كان زعيم المرتزقة مقتنعًا بأن بوتين قد سامحه، ولم يكن خائفًا من أي شيء، ذلك ما أسرّ به لقناة تيليغرام مقرّبة منه، قبيل أن يلقى حتفه في حادث تحطم طائرة بعد شهرَين من التمرد ضد الرئيس، وقال أيضًا إنه يعرف الكثير وأن أرشيفه ممتلئ، لكن رغم مكانته ضمن النخبة الروسية، كان يتعيّن على يفغيني بريغوجين أن يفكر مليًّا في السوابق.
حتى وإن كان سيد الكرملين قد نعته بـ”الخائن” عندما شرع في تنفيذ انقلابه المزعوم، فإن الخيانة بمعناها الكلاسيكي لا تنطبق على بريغوجين، فالخونة عادة ما يلجؤون إلى بلدان معادية، بيد أن الرجل لم يمكث طويلًا في منفاه في الدولة الصديقة بيلاروسيا، بل عاد إلى خطاباته وتهديداته المبطنة، ناهيك عن ظهوره على الأراضي الروسية، أو في الآونة الأخيرة متحدثًا من دولة أفريقية لم يتم تحديدها.
أمير الانتقام
أظهر التاريخ مدى قلة اهتمام موسكو بخدمها عندما يصبحون غير مريحين أو ببساطة عديمي الفائدة، وطبعًا ينطبق ذلك على بريغوجين، حتى ولو أبلى بلاء حسنًا بالنسبة إلى روسيا في حربها ضد أوكرانيا بأن صار “فاتح باخموت”، المدينة الصغيرة في شرق أوكرانيا والتي تحولت إلى مستنقعات دماء بعد أزيد من 8 أشهر من الاقتتال بين الروس والأوكرانيين، ليصبح انتصار مجموعة فاغنر بمثابة أكبر إنجاز عسكري لموسكو في الحرب.
منذ اجتياح شبه جزيرة القرم وضمّها إلى قوام الاتحاد الروسي عام 2014، لقي ما لا يقل عن 12 من أمراء الحرب والزعماء السياسيين في دونباس حتفهم في عمليات اغتيال تثير الشكوك حول تورط الأجهزة الروسية، وجميعهم وُدّعوا في جنازة أبطال.
ضمن هؤلاء يبرز اسم ألكسندر زاخارتشينكو، وهو الرئيس السابق لجمهورية دونيتسك المعلنة من جانب واحد في شرق أوكرانيا، الذي لقي حتفه في انفجار في مقهى في دونيتسك عام 2018، وبينما رجّحت موسكو أن تكون كييف وراء التفجير، لم يستبعد جهاز الأمن الأوكراني احتمال أن تكون هذه محاولة من قبل أجهزة المخابرات الروسية لإزالة شخصية مكروهة، والتي أصبحت غير ضرورية وكانت تزعج الروس وفقًا للمعلومات المتوفرة.
توجد قائمة طويلة من الاغتيالات في روسيا البوتينية، تشمل سياسيين ورجال أعمال وصحفيين ونشطاء حقوقيين وفنانين معارضين، منهم من انتهوا إلى القبر وقلة منهم نجوا بأعجوبة، أشهرهم المعارض أليكسي نافالنيالذي الذي تمَّ تسميمه عام 2020 على متن رحلة طيران داخلية بمادة الغاز العصبي “نوفيتشوك”، وهي مادة كيميائية تم تطويرها في الاتحاد السوفيتي.
جريمة أخرى لا تغتفر
لقد استمر بريغوجين في التمتع بسمعة سيّئة وشعبية واسعة بعد التمرد، وقد استغرق الأمر شهرَين لإعلان إقالة قائد القوات الجوية سيرغي سوروفيكين، المعروف بلقب “الجنرال هرمجدون”، المشتبه في أنه كان على علم بخطط التمرد، حيث خلق هذا التأجيل ارتباكًا لدى النخبة الروسية التي لم تكن معتادة على تردد القيادة الروسية.
