“يجلب الإعلان المال أكثر من المنتج نفسه”، تلك هي إحدى القواعد الذهبية في عالم الإعلانات والتسويق، وهي من أكثر القواعد إشارة إلى أن الاهتمام بالدعايات الإعلانية، مهما كان الثمن، ومهما اضطر القائمين على تلك الصناعة من تنازلات سواء كانت مادية أو أخلاقية، ما يهم في النتيجة أن يخلق الإعلان صدًى واسع ذا تأثير أكبر من المنتج نفسه، وهذا أيضًا ما دفع صناعة الإعلانات أن تنتقل نقلة جذرية من الصناعة ذات الـ20 مليار دولار في أواخر السبعينات، إلى صناعة الـ 200 مليار دولار وذلك في بدايات القرن الواحد والعشرين.
جاءت الرأسمالية بثقافة الاستهلاكية الحديثة، يجب على المرء أن يدفع ليستمتع بوقته، وكلما دفع أكثر كلما كان مستوى معيشته وقدرة استمتاعه بوقته أكثر، ومن هنا جاءت الإعلانات بمثابة ذراع يمنى للرأسمالية، تروج لكل ما يمكن للمرء شراءه، سواء كان يحتاجه أم لا، إلا أن الإعلانات لا تقتصر فقط على كونها صناعة مخادعة، بل هي انعكاس واضح لمتطلبات المجتمع، وما يستمتع بمشاهدته، كما أنها أداة توظيف مثالية للأفكار، وكذلك البشر.
لم يتوقف الأمر عند حد الاستهلاكية فحسب، بل اتجه إلي الإساءة لفئات من المجتمع يستخدمها الإعلان كوسيلة للمقارنة
فهو لا يستهدفها بالأصل، بل يستهدف عكسها، فيستخدم البدانة كوسيلة مقارنة يحبب فيها كل من كان بدينًا في المنتج، ويكرهه أكثر وأكثر في شكله، كما استغلت الإعلانات جسد المرأة بشكل يمكن إدراج تصنيفه تحت مُسمى “العبودية الحديثة”، لتكون المرأة كغيرها أداة من أدوات إثارة المشاهد وجذبه لمشاهدة الإعلان.
صاحبت الرأسمالية فكرة الطبقية، فهي ببساطة ألا تتدخل الدولة ما دام المرء يعمل ويجني المال بشكل قانوني، لتتسع الفجوات والفروقات بين طبقات المجتمع، بل ويكون ذلك أمرًا مقبولًا واعتياديًا، لا يهم ذلك، المهم أن الإعلانات أيضًا لم تغفل مفهوم الطبقات، ولم تؤكد على فكرة اعتياده فحسب، بل صوّرت مدى سوء الحياة مع الطبقات الأدنى، وأنه من رابع المستحيلات أن يتنازل المرء ليتعايش من يعيش في الطبقات الأدنى.
تتابعت الانهيارات على المجتمع المصري بعد موجة الربيع العربي، فلم تنهار أنظمة سياسية فحسب، بل انهارت معها أفكار وقيم طالما كانت من أساسيات الأخلاقيات عند المجتمع المصري “المتدين بطبعه” كما يقول التعبير الشهير، فصار من الطبيعي الإعلان عن الطبقية والسخرية من كل من كان فقيرًا، وصار من الاعتيادي الاستهزاء بكل من لا يتمتع بجسد يطابق “مقاييس الجمال العالمية”، تعنيف الأطفال صار جزءًا من تربية المجتمع الأساسية، بل يكون مدعاة للضحك كإضافة كوميدية ولمسة فكاهية في الإعلان.
لم تكن الاستهلاكية تقتصر فحسب على المنتجات، أو كل ما كان ماديًا، بل اتخذت من الجنس والجمال والحب وسائل مادية للبيع هي الأخرى
وذلك منذ الثورة الجنسية في الثمانينات من القرن الماضي، فوضع صورة لامرأة عارية على صندوق الكبريت الصغير يسرع من عملية بيعه على عكس نظيره صاحب الملصق العادي، ومن هنا كانت الإعلانات صاحبة الإيحاءات الجنسية الأكثر مشاهدة، والأكثر رواجًا.
