختلاف عمق إدراكهم ووعيهم بفنيات الصورة ومكوناتها؛ لكنها في النهاية تظل الأداة الرئيسة للحكاية في وسائل الإعلام المرئية.
ليس المطلوب من الصورة أن تعكس الواقع كما هو لأنها في النهاية حكاية يرويها صانعها، وصانعها إنسان يرى الواقع من منظوره هو
فأكثر الأفلام تميزاً التي تركت علامة في ذاكرتنا هي تلك التي كانت الصورة فيها هي الراوي الرئيسي الذي ينقلنا بين الأزمنة والأماكن والشخصيات، يدهشنا ويحيرنا ويضحكنا ويبكينا في حالة ممتعة لعقولنا وقلوبنا، وذلك لا يعني التركيز على الصورة وإهمال الفكرة فلن تتمكن الصورة من الحكاية بدون تمكن المخرج من التوازن بين عمق الفكرة وجمال الصورة.
للصورة سحر يأخذ الألباب، فمع التطور التقني لكل مراحل إنتاج الصورة بداية من الكاميرات والتطور في تقنيات التصوير وحركات الكاميرا وانتهاء بالمونتاج صارت الصورة طاغية على غيرها، تأخذ عقلك بجودتها العالية وتسلب حركتها انتباهك لتصرفه إلي ما يريد لك المخرج الانتباه إليه فتستقبله في استسلام تام، وإن لم تكن واعياً بكيفية صناعة الصورة وتكوينها؛ فإن صانع الصورة سيمرر الكثير من التحيزات الزائفة تحت تأثير الإبهار البصري للصورة، فيصوغ لك المعني في حالة رومانسية تأخذ قلبك، ويسوق لك الوهم في قالب فني جذاب يصرفك عن التفكير في مدى صحة تلك التحيزات ومدى دقتها في التعبير عن الواقع.
إن تكرار الصور المرئية التي تربط معان سلبية أو إيجابية برمز بصري معين يجعل ذلك الرمز يتحول إلي صورة ذهنية نمطية لدي المشاهد، فمثلاً مع تكرار الصور المرئية السلبية للحية الرجل فإنها كرمز بصري تقترن بمعنى العنف والدماء، وباستمرار عملية تراكم الصور النمطية تصبح تلك الصور أشبه بدستور أو نص ثقافي متوارث يسير عليه صانعوا الصورة ومستقبلوها في الآن ذاته، فحينما أريد التعبير عن الإرهاب الغاشم سأصور لك اللحية الكثيفة وأنت ستتوقع ذلك المعني حينما تراها.
إن المشاهد أيضاً يفهم الصورة بشكل انتقائي أي يركز علي التفاصيل التي تتفق مع أفكاره وقيمه السابقة علي حساب الأخرى لتجنب الشعور بصراع داخله بين فكرتين متناقضين وهو المعروف “بالتنافر المعرفي”
والصورة في تلك الحالة لا تعكس الواقع بل تصنع واقعاً مزيفاً وتوهمك بأنه حقيقة، إن تلك الدساتير والنصوص الثقافية تشكل ما يعرف “بالتوقعات الاجتماعية” (Social Expectations) أي قواعد ضابطة لما هو مقبول اجتماعياً وما هو مرفوض، وصحيح أن بعضها يكون متوارثاً في الواقع الاجتماعي وتعكسه الصورة الإعلامية فقط أي أن المجتمع هو الذي يصدره للإعلام ، لكن كثيراً من الصور الذهنية المكونة لتلك النصوص الثقافية هي إما من صناعة الإعلام نفسه ولا وجود لها في الواقع أو إعادة لتقديم الواقع تتضمن جزءً واقعياً وآخر مصطنعاً، أي أنه كثيراً ما تصدر الصورة المرئية تلك الصور النمطية للمجتمع ليساهم في تشكيل معاييره وقيمه.
ليس المطلوب من الصورة أن تعكس الواقع كما هو لأنها في النهاية حكاية يرويها صانعها، وصانعها إنسان يرى الواقع من منظوره هو ولن يستطيع الإلمام بكل جوانبه مهما حاول؛ لكن ذلك لا يعفيه من الالتزام بأخلاقيات مهنته وفلا يصنع بصورته واقعاً مزيفاً ويوهم جمهوره بأنه حقيقة، ولا يستخدم سحر الصورة كسبيل لتمرير تحيزات زائفة، فهو وإن كان لا يستطيع الوصول للموضوعية التامة فإنه يستطيع الابتعاد قدر الإمكان عن التضليل والتزييف.