ممّا يحتفظ به خلدي من ذكريات طفولتي في المدرسة، مشهدٌ كنت أمسك فيه بمضربٍ خشبيٍّ صغير، أضرب بواسطه كرة (البينغ بونغ) البلاستيكيّة الصغيرة، لتقفز على الطاولة الخشبيّة الخضراء، متجاوزةً الحاجز الشبكيّ نحو أستاذي، الذي يقف على الجهة المقابلة من الطاولة متأهّبًا لردّ الكرة، والزملاء من حولنا متحلّقون ينتظرون خسارتي لتتاح لهم فرصة اللعب!
إنّها رياضة تنس الطاولة، التي تتميّز بجاذبيّةٍ عجيبة، حتّى أنني لا أكاد أذكر أن أحدًا من زملائي الرياضيين وغير الرياضيين لا يعشق ممارستها، حتّى النساء والأطفال والكهول تجدهم يستمتعون بممارستها، فهي لعبةٌ سهلةٌ مثيرةٌ تتجسّد فيها متعة الرياضة وحيويّتها وحماسها.
حتّى الكهول يستمتعون بتنس الطاولة
لا يعود اختراع اللعبة لأحقابٍ سحيقة، فتاريخ ممارستها الأولى يعود إلى أواسط القرن ال19، حيث راجت بين طبقات المجتمع المخمليّ في بريطانيا، كنوعٍ من التجسيد المنزلي لرياضة التنس الأرضي المعروفة منذ القرن ال12، وقد نقلها بعض الضباط الإنجليز معهم إلى مستعمراتهم خارج البلاد، حيث كان جنودهم في الهند يمارسونها بأدواتٍ بسيطة، فتقوم دفّتا كتابٍ مقام المضرب، وتُستعمل مجموعة كتبٍ منصوبةٍ أفقيًّا كحاجزٍ عرضيٍّ وسط الطاولة، فيما تُستخدم كرات الجولف للعب.
معدّات بينغ-بونغ قديمة من إنتاج شركة باركر براذرز الأمريكيّة
وشهد عام 1901 تغييّرًا جذريًّا في تاريخ اللعبة، حين قام اثنين من الطلاب البريطانيين المتحمّسين للعبة، هما جيمس جيب وآي.سي غود، بتطوير أدوات ممارستها، فابتكر الأوّل كرات “الباغة” الخفيفة لاستعمالها عوضًا عن كرات الجولف الثقيلة، واقترح الثاني تزويد المضارب الخشبيّةٍ بطبقةٍ من المطاط، لإعطائها المرونة اللازمة لأداء ضرباتٍ أكثر فعّاليّة، وقامت إحدى الشركات الصناعيّة البريطانيّة، وتدعى J.Jaques & Son LTD، بتبنّي الاختراعين، وأخذت على عاتقها إنتاج معدّات ممارسة اللعبة، التي اقترحوا لها اسم Ping-Pong، المشتقّ من صوت ارتطام الكرة بالطاولة.
وأصبحت Ping-Pong علامةً تجاريّةً رابحة، وحققت عددًا هائلًا من المبيعات في العقدين الأوّلين من القرن ال20، وخاصّةً بعد أن قامت إحدى الشركات التجاريّة الأمريكيّة، وتدعى Parker Brothers، بشراء حقوق إنتاج وتسويق معدّات اللعبة، التي أصبحت رياضةً رسميّةً في بريطانيا اعتبارًا من عام 1921، الذي شهد تأسيس الاتّحاد البريطاني لتنس الطاولة، قبل أن يشهد عام 1926، تأسيس الاتّحاد الدّولي للعبة ITTF، والذي أخذ على عاتقه تنظيم أوّل بطولةٍ عالميّةٍ لتنس الطاولة، وذلك في العاصمة البريطانيّة لندن عام 1926.
أبعاد الطاولة الخاصة باللعبة
وتنامت شعبيّة تنس الطاولة عبر العالم، نظرًا لرخص معدّاتها وتوفّرها، وعدم تطلّبها مساحاتٍ كبيرة، حيث يمكن ممارستها في المدارس والنوادي وحتّى في الساحات العامّة، ولا يتطلّب ذلك أكثر من توفّر طاولةٍ ومضربين وكرة، حيث تكون الطاولة خشبيّةً مستطيلة الشّكل، بطول 274سم وعرض 152,5سم، ترتفع عن الأرض بمقدار 76سم، وتُقسم إلى نصفين متساويين عبر خطٍّ أبيض اللون، يُنصب عليه حاجزٌ شبكيٌّ مشدودٌ بارتفاع 15,25سم.
أمّا المضارب فتُصنع من الخشب المكسو بالمطاط، والذي يُحشى غالبًا بمواد ليفيّةٍ تساعد على زيادة التحكّم بالضربة، وليس للمضرب طولٌ معيّنٌ، إنّما يتراوح عادةً بين 15 و17سم، في حين يُحدّد قطر كرة الطاولة ب40ملم، ووزنها ب2,7غ، وتكون مصنوعةً من البلاستيك الخفيف “الباغة”، باللونين الأبيض أو البرتقالي، وفق مواصفاتٍ فنّيةٍ معيّنة.
صورةٌ مقرّبةٌ لمضربي وكرة اللعبة
وتقام مباريات تنس الطاولة بين لاعبين في منافسات الفردي، أو 4 لاعبين في منافسات الزوجي، حيث يقف اللاعبان في مباراة الفردي عند طرفي الطاولة، ويبدأ أحدهما بالإرسال، الذي يتبع لقواعد معيّنة من حيث وجوب قذف الكرة في الهواء، ثم ضربها بكفّ المضرب المطّاطيّ لتلامس منطقته أوّلًا، ثم تعبر الحاجز نحو منطقة اللاعب المقابل، والذي يتوجّب عليه ردّ الكرة نحو منطقة خصمه مباشرةً، ويكسب نقطةً من يُجبر خصمه على ارتكاب خطأ في ردّ الكرة، حيث تُشكّل كلّ 11 نقطةً شوطًا، ويربح المباراة اللاعب الذي يسبق خصمه في الفوز ب3 أشواطٍ من أصل 5، أو 4 أشواطٍ من أصل 7.
