ترجمة وتحرير نون بوست
إذا أمعنا النظر إلى الخطوط العريضة التي تميّز النظام العالمي اليوم، فيمكننا ملاحظة النفوذ المتنامي والحركية الكبيرة، التي تتسم بها كل من الصين وروسيا، باعتبارهما قوتين رجعيتين من جهة، وتداعي الثقة والإرادة داخل العالم الديمقراطي، فضلا عن التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على دورها القيادي للنظام العالمي الذي تضطلع به منذ سنة 1945، من جهة أخرى.
كما أنه من المهم إدراك أنه ما دام هذان التوجهان يتماشيان تدريجيا مع بعضهما البعض، وفي ظل التداعي التدريجي لقدرة الولايات المتحدة وحلفائها في الحفاظ على النظام العالمي التقليدي، بما يستجيب لطموح القوى الرجعية التي ترغب في تغييره، فإننا سنصل إلى نقطة ينهار معها النظام القائم، وينحدر العالم إلى مرحلة من الوحشية والفوضى، تماما مثلما حدث في ثلاث مناسبات سابقة خلال العقدين الماضيين.
في الحقيقة، إن عواقب هذا الانهيار على مستوى الأرواح، والثروات، بالإضافة إلى الحريات الضائعة والآمال المفقودة، ستكون بمثابة الصاعقة. ومن هذا المنطلق، فإن ضمان تماسك واستقرار النظام العالمي، أمر ضروري ومفروغ منه بالنسبة للأمريكيين، رغم أن بعضهم يتذمّر أحيانا من العبء الثقيل، الذي تحمله الولايات المتحدة للحفاظ على تماسك هذا النظام.
تتمتع الصين بنفوذ واسع في شرق آسيا، مثلما تتمتع روسيا بنفوذ واسع في شرق أوروبا. لذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها أن تمنع الصين من أن تصبح قوة اقتصادية
عموما، أثبت التاريخ أن الأنظمة العالمية لا بد أن تصل إلى نقطة الانهيار، لكن ذلك لطالما حدث بطريقة عنيفة، وسريعة، وغير متوقعة، فقد وصلت أوروبا في القرن الثامن عشر إلى قمة عصر التنوير، قبل أن تسقط القارة بأكملها في الحضيض، خلال حروب نابليون.
خلال العقود الأولى للقرن العشرين، تنبأ أبرز المفكرين في العالم بنهاية صراع القوى الكبرى، مع اندلاع ثورات جذرية في وسائل الاتصال والنقل داخل النسيج الاقتصادي، وهو ما كان من المحتمل أن يجمع الشعوب مع بعضها البعض، قبل أن تندلع أكبر حرب مدمرة في التاريخ بعد أربع سنوات فقط من هذه النبوءة.
والجدير بالذكر أن الهدوء النسبي الذي شهده العالم خلال العشرينات لم يدم طويلا، فقد اندلعت شرارات مماثلة خلال الثلاثينات، مهدت بدورها لقيام حرب عالمية ثانية. وبالتالي، فإن معرفة طبيعة المرحلة التي نعيشها اليوم ضمن مراحل التمشي التقليدي للحروب المدمرة، أو مدى اقترابنا من نقطة التماس، التي يلتقي فيها كلا التوجهين، في تصادم مباشر، تبدو كلها أسئلة محيرة نعجز اليوم عن الإجابة عنها.
فهل نحن على بعد 3 سنوات فقط أم 15 سنة من الأزمة العالمية القادمة؟ قد نختلف حول المدة الزمنية التي نحتاجها لبلوغ تلك المرحلة، لكننا نتفق على أننا نسير حتما في الطريق المؤدي إليها.
إنه من المبكر جدا تحديد طبيعة التأثير الذي يمكن أن يحدثه وصول ترامب للسلطة على هذه التوجهات، إلا أن المؤشرات الأولية تثبت أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستعجل بقيادتنا تجاه الأزمة، أكثر من قدرتها على تعطيلها أو عكسها.
في هذا الإطار، ستدفع محاولة الإدارة الجديدة لاحتواء الوضع في سوريا، بوتين إلى اتخاذ مواقف أكثر جرأة، كما أن تصعيدها للخطاب الموجه للصين، سيدفعها للذهاب بعيدا في اختبار مدى مراهنتها على القوة العسكرية. خلافا لذلك، لا زلنا نجهل مدى استعداد الرئيس الأمريكي للدخول في مواجهة حقيقية مع هذه الأطراف.
في الأثناء، إن كل ما يمكن الجزم به هو أن ترامب لم يفكر كثيرا في التداعيات المستقبلية المحتملة لخطاباته وأفعاله.
كما أنه، من المعلوم لدى الجميع، أن الصين وروسيا تعدّان قوتان كلاسيكيتان رجعيتان، وعلى الرغم من أن كليهما لم يحظ في الماضي بنفوذ خارجي، مقارنة بتواجدهما القوي على الساحة العالمية اليوم، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة أن روسيا في الغرب، والصين في الشرق، تشعران بعدم الرضا، نظرا لطريقة توزيع القوى ضمن النظام العالمي الحالي. ولذلك، يسعى كل منهما لاستعادة النفوذ الإقليمي، الذي سبق له أن تمتع به في الماضي.
خلال العقود الأولى للقرن العشرين، تنبأ أبرز المفكرين في العالم بنهاية صراع القوى الكبرى، مع اندلاع ثورات جذرية في وسائل الاتصال والنقل داخل النسيج الاقتصادي
فمن جهة، تهدف الصين إلى بسط نفوذها على منطقة شرق آسيا، التي تضم اليابان وكوريا الجنوبية، ودولا أخرى من جنوب شرق آسيا، تخضع جميعها لإرادة بكين، وفقا لما يتلاءم مع خياراتها الإستراتيجية، والاقتصادية والسياسية، وهو ما يعني انسحاب النفوذ الأمريكي إلى ما وراء شرق المحيط الهادئ، قرب جزر الهاواي.
