لندن تلك المدينة الواقعة على نهر التايمز جنوب بريطانيا يبلغ عدد سكانها قرابة 15 مليون نسمة تعد أكبر مدن أوروبا وأهم مركز مالي في العالم بأسره، يتنازع ذلك المركز اليوم مدن أخرى في أوروبا كباريس وفرانكفورت لانتزاعه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) حيث بات الانفصال على الأبواب، فهل تتخلى لندن بسهولة عن ذلك المركز بعد خروجها من الاتحاد أم أن للقصة وجه آخر؟!.
لندن مركز المال العالمي
يجمع خبراء أن لندن بكونها مدينة المال العالمية ليست مرتبطة بالاتحاد الأوروبي، حتى إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد خرجت صفة المركزية المالية عنها! وبدأت مدن أخرى تفكر باقنتاص ذلك الدور بالنيابة، كما تفعل كل من باريس وفرانكفورت ومدن أخرى.
حيث توجه أول أمس الاثنين فريق من المسؤولين الفرنسيين إلى لندن في مهمة تهدف إلى جعل باريس المركز المالي الأوروبي بمجرد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتقى المسؤولون ومن بينهم نائب رئيس بلدية باريس “جان لوي ميسيكا” ورئيسة منطقة إيل “دو فرانس فاليري بيكريس”، ممثلين عن شركات تعمل في الحي المالي بلندن، إذ تدرس بنوك وشركات عدة نقل عملها من لندن بمجرد انسحاب بريطانيا رسميًا من الاتحاد الأوروبي.
وحسب قول ميسيكا، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعد فرصة العمر بالنسبة لباريس، وباريس بدأت بتعديل القوانين التنظيمية مثل الحماية القوية للعمال التي تمثل عائقًا حقيقيًا أمام فرنسا لاستقبال الشركات من لندن، وذكر ” نحن هنا من أجل عرض ما ينبغي أن تقدمه باريس كما أننا هنا من أجل أن نستمع”.
كما تحاول مدينة فرانكفورت الألمانية هي الأخرى جذب الشركات من بريطانيا علمًا أن باريس تتمتع بميزات أقوى من فرانكفورت فيما ولو قررت الشركات الاختيار بين المدينتين وبالأخص في مجال الثقافة ونمط الحياة، ودخلت مدن أخرى على خط المنافسة مثل أمستردام ودبلن والعاصمة البولندية وارسو.
تقدر الصفقات المالية التي ينفذها حي المال في لندن بحوالي 2.7 ترليون دولار يوميًا
كل تلك المدن فيها شركات مالية ومصارف عالمية وبنوك ولكن أيًا من تلك المدن لم تتمكن من جذب أثرياء العالم ليضعوا أموالهم فيها، حيث لا تزال لندن متصدرة قائمة المدن الاكثر أهمية لكبار أثرياء العالم في العام الماضي 2016 لمن تزيد ثروتهم عن 30 مليون دولار وفقًا لتقرير الثروة العالمي 2016، كما لا يوجد ثري في العالم تقريبًا لا يملك عقار في لندن.
وكما أن وادي السيليكون في كاليفورنيا بأمريكا ارتبط اسمها بالتكنولوجيا والتقنية والإبداع فإن لندن تاريخيًا عرفت بأنها مدينة الإبداع على مستوى الصيرفة والهندسة المالية تمكنت من استقطاب رؤوس الأموال العالمية وشبكات المصارف والمؤسسات المالية خلال العقود الماضية.
باريس تسعى لجذب الاستثمارات الهاربة من لندن بعد البريكسيت
بقاء هذه المركزية في لندن بعد البريكسيت يتعلق بعدة عوامل، حيث شهدت لندن تأسيس أول البنوك الحديثة في العالم وهما “باركليس” والذي تأسس في العام 1690 وبنك أوف انجلترا المؤسس في العام 1694ومنذ ذلك الوقت عملت لندن على تنظيم البيئة والمناخ المناسب السهل لعمل المصارف والمؤسسات المالية التي تدير الثروات، ما جذب المصارف العالمية والثروات إلى لندن، وتصدرت المدينة تنظيم القوانين في صناعة المال حول العالم وباتت معظم التشريعات والقوانين المالية التي تحكم وتنظم عمل المصارف هي قوانين إنجليزية.
وتبعًا لهذا تأسست شركات المحاسبة العالمية والتدقيق وشركات المحاماة التي تهتم بأمور الفصل في القضايا المالية، كل هذه الأمور أسهمت في عقد صفقات ضخمة بعشرات المليارات من الدولارات في أوقات قصيرة إلى جانب ذلك تأسست مؤشرات أسهم وأسواق أسهم وسندات وسلع كسوق القطع في لندن وأسواق الطاقة، تمتعت بسيولة مالية عالية ولاقت رواجًا كبيرًا على مستوى العالم جذبت أموال كثيرة من الصين وروسيا ودول الخليج.
لندن ستبقى مركز المال العالمي حتى لو خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسبب الأهمية الاقتصادية للمدينة على مستوى العالم
تجمعت الشركات والمصارف في مربع يبلغ مساحته ميلا مربعًا سمي بـ”حي المال” يقع في منطقة بانك بالقرب من بنك إنجلترا المركزي، وصار الحي من أهم المراكز المالية في العالم مقارنة مع مراكز المال في أوروبا حيث يستضيف حوالي 250 مصرفًا أجنبيًا كما يدير ثروات مالية تقدر بنحو 5.4 ترليونات دولار ويساهم بنحو 10% من الناتج المحلي البريطاني و12% من الدخل الذي تحصّله الخزينة البريطانية من الضرائب فضلا أنه يوفر ما يقرب من 400 ألف وظيفة من وظائف الدخل المتوسط والكبير للبريطانيين.
ولا تقارن حجم الصفقات التي تتم يوميًا في حي المال مع الصفقات التي تعقد في باربس أو فرانكفورت إذ تقدر الصفقات المالية التي ينفذها حي المال في لندن
بحوالي 2.7 ترليون دولار يوميًا، وتتم يوميًا المتاجرة في 70% من السندات العالمية و20% من الأسهم العالمية المسجلة في البورصة البريطانية، ويذكر أن الحي تقدم على حي “وول ستريت” في نيويورك رغم الثقل الكبير للاقتصاد الأمريكي مقارنة بالاقتصاد البريطاني.
فرانكفورت الألمانية تنافس لخلافة لندن في مركز المال العالمي
أمر آخر تتميز به لندن وهو الهيكلية الضريبية والمرونة في التعامل مع الشركات، ومن ثم اللغة الإنلكيزية التي تعد لغة أصحاب المال والأعمال في أنحاء العالم وهي اللغة العالمية التي يتحدث بها معظم سكان العالم على عكس لغات المدن الأخرى التي تسعى لهذا المركز،مثل اللغة الفرنسية واللغة الألمانية وهي لغات محلية لا تحظى بانتشار عالمي كبير كاللغة الانجليزية.
وأخيرًا من المتوقع أن تشكل الشراكة التجارية المتوقعة مع أمريكا بعد البريكسيت ستزيد من التكامل التجاري بين حي المال البريطاني وشركات وول ستريت، وكانت تيريزا ماي اتفقت في زيارتها الأخيرة لواشنطن مع الرئيس ترامب على مشروع شراكة تجارية بين بريطانيا وأمريكا. كل ما سبق ذكره يؤكد أن لندن ستبقى مركز المال العالمي حتى لو خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل على العكس قد تكون فرصة للمدينة للتحرر من بعض السياسات الأوروبية التي كانت ملزمة بها.