كان هناك الكثير من التصعيد بين وزارة الدفاع وبوتين والكرملين من ناحية، وبريغوجين من ناحية أخرى، حول من سيحتفظ بالسيطرة على بعض الأسواق الأكثر ربحية في أفريقيا، على مالي وعلى جمهورية أفريقيا الوسطى، لهذا كان ضروريًّا أن تطوى صفحة بريغوجين بهذه السرعة، حتى قبل تمكُّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تدمير نفوذ بريغوجين في أفريقيا بشكل أساسي، وتدمير تأثير بريغوجين على قوات فاغنر المتبقية.
الدهاء السياسي الذي كان يتمتع به بريغوجين، مكّنه من النجاح لسنوات في توقع رغبات الأقوياء، والرئيس في المقدمة
فعليًّا، كان الكرملين متوجّسًا من محاولة انقلاب ثانية، وكان يجب على بوتين أن ينتقم من بريغوجين، وإلا أنه سيفقد القدرة على استمراره في إمساك البلد بقبضة من حديد، بيد أن التعجيل بالانتقام كان مدعومًا أيضًا بالتصعيد في الاهتمام بأفريقيا، وكان بريغوجين بالفعل في أفريقيا محاولًا الاحتفاظ بالسيطرة على مالي وعدم التنازل لوزارة الدفاع.
لم يكن من الممكن توقع حركات الرجل، فما من شيء مضمون عندما يتعلق الأمر ببريغوجين المتمرس في فن الاستفزاز وتغيير المواقف، وهكذا كان قتله هو الخيار الوحيد لإبعاده من المشاركة النشطة كلاعب رئيسي في العمليات العسكرية التي تشنّها روسيا في أوكرانيا وأفريقيا.
إن الدهاء السياسي الذي كان يتمتع به بريغوجين، مكّنه من النجاح لسنوات في توقع رغبات الأقوياء، والرئيس في المقدمة، ونجح في وضع أدوات مبتكرة في خدمتهم، وآخرها تجنيد المعتقلين من السجون الروسية وإرسالهم للقتال في أوكرانيا مقابل العفو، وبينما مات الآلاف منهم فإن الباقين يكرسون ولاء غير محدود لهذه الشركة الأمنية.
تفكيك إمبراطورية فاغنر
يمكن القول إن أنشطة فاغنر الأفريقية تمثل القطعة الأكثر تعقيدًا للتفكيك، كما أن الخبرة التي يتمتع بها رجال بريغوجين من الصعب، أو من المستحيل، استبدالها هناك في القارة السمراء، لهذا لا يمكن الحديث عن استئصال شركة فاغنر من الوجود، لكن مستقبلها لا يزال غامضًا.
مقتل بريغوجين يعقّد وضع فاغنر لكنه لا ينهي وجودها، لأن الكرملين غير مستعد للتخلي عنها في حروبه بالوكالة التي أثبتت فعاليتها لسنوات في أفريقيا والشرق الأوسط
مباشرة بعد مقتل بريغوجين، طفت على السطح تكهُّنات حول اسم خليفته المحتمل، والمتفق عليه هو أن الرئيس الروسي سيلجأ إلى اختيار شخصية موالية للكرملين وموثوق فيها وملتزمة بالخطوط الحمر، حتى لا تتكرر قصة بريغوجين وتمرده، كما يجب أن يتمتع هذا البديل بصفات سلفه ليواصل المهام في أفريقيا أو أوكرانيا.
هناك لائحة عريضة تضمّ قادة عسكريين يخدمون بالجيش النظامي، أي أن لديهم علاقة وطيدة بالكرملين وأوفياء للرئيس، بمن فيهم أندريه تروشيف، وهو عقيد سابق بالجيش الروسي وأحد أبرز مؤسّسي فاغنر، الذي يبدو الشخصية المؤهّلة لخليفة بريغوجين بسبب سجلّه، ولأنه سيكون الأكثر قدرة على الاستثمار في مهام فاغنر.
واقع الأمر هو أن مقتل بريغوجين يعقّد وضع فاغنر لكنه لا ينهي وجودها، لأن الكرملين غير مستعد للتخلي عنها في حروبه بالوكالة التي أثبتت فعاليتها لسنوات في أفريقيا والشرق الأوسط، كما يبدو واضحًا أن بوتين استفاد من الدرس ولن يكرر خطأه مع القائد الجديد، بمنح السلطة والنفوذ لرجل واحد قد ينقلب عليه في أي وقت.