ومن جهة أخرى، تخطط روسيا لبسط نفوذها في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا، التي لا زالت موسكو تنظر إليها إلى اليوم، على أنها جزء من نفوذ إمبراطوريتها.
عموما، تسعى كل من موسكو وبكين إلى تعديل ما تعتبرانه توزيعا غير عادل للقوة، والنفوذ، والشرف، ضمن النظام العالمي الذي تقوده واشنطن في مرحلة ما بعد الحرب.
ومن ناحية أخرى، تشعر الصين وروسيا، مثل كل الأنظمة الأوتوقراطية في العالم، بأنها مهددة من طرف القوى الديمقراطية في النظام العالمي، والديمقراطيات المتاخمة لها. وفي الوقت نفسه، يرى كلاهما أن الولايات المتحدة تمثّل حاجزا رئيسيا، يمنعهما من تحقيق طموحهما. ونتيجة لذلك، تسعا كلتا الدولتين إلى نخر جسد النظام الأمني العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يقف عقبة في طريق تحقيقهما لما يعتبرانه “قدرهما المحتوم”.
كانت جيدة لفترة من الزمن
واجهت الصين وروسيا، لفترة قصيرة من الزمن، صعوبات وتحديات عديدة، منعتهما من تحقيق أهدافهما. وتمثل العائق الرئيسي الذي اعترض طريقهما في قوة وتماسك النظام العالمي في حدّ ذاته، وقدرة المدافعين عنه على المقاومة.
في الحقيقة، إن نظام التحالفات السياسية والعسكرية الذي تقوده الولايات المتحدة، خاصة في منطقتي أوروبا وشرق آسيا، ترك الصين وروسيا في موقف يتحتم عليهما فيه التأقلم مع ما وصفه دين أتشيسون في الماضي”بحالات القوة”، ما دفعهما إلى التزام الحذر خلال العمل على تحقيق طموحاتهما، أو تأجيل جهودهما لتعطيل النظام العالمي بعد الحرب الباردة.
ومن المثير للاهتمام أن النظام العالمي قد اختبر طموحاتهما بطريقتين مختلفتين؛ ففي حقبة التفوق الأمريكي، ساهمت الصين وروسيا في ظهور النظام العالمي الجديد، واستفادتا، في أغلب الأحوال، من النظام العالمي الاقتصادي المنفتح، الذي خلقته الولايات المتحدة، وبذلت جهدها لضمان استمراريته. وطالما أن وظائف هذا النظام تعمل بشكل طبيعي، فإن الصين وروسيا كانتا قادرتان على أن تحققا فوائد كثيرة من خلال اللعب وفقا لقواعده، أكثر مما يمكن تحقيقه من خلال تحديه أو محاولة إسقاطه.
ومن جانب آخر، أثرت الخصائص السياسية والإستراتيجية للنظام العالمي عليهما بطريقة سلبية، فقد أدى تنامي الأنظمة الديمقراطية بعد عقدين من سقوط الاتحاد السوفيتي، إلى ظهور تهديد حقيقي لقدرة القادة في بكين وموسكو في الحفاظ على سيطرتهم على الوضع.
يشير التاريخ إلى أن هذه الدوامة يصعب التعافي منها مع غياب التحول الجذري للولايات المتحدة، وقد يحدث هذا التحول بعد فوات الأوان
أما بعد نهاية الحرب الباردة، فكان كلاهما يعتبر أن تطور المؤسسات الديمقراطية، خاصة في المجال الجغرافي المتاخم لهما، بمثابة تهديد وجودي. ويعود ذلك لسبب بسيط؛ وهو أن الأنظمة الأوتوقراطية كانت ولا زالت، منذ زمن كليمنس فون مترنيش، تخشى عدوى الليبرالية.
في الأثناء، كان مجرد ظهور ديمقراطيات على حدودها، أو التدفق الحر للمعلومة عالميا، أو ظهور رابط خطير بين السوق الرأسمالية الحرة والحرية السياسية، بمثابة تهديد لقادة يعتمد وجودهم في السلطة على مدى قدرتهم على وضع القوى الجامحة في بلدانهم تحت المراقبة. وبالتالي، دفعهم التهديد الذي يطرحه هذا النظام بدعم من الولايات المتحدة، إلى معاداة هذا النظام والولايات المتحدة على حدّ سواء. في المقابل، منعهم تفوق القوى المحلية والعالمية، إلى وقت قريب، من الدخول في مواجهة مباشرة مع النظام.
من المرجح أن القادة الصينيين قد شعروا بالقلق حول تأثير مواجهة خاسرة مع الولايات المتحدة على شرعيتهم داخليا، وهو ما دفع بوتين أيضا للدخول في مواجهة غير مباشرة مع واشنطن على الأراضي السورية فقط، الذي ردّت عليها الولايات المتحدة بطريقة سلبية.
أصبحت أكثر تعقيدا بعد وصول ترامب
مثلت القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وحلفائها في آسيا وأوروبا، أصعب اختبار لطموحات روسيا والصين إذ أنها تدرك رغم قوتها المتزايدة، النتائج التي من المحتمل أن تترتب عن الدخول في مواجهة مع أكبر قوة عالمية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، إلى جانب بعض القوى الإقليمية الأخرى، التي تربطها بها تحالفات ومصالح إستراتيجية، من بينها اليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، إلى جانب بعض القوى الصغرى، التي تمتلك قوة لا يستهان بها، على غرار أستراليا وفيتنام.
في الواقع، إذا دخلت روسيا في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، فإنها ستكون بحاجة لمواجهة حلفائها أيضا، في حلف شمال الأطلسي. وإذا توحدت هذه القوى، فإنها ستشكل خطرا كبيرا على روسيا، التي تبدو قادرة على الاستعانة فقط بعدد قليل من حلفائها. علاوة على ذلك، ستواجه روسيا، التي تبدو أكثر ضعفا من الصين، بسبب تراجع عدد سكانها واعتماد اقتصادها كليا على النفط والغاز، تحديا كبيرا للغاية.
على الرغم من أن الصين كانت قادرة على تحقيق انتصار سريع في حال اندلاع صراع محتمل، مثل إخضاع تايوان لإرادتها العسكرية، أو الفوز في معركة بحرية في جنوب أو شرق بحر الصين، إلا أنه سيكون عليها أن تدخل في مواجهة مع أكبر القوى الصناعية في العالم، وأكثرها ثراء وتقدما تكنولوجيا، وستكون في حاجة إلى قطع كل الطرق أمامها للوصول للسوق الخارجية التي يعتمد عليها اقتصادها.
على مدى عقود، أثبت الموقف العالمي القوي للولايات المتحدة وحلفائها، أنها تستطيع مجابهة أي خطر تواجهه. ولطالما أن الولايات المتحدة تمثل حليفا قويا في أعين شركائها، يمكن الاعتماد عليه، فالتحركات العدوانية للصين وروسيا قد يكون لها نتائج عكسية، قد تصل إلى درجة أن تطيح بأنظمتهم.
كانت توجهات روسيا أكثر عنفا وتطرفا، فقد تدخلت في دولتين جارتين لها، ألا وهما جورجيا في سنة 2008، وأوكرانيا في سنة 2014، وفي كلتا الحالتين، انتزعت جزءا هاما من سيادة هذين البلدين
في هذا الصدد، قال الأستاذ في العلوم السياسية، ويليام هولفورث، متحدثا عن الاستقرار المتأصل للنظام أحادي القطب: “بما أن القوة الإقليمية غير راضية، وتسعى إلى تحدي الوضع الراهن، فإن جيرانهم الذين يخشون توسعهم سينذرون القوى العظمى؛ الولايات المتحدة، لاحتواء طموحاتهم. وهذا فعلا ما يحدث، فقد صعدت واشنطن من وتيرة إجراءاتها الردعية مع الصين وروسيا، ولذلك تراجعت هاتان الدولتان، أو لنقل إن ذلك جعلهم يفكرون مليا قبل الإقدام على أي خطوة”.
أما في مواجهة هذه العقبات، فيظل أفضل خيار بالنسبة لروسيا والصين هو التفكير، أو حتى العمل، على إضعاف النظام العالمي، الذي تدعمه الولايات المتحدة من الداخل، وذلك إما عن طريق فصل الولايات المتحدة عن حلفائها، أو من خلال إثارة شكوكهم حول مدى التزامها. وبالتالي، تشجيع حلفائها على التخلي عن حماية إستراتيجية النظام العالمي الليبرالي، وإقامة علاقات وطيدة مع منافسيها.
من جهة أخرى، أصبح النظام الحالي لا يعتمد فقط على القوة الأمريكية، بل أيضا على وحدة وتماسك العالم الديمقراطي. وقد لعبت الولايات المتحدة دور الضامن الأساسي والوحيد للنظام، خصوصا في المجال العسكري والاستراتيجي، في حين عمل النظام الأيديولوجي والاقتصادي (ديمقراطية أوروبا وشرق آسيا والمحيط الهادئ) على أن يبقىقويا ومتماسكانسبيا.
في المقابل، وفي السنوات الأخيرة، اهتزت هاتان الركيزتان؛ فقد تزعزع النظام الديمقراطي، وتأزمت الظروف الاقتصادية، وشهدت القومية والقبلية انتكاسة، علاوة على القيادة السياسية الضعيفة وغير المؤكدة، وعدم استجابة الأحزاب السياسية السائدة، والعصر الجديد من الاتصالات، التي يبدو أنها تعزز القبلية ولا تضعفها، كل هذا الخليط أنتج أزمة ثقة،ليس فقط في الديمقراطيات، لكن في ما يمكن أن يطلق عليه مشروع “التنوير الليبرالي”.
في الأثناء، كان هذا المشروع يهدف إلى مزيد تدعيم المبادئ العالمية للحقوق الفردية والإنسانية المشتركة،بغض النظر عن الخلافات الإثنية أو العرقية أو الدينية أو القومية، أو حتى القبلية. فضلا عن ذلك، كان هذا المشروع يطمح في أن يساهم في تنامي الترابط الاقتصادي لخلق مصالح مشتركة عبر الحدود، وإنشاء مؤسسات دولية لتسوية الخلافات وتسهيل التعاون بين الدول.
كما شهد العقد الماضي ظهور القبلية والقومية، وزيادة التركيز على الآخر في جميع المجتمعات، وفقدان الثقة في الحكومة، وفي النظام الرأسمالي، وفي الديمقراطية. وبالتالي، نحن نشهد عكس ما أسماه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”، إذ أن التاريخ يعيد كتابة نفسه ولكن بروح انتقامية،تحمل كل الجوانب المظلمة في البشرية، بما في ذلك توق الإنسان الدائم لقائد قوي ومقدام، يوجهه بكل حزم، في الوقت الذي يتسم فيه العالم بالارتباك والتنافر.
عصر الظلمات
في الواقع، يبدو أن تجنب فشل مشروع التنوير لا مفر منه، فهو بمثابة ظاهرة متكررة تنتجها العيوب الكامنة في كل من الرأسمالية والديمقراطية.
ففي ثلاثينات القرن الماضي، أدت الأزمة الاقتصادية، وارتفاع النزعة القومية إلى بروز العديد من التساؤلات، التي يدور بعضها حول ما إذا كانت الديمقراطية والرأسمالية أفضل البدائل للفاشية والشيوعية. وليس من قبيل الصدفة أن أزمة الثقة في الليبرالية رافقت انهيار الترتيب الإستراتيجي.
طالما أن الولايات المتحدة تمثل حليفا قويا في أعين شركائها، يمكن الاعتماد عليه، فالتحركات العدوانية للصين وروسيا قد يكون لها نتائج عكسية، قد تصل إلى درجة أن تطيح بأنظمتهم
ثم كان التساؤل الآخر؛ عما إذا كانت الولايات المتحدة؛ باعتبارها القوة الخارجية المهيمنة، ستتدخل لإنقاذ أو إعادة بناء نظام جديد، تكون فيه كل من بريطانيا وفرنسا غير قادرتين وغير مستعدتين للحفاظ عليه.
أما الآن، فالسؤال الذي يطرح هو هل أن الولايات المتحدة مستعدة لمواصلة التمسك بالنظام الذي خلقته، والذي يعتمد اعتمادا كليا على القوة الأمريكية؟ وهل أن الأمريكيين سيجازفون، حتى وإن كانوا على دراية كاملة بمخاطر هذه العملية، وسيسمحون بانهيار النظام، والوقوع في حالة من الفوضى والصراعات؟.
عموما، كانت هذه الرغبة موضع شك لبعض الوقت؛ قبل انتخاب ترامب وحتى قبل انتخاب باراك أوباما. ولكن في ربع القرن الماضي، وإثر انتهاء الحرب الباردة، تساءل الأمريكيون، وعلى نحو متزايد، عن سبب تحمل الولايات المتحدة أعباء مثل هذه المسؤولية الاستثنائية، من أجل الحفاظ على النظام العالمي، في حين أنه لا يخدم مصالحها بشكل واضح، خاصة وأنها تبذل كل هذا المجهود، وتتحمل كل هذا العناء، ولا تعود الفائدة إلا على الآخرين.
من جهتهم، يدرك القليلون فقط لماذا اضطلعت الولايات المتحدة بهذا الدور الريادي، عقب كارثة الحربين العالميتين في القرن العشرين.
ومن هذا المنطلق، يصعب الجزم بأن جيل العشرينات، الذين ولدوا بعد نهاية الحرب الباردة، بمقدوره فهم الهياكل الاقتصادية والأمنية والسياسية، التي أنشئت غداة الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة إلى ذلك، ليس بإمكانهم أن يطلعوا على هذه الحيثيات في الكتب المدرسية والجامعية، وذلك لعدم رغبة الولايات المتحدة في تسليط الضوء على الشرور والحماقات التي ارتكبتها “الإمبريالية الأمريكية”.
علاوة على ذلك، تم التغاضي تماما عن الأزمات التي نشبت في النصف الأول من القرن العشرين، والحلول التي تم اتخاذها في سنة 1945. ونتيجة لذلك، نفد صبر الأمريكيين خاصة في ظل الصعوبات والتكاليف التي تكبدوها، جراء الاضطلاع بهذا الدور العالمي.
على الرغم من إصرار إدارة أوباما على أن الإستراتيجية الأمريكية يجب أن توجه لآسيا، إلا أنها تركت حلفاءها في حيرة من أمرهم؛ فما مدى مصداقية الولايات المتحدة، وما الذي سيحدث بمجرد مواجهة أول تحد لها هناك؛ أي الصين؟
وعلى الرغم من التكلفة الباهظة للحروب التي شنتها الولايات المتحدة؛ في كل من كوريا في سنة 1950، وفيتنام في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والركود الاقتصادي، بالإضافة إلى أزمة الطاقة و”الكساد التضخمي”، الذي مرت به في منتصف إلى أواخر السبعينات، إلا أنها ليست الأسباب الرئيسية وراء تغير موقف الأمريكيين من التورط العالمي للولايات المتحدة. كما أن العامل الأساسي الكامن وراء تغير موقف الأمريكيين يتمثل في الحروب الفاشلة، التي خاضتها في كل من العراق وأفغانستان، والأزمة المالية التي شهدتها سنة 2008.
من جانب آخر، كان النهج الذي ارتآه الرئيس المنتهية ولايته، باراك أوباما، كان في تناقض صارخ مع التدخل العالمي، إذ كانت الإستراتيجية الأساسية التي اعتمدها تقوم بالأساس على التقشف. وفي الأثناء، انتقد أوباما وتنكر للاستراتيجية الأمريكية السابقة من خلال تصريحاته وتصرفاته، وسعى لتغيير الرأي العام الأمريكي، ليكونوا في صف الحد من حجم الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة، وكذلك تضييق تعريف المصالح الأمريكية.
في حقيقة الأمر، ردت إدارة أوباما على الاخفاقات التي تكبدتها إدارة جورج بوش في كل من العراق وأفغانستان، ليس عن طريق استعادة النفوذ الأمريكي، وإنما من خلال زيادة الحد منه.
وعلى الرغم من أن إدارة أوباما قد وعدت بإعادة التوازن للسياسة الخارجية الأمريكية في آسيا والمحيط الهادئ، إلا أنها، عمليا، لم تقم إلا بالتقليل من التزاماتها العالمية، واستيعاب القوى التحريفية على حساب أمن الحلفاء.
في الوقت ذاته، زعزعت محاولة الإدارة في وقت مبكر “لإعادة ضبط” العلاقات مع روسيا،صورة الولايات المتحدة كحليف موثوق به، خاصة وأن هذه الخطوة أتت عقب غزو روسيا لجورجيا، ولذلك اعتبرها العديدونبمثابة مكافأة لعدوان موسكو.
فضلا عن ذلك، أعادت واشنطن إحياء العلاقات مع روسيا، على حساب حلفاء الولايات المتحدة وأوروبا الوسطى؛ حيث تخلت عن برنامج التعاون العسكري مع بولندا وجمهورية التشيك، لاسترضاء الكرملين. هذه المحاولة للتعايش مع هذا التحالف، كانت مطابقة للسياسة التي تعتمدها روسيا مع الغرب، ناهيك عن سياسة بوتين القمعية تجاه شعبه.
انخرطت روسيا في عمليات تمويل لأحزاب اليمين الشعبية في أوروبا، بما في ذلك فرنسا، واستخدمت وسائل الإعلام التابعة لها لدعم المرشح المفضل لديها وتشويه صورة الآخرين لدى الرأي العام
وبعيدا عن استثارة سلوك أفضل من الجانب الروسي، ساهمت هذه العلاقة في تشجيع بوتين على اتخاذ سياسة أكثر صرامة.
خلال سنة 2014، سلطت ردة فعل الغرب حول غزو روسيا لجورجيا والاستيلاء على شبه جزيرة القرم، التي كانت، إلى حد ما، أفضل بكثير من ردة فعل إدارة بوش (على الأقل فرضت أوروبا والولايات المتحدة على روسيا عقوبات غداة غزو أوكرانيا)، الضوء على تردد الإدارة الأمريكية في إجبار روسيا على التراجع عن السياسة التي تعتمدها من أجل تحقيق مصالحها فقط.
وفي هذا الصدد، اعترف أوباما علنا، بأنه يرى أن موقف روسيا في مواجهة أوكرانيا كان متميزا، على الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا، آنذاك، كانوا يعملون على حماية سيادة ذلك البلد.
أما في سوريا، فقد دعت الإدارة الأمريكية روسيا، بطريقة غير مباشرة، للتدخل لفض الصراع، من خلال موقفها السلبي تجاه الحرب. ومما لا شك فيه، وحتى بعد تدخل روسيا، لم تقدم الولايات المتحدة على اتخاذ أي موقف، وهو ما يعزز فكرة أن الولايات المتحدة تريد أن تتراجع عن الدور الريادي، الذي كانت تضطلع به في الشرق الأوسط (هذا الانطباع تولد من خلال الانسحاب غير المبرر واللاعقلاني لجميع القوات الأمريكية من العراق).
كما ساهمت الإجراءات الروسية التي اتخذتها لاحقا،في تدفق المزيد من اللاجئين من سوريا إلى أوروبا. وكالمعتاد، لم ترد الولايات المتحدة على ذلك، على الرغم من الأضرار الجسيمة التي خلفها دخول اللاجئين إلى المؤسسات الديمقراطية الأوروبية. ومن هذا المنطلق، يبدو أن إدارة أوباما كانت ترسل إشارة في ذلك الوقت، مفادها أن كل ما يحدث ليس من اختصاصها.
أما في شرق آسيا، فقد قوضت إدارة أوباما الجهود الحثيثة، من أجل التأكيد على اهتمام الولايات المتحدة بتعزيز نفوذها هناك. وما كان يسمى “المحور”، ثبت أنه مجرد كلمة رنانة تجوب خطابات السياسيين. علاوة على ذلك، عرقل عدم كفاءة الإنفاق الدفاعي العام، التنامي الضروري للتواجد العسكري في المناطق التي تتمركز فيها الولايات المتحدة. كما ساهمت أيضا الإدارة، في تلك الفترة، بمعية الاقتصاد المتعثر،في قتل الشراكة عبر المحيط الهادئ.
بالإضافة إلى ذلك، عانى “المحور” من التصور الأمريكي العام، الذي أفضى إلى انسحاب الولايات المتحدة من الحروب التي تخوضها، وسياسة التقشف التي كان يدعمها الرئيس في خطاباته، وسياسات الإدارة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
عموما، كان انسحاب القوات الأمريكية من العراق، سابقا لأوانه، ومكلفااستراتيجيا، ولا لزوم له. وما زاد الطين بلة، هو التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي|، بالإضافة إلى عدم قدرتها على استخدام القوة مع بشار الأسد، وهو ما كان جليا للعيان في كل أنحاء العالم.
وعلى الرغم من التكلفة الباهظة للحروب التي شنتها الولايات المتحدة؛ في كل من كوريا في سنة 1950، وفيتنام في ستينات وسبعينات القرن الماضي، إلا أنها ليست الأسباب الرئيسية وراء تغير موقف الأمريكيين من التورط العالمي للولايات المتحدة
وعلى الرغم من إصرار إدارة أوباما على أن الإستراتيجية الأمريكية يجب أن توجه لآسيا، إلا أنها تركت حلفاءها في حيرة من أمرهم؛ فما مدى مصداقية الولايات المتحدة، وما الذي سيحدث بمجرد مواجهة أول تحد لها هناك؛ أي الصين؟.
من جهتها، أخطأت إدارة أوباما عندما توقعت أنه بإمكانها التقليص من إنفاقها على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه أن تنجح في أن تطمئن الحلفاء في آسيا من أنها لا تزال شريكا موثوقا به.
الطبيعة تمقت الفراغ
دعمت كلتا القوتين العظمتين الرجعيتين، من خلال تأثيرهما المتزايد، فكرة مراجعة الواقع الذي تشهده الساحة الدولية، وساهمتا في تنامي الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قد خسرت الرغبة والقدرة في السيطرة، خاصة وأن التأثير النفسي والسياسي للحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، أضعف دعم التدخل الأمريكي الخارجي، ومن هنا ظهرت الفجوة.
من ناحية أخرى، هناك اعتقاد سائد بين الديمقراطيين، بأن القوى الرجعية قد تكون مسالمة وخاضعة لرغباتهم، ومن هذا المنطلق خفضت الولايات المتحدة من حجم تدخلاتها، بهدف تقليل التوترات والمشاحنات. ولكن لسوء الحظ، حصل العكس، فكلما شعرت القوى الرجعية بالأمن، زادت طموحاتها في تغيير النظام لصالحها، نظرا لأن مقاومة التغيير تكون ضعيفة للغاية.
لكن إذا أمعنا النظر في كل من الصين وروسيا، فسنلاحظ أنهما لم تكونا أبدا خلال العقدين الماضيين متمتعتين بهذا القدر من الأمن والأمان من الاعتداءات الخارجية كاليوم. فضلا عن ذلك، أصبحتا أكثر ميلا نحو العنف في الدفع نحو ما تتصورانه، وذلك من أجل دعم مصالحهما، في نظام لم تعد فيه الولايات المتحدة تبدي تلك المقاومة التي كانت عليها من قبل.
ومن الملفت للنظر أن كلتا الدولتين العظمتين قد أظهرتا اختلافا متباينا في أسلوب قيادتهما. فالصين، حتى الآن، تعتبر أكثر حذرا وصبرا من روسيا، في الوقت الذي تبحث فيه عن التأثير الاقتصادي بالدرجة الأولى، ولا تستخدم القوة العسكرية إلا كأداة ردع وتخويف إقليمية.