وتختلف القوانين قليلًا في منافسات الزوجي، حيث يُشترط تناوب اللاعبين الزميلين على ضرب الكرة، كما يُشترط إصابة المربّع المقابل قطريًّا عند الإرسال، ويدير المباريات عادةً حكمان، يتولّى أحدهما مراقبة تطبيق القوانين، فيما يقوم الآخر بتسجيل النتائج وفق إشارة الحكم الأوّل.
جانبٌ من منافسات بطولة العالم في سوزو عام 2015
وتحظى تنس الطاولة بالعديد من المنافسات السنويّة والموسميّة، والمسابقات دّوليّة والقارّية، سواءً على المستوى الفردي أو على مستوى المنتخبات الوطنيّة والأندية، وتُعتبر بطولة العالم لتنس الطاولة، التي تُقام منذ عام 1926، أعرق تلك المسابقات وأهمّها، حيث تتضمّن 5 فعّاليّاتٍ تتوزّع بين الفردي والزّوجي للرجال والسيّدات، إضافةً إلى الزوجي المختلط، فيما تُقام بطولةٌ عالميّةٌ أخرى خاصّةٌ بالمنتخبات الوطنيّة منذ عام 2000، وقد اتُّفق على إقامة البطولتين بالتناوب، حيث تقام بطولة العالم للأفراد في السنوات الفرديّة، وبطولة العالم للمنتخبات في السنوات الزوجيّة، وإضافةً إلى تلك المسابقتين، تُقام منذ عام 1980، بطولةٌ ثالثةٌ بشكلٍ سنويٍّ، تُدعى بكأس العالم لتنس الطاولة.
ورغم تأخّر دخولها منهاج الألعاب الأولمبيّة الصيفيّة حتّى دورة عام 1988 في سيؤول، ألّا أنّ تنس الطاولة حافظت على وجودها الأولمبيّ في جميع الدورات التالية، حيث خُصصت لها 4 فعّاليّاتٍ لفردي وزوجي الرجال والسيّدات، تُقام على مدى أيّام الأولمبياد.
سيطرةٌ صينيّةٌ مطلقةٌ على منافسات الطاولة في أولمبياد ريو 2016
وتهيمن الصّين بأبطالها وبطلاتها على جلّ مسابقات اللعبة في العقود ال3 الأخيرة، حيث أحرز الصينيّون 28 من أصل 32 ميداليّةً ذهبيّةً مخصّصةً لتنس الطاولة في الدورات الأولمبيّة ال8، كما احتكروا أغلب جوائز مسابقاتها العالميّة منذ ستينيّات القرن الماضي، حين حملوا مشعل التألّق من جيرانهم اليابانيين الذين سيطروا على اللعبة في الخمسينيّات، بعد عقدين كانت فيهما اللعبة حكرًا على الأبطال الأوروبيين من المجر وإنجلترا والتشيك ورومانيا.
وتبرز أسماء أبطالٍ مثل زهانغ جيكي وما لونغ، وبطلاتٍ مثل دينغ يابينغ ووانغ نان وزهانغ ينينغ، وجميعهم حقّقوا ألقاب عددٍ من بطولات العالم وذهبيّات الدّورات الأولمبيّة في اللعبة.
ولم تمنع الهيمنة الصينيّة بعض الأبطال الآخرين من الظهور، ولو على فتراتٍ متباعدة، كما فعل السويديّ يان أوفي فالدنر، حامل ذهبيّة أولمبياد برشلونة عام 1992، وبطل العالم في مناسبتين عامي 1989 و1997، والذي لُقّب بـ “موزّارت تنس الطاولة”، نظرًا لمهاراته وإمكانيّاته المبهرة، التي تظهر جليًّا من خلال مقطع الفيديو التالي، الذي يُوصف بأنّه أفضل لقطةٍ في تاريخ اللعبة، وهو من إحدى المباريات التي جمعته بمواطنه يورغن بيرسون، بطل العالم عام 1991، وقد حققت أكثر من 17 مليون مشاهدةٍ على موقع اليوتيوب:
ورغم انتشارها وشعبيّتها في معظم بلداننا العربيّة، لم يتمكّن أبطالنا وبطلاتنا العرب من تحقيق إنجازاتٍ تُذكر على صعيد منافسات تنس الطاولة الأولمبيّة، ولا على صعيد بطولات العالم للفردي، التي كانت مصر سبّاقةً باستضافة نسخة عام 1939 منها، كما كانت سبّاقةً بتحقيق الإنجاز العربيّ العالميّ الوحيد في اللعبة، عندما تمكّن المنتخب المصري للرجال، من تحقيق الميداليّة البرونزيّة في بطولة كأس العالم للمنتخبات، وذلك في مدينة جوانجزو الصينيّة عام 2013، فضلًا عن تألّق العديد من أبطال وبطلات مصر على الصعيد القارّي، كالسيّد لاشين وعمر عصر ودينا مشرف، وجميعهم حقّقوا إنجازاتٍ عدّة على مستوى البطولات الإفريقيّة للعبة.
البطلان المصريان عمر عصر ودينا مشرف
وفي ختام حديثنا عن رياضة تنس الطاولة، نقدّم لكم باقةً من أجمل لقطات هذه اللعبة الشيّقة وأطرفها، من خلال مقطعي الفيديو التاليين: