بعد أكثر من عامين على تحرير محافظة إدلب شمال سوريا، أصبحت المحافظة عاصمة النازحين والمهجرين قسرًا بعدما قاربوا عدد سكان المحافظة في العام 2010 تقريبًا حيث بلغ عدد من استقبلتهم لما قرب من مليون إلى مليون و200 ألف شخص منتشرين في مناطق مختلفة في المحافظة سواءًا داخل المخيمات أو خارجها. استقبال هذا العدد الكبير من السكان الجدد أضاف تحدي كبير إلى جملة التحديات التي تواجه المحافظة، وقد صدر تنبيه استراتيجي عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية في إدارة أزمة ملف المهجرين والنازحين في إدلب.
صدمات كبيرة
استقبال محافظة إدلب لعدد كبير من النازحين والمهجرين أدى لصدمة كبيرة تلقتها إدارات المحافظة من مجالس محلية وغيرها، واستمرار تدفق المهجرين أرغم مجالس وقوى وفعاليات المجتمع المدني فيها للاعتذار في 7 ديسمبر/كانون الأول 2016 عن استقبال المزيد من المهجرين حتى إشعار آخر إلى حين استيعاب الأعداد الحالية. وهذا يؤشر إلى ثقل المسؤولية الملقاة على كاهل تلك الإدارات التي لم يكن أمامها سوى التعامل مع الواقع المتأزم وتأمين سبل الكفاف لهم، وبسبب حجم المسؤولية الكبيرة والضغط على المحافظة لم تجد تلك المجالس سوى المنظمات الدولية والمحلية لمساعدتها في حل أزمة المهجرين، ونشط معبر باب الهوى في إدخال عشرات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإغاثية.
وقد توصلت الإدارات المعنية لنموذج (إسعافي) في إدارة المهجرين من خلال “الهيئة العامة لإدارة المهجرين” مستفيدة من كثافة المنظمات الدولية والمحلية العاملة في المجال الإغاثي. فتمكنت عبر الهيئة من القضاء على العشوائيات والفساد الحاصل في توزيع المساعدات وضبط حاجيات المخيمات وتقديمها للمنظمات.
مخيم للمهجرين في إدلب
صدمة أخرى لاقتها المحافظة هي بقاء الفصائل العسكرية التي حررت المحافظة داخل المدن والبلدات في المحافظة، ودخولها في الأعمال المدنية بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال المجالس المحلية. ومن ثم هيمنتها على إدارة موارد عديدة في المحافظة بهدف الحصول على المال، في الوقت الذي تشهد تلك الفصائل انقسامات واستقطابات حادة لا تزال تشهد معارك بين بعضها البعض، ما كبل الفعاليات المدنية عن القيام بدورها في إدارة الموارد الاقتصادية.
تشتت المحافظة بين عدة إدارات كل إدارة تريد تنفيذ سياسة وأجندة خاصة بها منها إدارة تابعة لجيش الفتح، والحكومة الؤقتة، وحركة أحرار الشام، وفتح الشام، وغاب القرار المركزي الكفيل بتنظيم العملية الإنتاجية في مختلف القطاعات الإنتاجية في المحافظة وأبرزها الزراعة؛ – أهم قطاع في المحافظة – أدى لتعثر المحافظة على مدى العامين الماضيين.
تنبيه استراتيجي
في ظل الوضع المتأزم الذي شهدته إدلب في العامين الماضيين، لوحظ أن هناك هشاشة في الهيكل الاقتصادي للمحافظة من زراعة وتجارة وصناعة وبالأخص الزراعة حيث تراجع إنتاج القمح من 189 ألف طنًا إلى 40 ألف طنًا في العام 2015 كما لم يتجاوز حجم إنتاج الزيتون 50 ألف طن بينما تحتوي المحافظة على 13 مليون شجرة زيتون وتعد الأولى في إنتاج زيت الزيتون على مستوى سوريا ما قبل الثورة، ويقدر معدل الإنتاج السنوي من ثمار الزيتون في مواسم الحمل 880 ألف طن من الثمار.
صعوبات كثيرة واجهت الفلاحين ليس أقلها أن القطاع لم يكن من أولويات المجالس المحلية وحل مشكلاته، ومنها أيضًا قلة الخدمات التي يمكن أن يقدمها المزارع للأرض مثل المبيدات الحشرية والسماد والعمال وذلك بسبب ارتفاع أسعار كل ما ذكر في ظل قلة المال بين يدي الفلاح، وعدم تركز مساعدات المجالس والجهات المانحة لحل مشكلة هذا القطاع المهم في المحافظة بالرغم من أنه يعد مصدر رزق لشريحة واسعة تبلغ نسبة 50% من سكان إدلب أو لنحو 400 ألف عائلة.
كما شهد المعدل العام للأسعار ارتفاعًا كبيرًا والمتأتي من ارتفاع عدد السكان وما ترتب عليه من زيادة الاستهلاك والطلب، وذلك بسبب غياب الرقابة على النشاط التجاري التي أدت لتنامي الأسواق السوداء وانتشار الاستغلال والاحتكار، وفقدان الكثير من السلع الاستهلاكية داخل الأسواق لصعوبة دخولها إلى المحافظة، وارتباط الحركة التجارية بسيولة الوضع العسكري، إلى جانب الانخفاض الكبير في سعر صرف الليرة التي وصلت إلى حدود 500 ليرة أمام الدولار بانخفاض قارب 90% للقيمة الشرائية.
استقبال محافظة إدلب لعدد كبير من النازحين والمهجرين أدى لصدمة كبيرة تلقتها إدارات المحافظة المختلفة
ارتفاع أسعار السلع والخدمات كرّس بدوره نتائج سلبية على المجتمع، أبرزها الفقر، حيث بلغت نسبة الفقر في إدلب 76% في 2014 وهناك 107 آلاف عائلة ذات دخل شهري أقل من 40 دولار ويتقاضى العامل في إدلب أقل من 2 دولار يوميًا، ما فاقم من الظروف المعيشية للمواطن والمهجر وخصوصًا بعد وجود يتامى وعائلات كثيرة فقدت المعيل. ولم يتسنى للمنظمات الإغاثية العاملة معالجة هذه الظاهرة بسبب الأعداد الكبيرة في ظل قلة الدعم المقدم من المجتمع الدولي. أما في سوريا عمومًا فقد بلغ معدل الفقر 86.7% ووصل خط الفقر للفرد الواحد لما دون 1200 ليرة يوميًا أي ما يعادل 2 دولار تقريبًا.
وشهدت المحافظة هجرة رأس المال البشري حيث هجرت نسبة كبيرة من الكفاءات والعقول إلى الخارج لاسيما الأطباء والمهندسين والمعلمين …إلخ هربًا من عدم الاستقرار الناجم عن الوضع العسكري المتأزم في المحافظة وظروف المعيشة السيئة، فخسرت المحافظة أهم عامل في عملية التنمية والبناء وهو رأس المال البشري.
كما انعكس تشظي إدارات المحافظة على العملية التعليمية بسبب تضارب مصالح الجهات المتحكمة بالعملية التعليمية وأجنداتها، فضعف الهيكيلة الإدارية في التعليم بسبب تدخل العديد من الأطراف في إدارة الملف التعليمي في المحافظة حيث تواجدت ثلاثة مرجعيات هي وزارة التربية في الحكومة المؤقتة، المكاتب التعليمية التابعة لجيش الفتح، وزارة التربية في دمشق تعمل كل منها على فرض نمط ومنهاج تعليمي مختلف عن الآخر.
وهنا سلط التنبيه الضوء على العراقيل التي حددت خيارات الفعاليات المدنية وكوادرها في المحافظة ويعود هذا بسبب تشتت المحافظة بين عدة إدارات بأجندات مختلفة تفتقر لرؤية استراتيجية موحدة تمكنها من امتصاص صدمة النزوح التي تعرضت لها وتنقلها إلى وضع أكثر استقرارًا مما هي فيه. واعتماد الإدارات المفرط على المنظمات الدولية والمحلية في تقديم المساعدات للسكان ومخيمات المهجرين والمجالس المحلية، أدى إلى ظهور التبعية بأنقى صورها، وأضحى الجو العام هو تخديم تلك المنظمات بالأرقام والبيانات والشكوى العامة في قلة الدعم المالي، والابتعاد عن تخديم القطاعات الفعالة في المحافظة وأهمها الزارعة، الأمر الذي ساهم في ارتفاع في معدلات التضخم والفقر والبطالة بالإضافة إلى ظهور اقتصاد موازي مؤسس من قبل تجار استغلوا حالة الفوضى واللانظام لتحقيق أرباح عالية على ظهر المواطن والمهجر.
وقد اقترح التنبيه جملة من الحلول المقترحة التي تمكن الإدارات المتواجدة للخروج من الأزمة التي تعاني منها المحافظة تبدأ بإعادة هيكلة الوظائف العامة المعنية بالجانب الخدمي والتنموي والتعليمي في المحافظة – بعد الدفع على تنحية الأثر العسكري قدر المستطاع – وفق عدة مقترحات من بينها توحيد جهود كافة الهيئات والإدارات المدنية العاملة في المحافظة باتجاه تفعيل خطة عمل موحدة لإدارة موارد المحافظة وإدارة الأزمة، ومركزة القرارات الإدارية والتنفيذية من قبل مجلس المحافظة.
وتشكيل هيئة اقتصادية من الخبراء ترفد الإدارة العليا للمحافظة بالقرارات الاقتصادية السليمة، إلى جانب هيئات إحصائية تعنى بالشأن الصحي والاقتصادي والمال، و.تأسيس هيئة مالية (تؤسس لعمل مصرفي) تدعم إحداث صندوق دعم مالي يتم تغذيته من المساعدات الدولية والمحلية، وذلك من خلال التنسيق مع تلك الجهات، وتسخير الصندوق لحل مشاكل القطاعات الإنتاجية وفي مقدمتها الزراعة ومشاكل الفلاحين والنهوض بالقطاعات الأخرى التي تتميز بها المحافظة، لتأمين الحاجات الأساسية.
اعتماد إدارات إدلب المفرط على المنظمات الدولية والمحلية في تقديم المساعدات للسكان ومخيمات المهجرين والمجالس المحلية، أدى ظهور التبعية بأنقى صورها
ووضع آلية قانونية للتواجد على أرض المحافظة لكل الهيئات والمنظمات المحلية والأجنبية بكافة تخصصاتها واقتطاع ضريبة معينة لقاء كيانها القانوني. وتقديم خدماتها يتم بالتنسيق والتعاون مع “الهيئة العامة لإدارة شوؤن المهجرين” والتنسيق والتعاون مع إدارة باب الهوى التابعة لحركة أحرار الشام بهدف إدخال آليات حديثة في العمل ورفع سوية المعبر لزيادة حركة التجارة الخارجية من خلاله، ونقل الإيرادات لصندوق مجلس المحافظة. وأخيرًا شرعنة العمل التجاري للتجار والمستثمرين، وتقديم الحوافز اللازمة لهم بغرض دفع العملية الإنتاجية، والمشاركة معهم في إحياء البنية التحتية من مشافي ومراكز صحية ومدارس وطرق وغيرها.