والجدير بالذكر أنها وإلى حد الآن لم تلجأ للاستخدام الصريح للقوة بعد، على الرغم من أن تحركاتها في بحر الصين الجنوبي لها طابع عسكري، ولكن برؤية إستراتيجية واضحة. وفي الأثناء، إن حذر بكين من استخدام القوة العسكرية لا يعني أنها ستبقى على هذا الحال مستقبلا؛ أي المستقبل القريب.
يصعب الجزم بأن جيل العشرينات، الذين ولدوا بعد نهاية الحرب الباردة، بمقدوره فهم الهياكل الاقتصادية والأمنية والسياسية، التي أنشئت غداة الحرب العالمية الثانية
في الحقيقة، تستخدم القوى الرجعية قدراتها العسكرية المتنامية دائما، عندما تشعر أن المكاسب المحتملة أكبر من كل المخاطر والتكاليف. وانطلاقا من هذا المفهوم، إذا لاحظت الصين أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه حلفائها وموقعها في المنطقة قد تراجع وأصبحت ضعيفة لدرجة أنها لا تقدر على الوفاء بالتزاماتها، فستميل الصين تبعا لاستخدام القوة التي تمتلكها لتحقيق أهدافها. ونظرا لأن خطى التوجه متقاربين، فستكون هذه بمثابة أول أزمة تقع بين البلدين.
من جانب آخر، كانت توجهات روسيا أكثر عنفا وتطرفا، فقد تدخلت في دولتين جارتين لها، ألا وهما جورجيا في سنة 2008، وأوكرانيا في سنة 2014، وفي كلتا الحالتين، انتزعت جزءا هاما من سيادة هذين البلدين. وبالعودة إلى ردود الفعل التي كانت تتسم بها مواقف الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال أربع عقود من الحرب الباردة ضد روسيا، فقد كانت رسائلها إلى الكرملين مؤخرا-وغيره حول العالم- أقل حدة من قبل.
في المقابل، قامت موسكو بالتفاعل مع ردود فعل واشنطن من خلال إرسال قوات كبيرة إلى سوريا، مستغلة سيطرتها على سوق الطاقة الأوروبية كسلاح له.فضلا عن ذلك، شنت موسكو حروبا رقمية ضد الدول المجاورة لها، وانخرطت في مواجهة رقمية واسعة النطاق.
في الحقيقة، استخدمت الحكومة الروسية في الآونة الأخيرة سلاحا، تفتقده الصين، أو ربما لا ترغب في استخدامه، وهوالقدرة على التدخل المباشر في العمليات الانتخابية الغربية، من أجل التأثير على مخرجاتها، وبشكل أعم، فهي تهدف من خلال ذلك لتشويه الأنظمة الديمقراطية.
علاوة على ذلك، انخرطت روسيا في عمليات تمويل لأحزاب اليمين الشعبية في أوروبا، بما في ذلك فرنسا، واستخدمت وسائل الإعلام التابعة لها لدعم المرشح المفضل لديها وتشويه صورة الآخرين لدى الرأي العام، كما نشرت أخبارا زائفة للتأثير على الناخبين، آخرها كان خلال الاستفتاء الإيطالي، واخترقت اتصالات خاصة، بهدف إحراج من تعاديهم. وفي السنة الماضية، وظفت روسيا لأول مرة أقوى أسلحتها ضد الولايات المتحدة، من خلال التأثير المباشر في العملية الانتخابية الأمريكية.
وعلى الرغم من أن روسيا الأضعف بين القوتين العالميتين، فقد نجحت بخطوات أكبر من الصين في تحقيق أهدافها، الرامية إلى تقسيم ونشر الفوضى داخل البلدان الغرب. فقد نجحت موسكو من خلال تدخلها في الأنظمة الديمقراطية الغربية، وحرب المعلومات التي تشنها، ودورها في تعميق أزمة اللاجئين الوافدين من سوريا نحو أوروبا، في إضعاف ثقة أوروبا في أنظمتها والأحزاب السياسية الموجودة.
في الوقت ذاته، ساهم تدخلها العسكري في سوريا، أمام سلبية الولايات المتحدة الأمريكية، في تفاقم الشكوك حول مدى سيطرة الولايات المتحدة على منطقة الشرق الأوسط.
خلافا لذلك، نجحت الصين، حتى وقت قريب، في توجيه حلفاء الولايات المتحدة لمزيد من الالتفاف حولها، والهرب من النمو المتزايد للقوة الصينية (ولكن هذا قد يتغير في لمح البصر، خاصة إن واصلت الولايات المتحدة مسارها الحالي).
إن نظام التحالفات السياسية والعسكرية الذي تقوده الولايات المتحدة، خاصة في منطقتي أوروبا وشرق آسيا، ترك الصين وروسيا في موقف يتحتم عليهما فيه التأقلم مع ما وصفه دين أتشيسون في الماضي”بحالات القوة”
فقد برزت علامات تفيد أن القوى الإقليمية بدأت تعيد حساباتها؛ فدول شرق آسيا تعيد النظر في الاتفاقات التجارية التي لا تحتاج لمشاركة الولايات المتحدة، كما تسعى في بعض الأحيان إلى التودد والتقرب من الصين؛على غرار الفلبين، بينما تميل فيه بعض الدول في وسط أوروبا وشرقيها نحو روسيا إستراتيجيا وأيديولوجيا.
عموما، قد نواجه قريبا وضعية عالمية تكون فيها هاتان القوتان الرجعيتان قد اتخذتا مسارا متطرفا قائما على العنف، بما في ذلك الوسائل العسكرية، لتضع الولايات المتحدة والعالم في تحد أمني خطير.
انسحاب الأمة
يحدث كل هذا في وقت يواصل فيه الأمريكيون ترددهم حول التمسك بالنظام العالمي، الذي خلقوه بعد الحرب العالمية الثانية.
