هل حدث معك يومًا وأنت تقلب بين صفحات فيسبوك، أن تجد أحدهم قد نشر آخر كلماته معلنًا إقدامه على الانتحار؟ وماذا عساك أن تفعل في لحظة كهذه؟ بالطبع ستسيطر عليك هالة من القلق والخوف، متسائلًا هل سيقتل نفسه حقًّا أم أنها انفعالات لحالة نفسية معينة؟
في 19 أغسطس/ آب الماضي، استفاق الغزيون على خبر مفجع يعلن وفاة الشاب محمد النجار الذي قرر إنهاء حياته منتحرًا بتفجير قنبلة بنفسه، بعد لحظات قليلة من كتابته رسالة مؤثرة عبر صفحته على فيسبوك، تفيد بنيّته إنهاء حياته بعد سنوات من إصابته بالاكتئاب.
جاء فيها: “مضطر لمغادرة هذا العالم بعد أن استنفدت كل جهودي ومحاولاتي للشفاء من مرض الاكتئاب على مدار 8 سنوات، آخرها جلسات الكهرباء قبل أقل من عام”، وأضاف: “حاولت بكل ما في وسعي لا لوم على أحد، كل ما في الأمر أنني لم أعد أستطيع تحمل كل هذا الكمّ من الألم داخلي”.
وتابع: “أنا آسف كتير بعتذر لأمي وخواتي كتير ولكل اللي بحبهم وبيحبوني، وبعتذر عن الألم اللي ممكن أكون سبّبته إلهم، لكني مش قادر أحتمل هذا الألم كله أو أتعايش معه”، واختتم: “سامحوني”.
قضية النجار أثارت ضجة في المجتمع الفلسطيني، إذ جاءت الحادثة لتنكأ جراحهم، ليس هذا فحسب، فقد تكررت حالات أخرى بعد أيام، فالشاب أحمد أبو شرخ هدد خلال صفحته على فيسبوك بإقباله على الانتحار، ليتدافع أصدقاؤه لإنقاذه متوجيهن إلى مكان وجوده، لنصحه بالتوقف عن الفكرة ومحاولة تقديم الدعم النفسي له.
أفادت فحوى رسالته عبر صفحته على فيسبوك، أنه يمرّ بظروف صعبة تزداد سوءًا وألمًا نفسيًّا واكتئابًا، وضغوطات كبيرة دفعته إلى الإقبال على الانتحار للهروب من الواقع.
وعد ساعات قليلة، تبعته الناشطة نسمة فارس مهددة بإقبالها على الانتحار خلال منشور على صفحتها في فيسبوك، قالت: “انتظروني بانتحار جماعي على البث المباشر بعدما تقطعت فينا كل سبل الحياة، وشركة الكهرباء تقوم بتزويدها علينا بفصلها الخط عن منزلي، ليس باستطاعتي تحمل الحياة”، واختتمت: “الموت شرف وربنا كبير.. وربنا سيسامحنا.. الموت بشرف”.
تكرار حالات الإقبال على الانتحار والمحاولات، أو حتى التهديد به، هزت قطاع غزة، خاصة أنه لم يعد بسرّية بل علنًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما قد ينذر بمؤشرات خطيرة، حيث المتتبّع لرسائل الضحايا المعلنين إقدامهم على الانتحار عبر الفضاء الأزرق، تفيد بأنهم يعانون من اكتئاب حاد وضغوط قاسية وضبابية الحياة.
وفق نتائج إحصاءات البنك الدولي، فإن 71% من سكان غزة يعانون الاكتئاب، فيما يعاني 7% من اضطراب ما بعد الصدمة، وباقي الاضطرابات النفسية ناتجة عن الفقر وسوء المعيشة.
والحقيقة أن الواقع الغزي لا يُخفى على أحد، والذي يلقي بظلاله على الحالة النفسية للسكان، في وقت يعاني فيه الجانب الصحي من تدهور بسبب الحصار، لكن ماذا عن واقع العلاج النفسي؟
مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية بغزة، ياسر أبو جامع، صرّح بأن الدافع الأكبر للانتحار عالميًّا هو المرض النفسي، لكن في قطاع غزة هناك عدة أسباب تدفع إلى الانتحار، المشاكل والصعوبات المجتمعية والأوضاع المعيشية والاقتصادية، والحصار الإسرائيلي المفروض منذ 17 عامًا، وهذا يعطي مؤشرات بانعدام الأفق بالنسبة إلى الشباب الغزي، فيلجأ للتعبير عن سخطه ورفضه للواقع إلى الانتحار.
واقع العلاج النفسي بيّن أن الموارد العلاجية المتاحة في قطاع غزة غير كافية للتدخلات النفسية، وليست بالحجم المطلوب المتناسب مع 2 مليون و300 ألف شخص، فخدمات العلاج النفسي متوافرة من خلال جهتَين، وهما مستشفى الأمراض النفسية الحكومي ومراكز الصحة النفسية التابعة للوزارة الصحة، وبرنامج غزة للصحة النفسية (غير حكومي)، وهناك نقص في عدد الكوادر الطبية النفسية، كما يعاني القطاع من عدم توافر العقاقير الطبية اللازمة للعلاج النفسي، وإن توافرت فتكلفتها المادية تفوق كثيرًا القدرة الشرائية للمريض.
المجتمع الرقمي أحيانًا يعزز قضية الانتحار، وذلك من خلال تداول قصص الضحايا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما قد يشجّع آخرين على تقليدهم.
تابع أبو جامع أنه في بعض الأحيان لا يشكّل المريض النفسي خطرًا على نفسه، بل على من حوله إذا كان يعاني من أعراض اكتئاب حادة، لكنه عبّر عن أسفه بسبب الوصمة المجتمعية، والتي تمنع المريض النفسي بغزة من التوجه للعلاج.
كما أوضح أن غالبية الخاضعين لعلاج نفسي بمركزه هم من تلقوا صدمات نفسية بسبب آثار الحروب المتكررة على القطاع، فلا يجد المريض أي خجل في معالجتها أو مناقشتها والتحدث بها بصوت عالٍ، أما إذا كان يعاني من مرض نفسي خارج دائرة تأثير الحروب فإنه يرفض تلقي علاج ويشعر بالخجل بسبب الوصمة تحديدًا إذا كانت امرأة، وأحيانًا قد يلجأ إلى التدخل العلاجي النفسي لكن بعد فوات الأوان وتدهور حالته النفسية.
عطفًا على الأسباب المذكورة سابقًا، أوضح أبو جامع أن المجتمع الرقمي أحيانًا يعزز قضية الانتحار، وذلك من خلال تداول قصص الضحايا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما قد يشجّع آخرين على تقليدهم، خاصة إذا كانت دوافع الانتحار معيشية وإنسانية فيصبح نموذجًا يحتذى به.
كما نبّه أنه في حال وجود أي دلائل، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الواقع، تشير إلى نيّة أحد الضحايا الإقبال على الانتحار، يجب التدخل من ذويه وأقرانه فورًا وعدم الاستهانة بالأمر قبل فوات الأوان.
المتتبّع لإحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة ضمن سجلات المنتحرين، يلاحظ تزايدًا في حالات الانتحار، ففي عام 2020 سجّل 17 حالة من أصل 404، فيما سجّل عام 2021 نحو 22 حالة أدت إلى الوفاة، ويقابل كل حالة انتحار فعلية نحو 21 محاولة انتحار، وفي عام 2022 سُجّلت 25 حالة انتحار فيما حاول 553 آخرين إنهاء حياتهم، فيما شهد العام الحالي 2023 قرابة 17 حالة انتحار، وفق مركز الميزان لحقوق الإنسان بغزة.
يعيش الغزيون حروبًا نفسية أكثر منها عسكرية، يقاتلون فيها بصمت في صراع مع الأمل والنجاة والحياة والظروف المعيشية الصعبة، فينجون أحيانًا ويستسلمون أحيانًا لواقعهم الاستثنائي بكل حالاته.
خلال جلسة سابقة أعدّتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم) بغزة، للمطالبة بتشكيل إطار وطني لبحث أسباب وتداعيات الانتحار وتعزيز الحق، أوضحت أن حالات الانتحار اتّسعت لتشمل محافظات القطاع كافة، وجميع الفئات بما فيها الأطفال والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة.
الحقوقي مصطفى إبراهيم أكّد أنه ضد فكرة تطبيق قانون العقوبات لأي شخص يحاول الانتحار، فالأصل البحث عن حلول للمشكلة ومعالجتها وتعزيز الحق في الحياة لمواجهة الانتحار، وتحسين المعيشة للشباب الغزي، خاصة أن أكبر أهم أسباب الانتحار بغزة هو الحصار والفقر، وهذا يتطلب وجود برامج تدعم المساواة بين الجنسَين وعدالة مجتمعية وتوفير فرص عمل للشباب والحد من البطالة.
يعيش الفلسطينيون في غزة حروبًا نفسية أكثر منها عسكرية، يقاتلون فيها بصمت في صراع مع الأمل والنجاة والحياة والظروف المعيشية الصعبة، فينجون أحيانًا ويستسلمون أحيانًا لواقعهم الاستثنائي بكل حالاته.