أدرك مصممو الإعلانات كل ما سبق، لا سيما أن صناعة الإعلان لا تطلب خبرة تسويقية فقط، فالصورة الواحدة لها ألف أثر نفسي على المشاهد، وللصوت الواحد تأثير قوي يتباين من سامع لآخر، لذا فالأمر يتطلب دراسات مجتمعية خاصة بالجمهور الذي يستهدفه الإعلان، وتحليل نفسي لكل صورة وصوت تم استخدامها داخل السياق.
يجب عليك أن تبيع كل ما تملك، سواء اقتنعت به أم لم تقتنع
تلك قاعدة مشهورة لدى المسوقين، وربما هي المحرك الأساسي وراء بيع العديد من المنتجات بإعلانات ذات تأثير أقوى من المنتج نفسه بل وربما تكون ذات محتوى لا يعبر أساسًا عن المنتج، فكان موسم الإعلانات ذات الإيحاءات الجنسية في أوج قوته في مصر في شهر رمضان الماضي، والذي نتج عنه وقف الكثير من الإعلانات عن العرض في الشاشات المحلية بعدما أحدثت ضجة واسعة في كيفية عرض إعلانات ذات محتوى إيحائي واضح بشكل مهين للمرأة.
الشوكولاتة في سبيل تعنيف الأبناء
يمل المشاهد من تكرار الأفكار، ولا يتعلق بما هو تقليدي واعتيادي، لذا فالحل هو مفاجآة المشاهد بما لا يتوقعه في الإعلان، فماذا عن مشهد لأب يضرب ابنه بحزامه لأنه لم يعجبه مظهره واهتمامه بتصفيف شعره، وسط صراخ أمه ومحاولة منعها للأب من أن يضرب الفتى، وفي النهاية يظهر إعلان شوكولاته “ماندولين” مصاحبًا لصوت السارد قائلًا لا يهم أن تكون مهتمًا بالموضة أو لا، فالكل يحب ماندولين، فإن سألت ما العلاقة بين ضرب الفتى والشوكلاتة، لن توجد إجابة منطقية غير استغلال عادات مجتمعية غير صحية فيصورة فكاهية للدعاية عن الشوكولاتة!
الإيحاءات الجنسية في سبيل بيع اللبن
كان إعلان شركة جهينة في شهر رمضان الماضي من أكثر الإعلانات المثيرة للضجة، فكانت إشكاليته في كون الأطفال يتحدثون بكلام ذي إيحاء جنسي في التعبير عن صدر المرأة بشكل مهين، والتحدث عن الرضاعة الطبيعية للأطفال بأنها لا قيمة لها، وأن الحليب الصناعي يستطيع الاستغناء عنها بكل سهولة، وعلى الرغم من استمرار الشركة في عرض منتجاتها المختلفة عن طريق إعلانات مشابهة لهذا الإعلان، إلا أنه وبعد فترة، قررت الرقابة المصرية وقف عرض الإعلان بسبب رفضه المجتمعي المثير للضجة.
“أنت مرفوض” للحياة في بلدك
“لايف بار” و ” ماونتن فيو” وغيرها من المجمعات السكنية التي تتمتع بكل الخدمات السكنية المختلفة في مصر التي تجعل من ساكنه ألا يحتاج أن يخرج من المجمع إطلاقًا إلا للذهاب لعمله، تخطت تلك المجمعات فكرة استثمار العقارات كمشروع تجاري فحسب، فقامت الإعلانات بالترويج لها كفكرة “أسلوب حياة”، فيجب على الساكن في تلك المجمعات أن يتمتع بمعايير معينة، ومقاييس تختلف عن كل من يعيش خارج تلك المجمعات فيظهر هذا الإعلان لمنتجعات “لايف بارك”، أن المال لا يعد المحدد الوحيد لشراء عقار في المنتجع السكني، فيعد مستوى التعليم والثقافة وطريقة الملبس وطريقة كلام المتحدث قد تؤثر كثيرًا على اختياره ليكون عضوًا في تلك الأماكن التي ستفصل بينها وبين مجمعات الفقراء بجدار عازل وشركات حراسة أجنبية.
لا تقتصر مهمة التسويق على بيع المنتجات فحسب، بل بيع أفكار وقيم جديدة من الممكن جدًا أن تكون دخيلة على مجتمع كامل، وتصبح جزءًا أساسيًا في أسلوب حياته فيما بعد، فهل هذا ما سيحدث مع المجتمع المصري قريبًا؟