من المثير للاهتمام أن دونالد ترامب لم يكن الوجه السياسي الوحيد -خلال الانتخابات الماضية- الذي دعا إلى انتهاج سياسة أكثر تضييقا حيال مصالح الولايات المتحدة، وتخفيض أعباء القيادة العالمية. فقد عبّر كل من باراك أوباما وبيرني ساندرز أيضا في العديد من المناسبات عن نسختيهما من “الولايات المتحدة الأمريكية أولا”.
بالإضافة إلى ذلك، بدا أن المرشحة هيلاري كلينتون، التي تحدثت كثيرا عن ضياع الدور الأمريكي العالمي، مضطرة للتخلي عن دعمها الحديث “للشراكة العابرة للمحيط الهادئ”.
وفي الوقت الراهن، سيترتب عن ذلك، على أقل تقدير، شكوك حول رغبة الشعب الأمريكي في مواصلة دعم تركيبة التحالف الدولي، والتصدي لأطماع القوى الرجعية في التمكن من دائرة التأثير والهيمنة الإقليمية، والتمسك بالديمقراطية وقواعد السوق الحرة في النظام العالمي.
كما يأتي مفهوم تضييق المصالح الأمريكية، في وقت تنمو فيه قوى عظمى متنافسة، ما سيسرع من عودة الاضطرابات والاشتباكات التي طغت في العصور السابقة. فقد شجع ضعف نواة العالم الديمقراطي، وتخلي الولايات المتحدة عن مسؤولياتها على ظهور العنف الرجعي من قبل قوى غير راضية عن الواقع العالمي. وفي الوقت نفسه، ساهم كل ذلك في تراجع ثقة العالم الديمقراطي، ورغبته في المقاومة.
وفي هذا السياق، يشير التاريخ إلى أن هذه الدوامة يصعب التعافي منها مع غياب التحول الجذري للولايات المتحدة، وقد يحدث هذا التحول بعد فوات الأوان.
في الحقيقة، اتخذت القوى الغربية خلال عشرينات القرن الماضي قرارات حاسمة، لكنها كانت كارثية، إذ أصيبت الولايات المتحدة الأمريكية بخيبة أمل بعد الحرب العالمية الأولى، مما دفعها إلى رفض لعب دور مهم في حفظ السلام في كل من أوروبا وآسيا، رغم أنها كانت الدولة الوحيدة القادرة على ذلك.
من المرجح أن تثير السياسة التوسعية التي تعتمدها القوى العالمية الرجعية، مشاعر الخوف في نفوس الدول المجاورة لها، مما يدفعهم للتوحد تجاه القوة الصاعدة
كما أدى تراجع الهيمنة الأمريكية إلى تقويض إرادة بريطانيا وفرنسا في بسط نفوذهما، وفي المقابل زادت عدوانية ألمانيا واليابان، مما دفع هاتين الدولتين إلى تكثيف الهجمات العنيفة بهدف تحقيق الهيمنة الإقليمية.
في الأثناء، كان الأمريكيون مقتنعون بأن هذه السياسات العدوانية لن تؤثر على أمنهم، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية كذب توقعاتهم. وعلى الرغم من أن الانتخابات التي تمت سنة 1920 كانت شفافة وآمنة، إلا أن السياسة الأنانية التي اعتمدها الحكام الأمريكيون في الثلاثينات، أدت إلى نشوب كوارث عالمية، خاصة وأن تجنب اندلاع الحرب العالمية الثانية كان أمرا صعبا للغاية.
في مثل هذه الظروف، كان الحل الأنسب لفض النزاع الجيوسياسي، هو تكثيف الجهود الرامية للتعاون والتوافق بين مختلف القوى. ومؤخرا، اقترح المؤرخ البريطاني نيال فرغيسون، فكرة إدارة العالم بصفة مشتركة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين.
في الواقع، إن مفهوم السيادة المشتركة تم اقتراحه ومحاولة اعتماده، في كل عصر كانت تحاول فيه القوة المسيطرة على العالم التصدي للقوى العالمية الرجعية، التي تحاول استعادة نفوذها.
في المقابل، إن هذا المفهوم قد لا يكون ناجعا بصفة تامة، فالقوى العالمية الرجعية لا تستسلم بسهولة، نظرا لأن دائرة نفوذها ليست ممتدة بما فيه الكفاية لتلبية كبريائها ومخططاتها التوسعية، أو حاجتها الملحة للأمن.
بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تثير السياسة التوسعية التي تعتمدها القوى العالمية الرجعية، مشاعر الخوف في نفوس الدول المجاورة لها، مما يدفعهم للتوحد تجاه القوة الصاعدة.
وتجدر الإشارة إلى أن القوة التي تكتفي بنفوذها، كما قال السياسي الألماني أوتو فون بيسمارك، نادرة جدا، إذ أن الحكام الألمان الذين ظهروا بعد بيسمارك، حاولوا التوسع، على الرغم من أن ألمانيا كانت خلال فترة حكمها أقوى دولة في أوروبا. وقد كانت جهود ألمانيا، الرامية إلى بسط نفوذها، كثيفة، مما أدى إلى تعدد التحالفات ضدها.
تعطيه شبرًا، يتوسع ميلًا
تعتبر هذه السمة مشتركة بين القوى الصاعدة، التي يترتب عن توجهاتها وسياساتها انعدام الأمن، على الرغم من أنها تزعم أنها تريد الإصلاح. وفي هذا الإطار، تحاول هذه القوى التكتم على المظالم المرتكبة ضد النظام القائم، ولا تكتفي بهذه المظالم طالما لا يزالالنظام على حاله.
ستدفع محاولة الإدارة الجديدة لاحتواء الوضع في سوريا، بوتين إلى اتخاذ مواقف أكثر جرأة، كما أن تصعيدها للخطاب الموجه للصين، سيدفعها للذهاب بعيدا في اختبار مدى مراهنتها على القوة العسكرية
من جهة أخرى، تعدّ التنازلات المقدمة كحد أدنى غير كافية، ولكن القوى التي تدعم النظام القائم، لن تقدم تنازلات حقيقية، إلا إذا تعرضت إلى ضغوط من طرف قوة أكثر نفوذا منها.
