لم تكن الانتخابات الرئاسية الأمريكية للثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، التي أدت نتائجها إلى صعود الرئيس الجمهوري الخامس والأربعين دونالد ترامب إلى سدة الحكم كسابقاتها. فالنتائج الغير متوقعة في نظر الكثيرين بالنظر لحجم الشعارات الشعبوية والمثيرة للجدل التي تخللت الحملة الانتخابية كانت بوقع الصدمة بالنسبة للكثيرين، الشيء الذي حدا بالآلاف من الأمريكيين إلى النزول إلى الشوارع عند أول يوم من إعلان نجاح ترامب، كتعبير عن رفضهم لبرامج وسياسات الرئيس لاسيما تجاه الأقليات والحريات الفردية والنساء والبيئة والهجرة.
وبالفعل لم يتردد الرئيس الأمريكي في ترجمة شعاراته إلى أفعال منذ اليوم الأول الذي تلا حفل التنصيب عبر توقيعه لسلسلة من القرارات التنفيذية كمحاولة منه لإحداث قطيعة مع فترة الديمقراطيين وإعادة رسم للملامح الجديدة التي سيبدو عليها وجه القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم في أفق الأربع أو الثمان سنوات المقبلة، مدشنا بذلك فترة جديدة ستعرفها الولايات المتحدة الأمريكية لا محالة.
يبدو المشهد بشكل عام أقرب إلى سيناريو ثلاثينيات القرن الماضي وما قبلها في ظل المخاوف من انتشار حمى الشعبوية وما يمكن أن يصاحبها من وصول الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم في أوربا
ولعل من إرهاصات هذه السياسة الجديدة التي تبدو تمثلاتها كثيرة وتطال مجالات مختلفة، نذكر إلغاء الرئيس الجديد ما كان يعرف بقانون”أوباما كاير” (Obama Care) أو قانون الرعاية الصحية الذي كان يستفيد منه الملايين من الأمريكيين، وتوقيعه لقرار تنفيذي يقضي بمنع المهاجرين من بعض الدول العربية والإسلامية من دخول أراضي الولايات المتحدة، و تعطيل العمل ببرنامج استقبال اللاجئين السوريين لمدة محددة، فضلا عن نيته بناء الجدار الحدودي العازل مع المكسيك وبتمويل من هذه الأخيرة، واعتزامه إعادة بناء القوات المسلحة.
بالإضافة إلى السعي إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإحداث مناطق آمنة في سوريا، ومطالبته الشركاء الأوربيين في حلف شمال الأطلسي بضرورة الدفع والمساهمة مقابل الحماية في رسالة تحمل في ثناياها أكثر من معنى دون أن يتردد في انتقاد المنظمة الي وصفها “بالمبتذلة”، ويأتي كل ذلك في وقت تتسم فيه علاقة الحلف مع روسيا بقدر كبير من التوتر لاسيما في البلقان ودول البلطيق، والتلويح بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وإعلانه الحرب على ما أسماه ” الإرهاب الإسلامي الراديكالي”.
أما فيما يخص الشق الاقتصادي، فلا تبدو سياسة دونالد ترامب الجديدة أقل إثارة للجدل، حيث يعتزم البيت الأبيض نهج سياسة أكثر حمائية عبر التلويح بإعادة النظر في كثير من الاتفاقيات الدولية كاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية المعروفة ب (NAFTA) التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة كلا من كندا والمكسيك، و التهديد بإيقاف العمل باتفاقية الشراكة التجارية الإستراتيجية عبر المحيط الهادي (TPP) التي تضم 12 دولة على امتداد آسيا والمحيط الهادئ.
لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا منه فيما يتعلق بالتجارة مع الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم والتي بلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي نحو 11,38 ترليون دولار بحسب تقرير أعده البنك الدولي سنة 2014، حيث تعتزم إدارة ترامب فرض المزيد من القيود الجمركية على الواردات الصينية في مقابل تحفيز الشركات الوطنية على تشغيل المزيد من الأمريكيين وتشجيع المنتج الوطني، كما من الممكن أن يمارس المزيد من الضغوط في سبيل تطويع الصين ودفعها إلى القبول بإعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين سواء عبر اللعب بورقة تايوان أو المساومة في ملف الاعتراف بمبدأ الصين الواحدة دون أن ننسى التلويح بورقة التواجد الأمريكي ببحر الصين الجنوبي.
وبخصوص قضايا البيئة والمناخ فقد أقدم السيد ترامب على تعيين أحد أكثر المناهضين لمكافحة الاحتباس الحراري “سكوت برويت”على رأس وكالة حماية البيئة، كما لم يخفي البيت الأبيض نيته التخلص من خطة العمل بشأن المناخ التي وضعها الرئيس باراك أوباما وغيرها من المبادرات الأخرى سيما ذات الصلة باتفاقية باريس للمناخ، ومعلنا في ذات الوقت عن ميولاته تجاه تعزيز انتاج النفط والغاز الأمريكيين وتسهيل استغلال الزيت الصخري بل وحتى الفحم الحجري والطاقة الأحفورية بشكل عام، ضاربا بذلك عرض الحائط سياسة أوباما المعتمدة على تشجيع الطاقات المتجددة.
لم يتردد الرئيس الأمريكي في ترجمة شعاراته إلى أفعال منذ اليوم الأول الذي تلا حفل التنصيب عبر توقيعه لسلسلة من القرارات التنفيذية كمحاولة منه لإحداث قطيعة مع فترة الديمقراطيين وإعادة رسم الملامح الجديدة ليساسة الدولة
إن المشهد بشكل عام يبدو في نظر الكثير من الباحثين والمتتبعين أقرب إلى سيناريو ثلاثينيات القرن الماضي وما قبلها في ظل المخاوف من انتشار حمى الشعبوية وما يمكن أن يصاحبها من وصول الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم في أوربا، حيث انتهجت الكثير من الدول الأوربية سياسات اقتصادية حمائية، و سادت النزعات المائلة نحو الانغلاق والتعصب القومي وغلق جسور التواصل والحوار، وغابت قيم التسامح مع الآخر في مقابل النزوع نحو الهيمنة ورفع الشعارات المتطرفة والعرقية، مما أدى بالمحصلة إلى نتائج كارثية على المستوى الاقتصادي كالكساد الكبير لسنة 1929 (Great Depression) ، الشيء الذي مهد الطريق نحو صعود تيارات فاشية ونازية أدت في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
فهل سيكرر التاريخ نفسه هذه المرة وتدخل معه الولايات المتحدة وباقي دول العالم مرحلة من عدم الاستقرار؟و هل تتحقق نبوءة نعوم تشومسكي التي تعتبر صعود ترامب بمثابة “حصيلة طبيعية لمجتمع متداع وماضي بقوة نحو الانهيار أم أن القائد ترامب لديه ما يكفي من الحنكة لكي يعبر بلاده نحو بر الأمان وسيتمكن في نهاية المطاف من تكذيب العديد من التكهنات التي لازمت صعوده؟