خلال الثلاثينات، كانت اليابان تعتبر من الدول التي لا تمتلك امتدادا جغرافيا، إلا أن احتلالها “لمنشوريا”في سنة 1931، لم يكن كافيا بالنسبة لها. والأمر سيان بالنسبة لألمانيا، الدولة المتضررة من معاهدة “فرساي”، حيث عملت على استرجاع إقليم “السوديت”، بل وطالبت بالتوسع على حساب أقاليم أخرى. ولم تتمكن ألمانيا من إقناع القوى الأخرى بأهدافها إلا عن طريق إعلان الحرب.
على العموم، لا يعتبر منح القوى الرجعية مناطق نفوذ وصفة ناجعة للهدوء وللسلام، بل يعتبر دعوة إلى صراع لا مفر منه، إذ لا يتوقف مجال النفوذ الروسي عند أوكرانيا، بل يبدأ عندها، ويمتد إلى دول البلطيق والبلقان، وإلى وسط أوروبا.
وداخل هذا المجال، لا تتمتع دول أخرى بالحكم الذاتي أو السيادة، على غرار بولندا، التي لم تتمتع باستقلالها تحت حكم الإمبراطورية الروسية، وفي ظل الاتحاد السوفياتي.
أما إذا أرادت الصين توسيع مجال نفوذها في شرق آسيا حسب رغبتها، فإنها ستقطع الطريق أمام الولايات المتحدة الأمريكية؛ على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي.
وبطبيعة الحال، تتمتع الصين بنفوذ واسع في شرق آسيا، مثلما تتمتع روسيا بنفوذ واسع في شرق أوروبا. لذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها أن تمنع الصين من أن تصبح قوة اقتصادية، فضلا عن أنها لا يمكنها أن تتسبب في انهيار روسيا. وبالتالي، يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقبل بالمنافسة مهما كان نوعها.
في الحقيقة، تتنافس القوى الكبرى على العديد من المستويات على غرار المستوى الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي، وكذلك العسكري، وتعتبر المنافسة في بعض المجالات ضرورية، بل صحية.
وفي صلب النظام الليبرالي، يمكن للصين أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية بكل أريحية على المستوى الاقتصادي. ومن جانب آخر، يمكن لروسيا أن تزدهر في إطار النظام الاقتصادي الدولي، المدعوم من طرف النظام الديمقراطي، حتى وإن لم تكن هي نفسها ديمقراطية.
في المقابل، تعتبر المنافسة العسكرية والاستراتيجية مختلفة، إذ أن الوضع الأمني من شأنه أن يقلب الأمور رأسا على عقب. وتماما كما هو الحال خلال الحرب العالمية الثانية، تتمتع الولايات المتحدة الأمريكية بالقدرات والمزايا الجغرافية الفريدة لضمان الأمن العالمي والاستقرار النسبي، إذ أنه لا يمكن تحقيق التوازن بين القوى في أوروبا وآسيا، دون الولايات المتحدة الأمريكية.
أثبت التاريخ أن الأنظمة العالمية لا بد أن تصل إلى نقطة الانهيار، لكن ذلك لطالما حدث بطريقة عنيفة، وسريعة، وغير متوقعة، فقد وصلت أوروبا في القرن الثامن عشر إلى قمة عصر التنوير، قبل أن تسقط القارة بأكملها في الحضيض، خلال حروب نابليون
حين نتحدث عن “القوة الناعمة” و”القوة الذكية”، فإن هذه القوة كانت وستظل محدودة عند مواجهة قوة عسكرية لا تقهر.
وعلى الرغم من كل الكلام الفضفاض حول التراجع الأمريكي، فإن المصالح الأمريكية العسكرية تبقى واضحة، علاوة على أنها قادرة إلى جانب حلفائها، على مواجهة التحديات الأمنية.
خلافا لذلك، وفي ظل عزوف واشنطن على الحفاظ على التوازن داخل المناطق النائية في العالم، فإن النظام الأمني سيتشابك، نظرا للمنافسة العسكرية المتهورة بين القوى الإقليمية.
كما أن حفاظ الولايات المتحدة على توازن النظام العالمي يتطلب زيادة النفقات الدفاعية بما يتناسب مع الدور الأمريكي في العالم.
فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الوضع على مستوى المياه الإقليمية لن يستقر في صورة قبولها باسترجاع نفوذها العالمي، إذ أن ذلك سيؤدي إلى عودة العالم إلى الوضع الذي كان عليه خلال نهاية القرن التاسع عشر، حيث ستشتد المنافسة بين القوى العظمى على عدة أصعدة.
والجدير بالذكر، أن هذه الظروف المضطربة وفرت في السابق أرضا خصبة لاندلاع حربين عالميتين مدمرتين خلال القرن العشرين. وقد ساهم كل من انهيار النظام العالمي، الذي كانت تسيطر عليه بريطانيا العظمى، واختلال التوازن داخل القارة الأوروبية، وبروز ألمانيا كقوة موحدة، في خلق بيئة تنافسية دولية بين مجموعة من القوى العظمى، التي كانت تطمح إلى مزيد من التوسع في ظل غياب قوى مهيمنة قادرة على التوحد فيما بينها.
بالأحرى، كانت نتيجة هذه المنافسة كارثة عالمية غير مسبوقة، خلفت عددا مهولا من الضحايا. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حققت الولايات المتحدة الأمريكية إنجازا كبيرا، عند قيادتها للنظام العالمي خلال السبعينات، حيث تفادت العديد من الصراعات على الساحة الدولية.
وعلى ضوء كل هذه المعطيات، سيكون أمرا مثيرا للخجل إذا ما دمر الأمريكيون ما صنعوه بأنفسهم خاصة وأن ذلك لن يكون بسبب عجزهم عن مواصلة التمسك بالنظام العالمي القائم وإنما لأنهم توقفوا عن المحاولة.