أيام قليلة تفصلنا عن انطلاق فعاليات القمة الـ18 لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، المقرر انعقادها يومي السبت والأحد، 9 و10 سبتمبر/أيلول الحاليّ في العاصمة الهندية نيودلهي، وسط حالة من الضبابية تخيم على الأجواء في ضوء غياب عدد من الزعماء وزيادة رقعة التصدع بين الأعضاء رغم الملفات الساخنة المطروحة على جدول الأعمال.
يمثل غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ، في المقام الأول، ثم غياب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بنسبة أقل، صدمة كبيرة قد تهدد هذا التكتل الكبير الذي يضم بين جنباته أقوى اقتصادات العالم وأكثرها تأثيرًا على الإطلاق، ويضع مسألة استمراريته ونفوذه على المحك، خاصة مع التحركات المتعددة من أعضاء المجموعة للانخراط في تكتلات أخرى موازية منها “بريكس” على سبيل المثال.
فيما يتعلق بالرئيس الروسي، لم تكن المرة الأولى التي يغيب فيها عن قمة G20، فقد غاب عنها العام الماضي كما غاب عن قمة “بريكس” التي عقدت في جنوب إفريقيا قبل أيام، أما الرئيس الصيني فلم يسبق أن تخلى عن حضور القمة منذ وصوله إلى السلطة عام 2013 إلا مرة واحدة فقط بسبب قيود “كوفيد 19” حين شارك في قمة روما 2021 من خلال اتصال عبر تقنية الفيديو.
بايدن: أشعر بـ"خيبة أمل" لعدم رؤية الرئيس الصيني بقمة #مجموعة_العشرين في الهند https://t.co/NtGZoZnMhV
— CNN بالعربية (@cnnarabic) September 4, 2023
الخارجية الصينية، أعلنت بشكل رسمي في الرابع من الشهر الحاليّ أن رئيس الوزراء لي تشيانغ سيمثل بلاده في قمة نيودلهي القادمة، وهو الإعلان الذي أثار الكثير من الجدل، ودفع الرئيس الأمريكي جو بايدن للإشارة إلى أنه سيصاب بـ”خيبة أمل” إن لم يحضر الزعيم الصيني.
غياب جين بينغ عن القمة سيهدد مناقشة العديد من الملفات الحساسة ويؤجل قرارات حسمها منها مفاوضات إعادة هيكلة الديون، هذا بخلاف تأكيده على حالة التصدع التي يعاني منها هذا التكتل، خاصة بعد أشهر من الجهود الفاشلة التي بذلتها المنتديات الوزارية المنبثقة عن المجموعة من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة من التفاهمات بشأن حزمة قضايا وملفات خلافية على رأسها التغيرات المناخية والحرب الأوكرانية.. فما الذي يحمله هذا الغياب من دلالات؟
بكين.. إعادة تقييم للسياسة الخارجية
قبل أقل من أسبوعين من اليوم، كان الرئيس الصيني يتصدر قائمة المشاركين في قمة “بريكس” بجنوب إفريقيا، وكان حضوره طاغيًا على الجميع، واصفًا ضم ستة أعضاء جدد وتوسعة هذا التكتل الصغير نسبيًا مقارنة بمجموعة العشرين أو مجموعة السبع الكبرى بـ”الإنجاز التاريخي”، معربًا عن أمله في أن يكون هذا الكيان المكون من خمس دول فقط: روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، قبل أن ينضم إليه بداية العام الجديد 6 دول أخرى، خطوة جديدة في مسار التعددية القطبية التي ينشدها المعسكر الشرقي.
حضور جين بينغ لـ”بريكس” وعدم حضوره لقمة العشرين، لا شك أنه تناقض مثير للتساؤل عما يعكسه من دلالات، فضلًا عن دوافعه الرئيسية، إلا أن السياسة الخارجية التي تبنتها بكين خلال الآونة الأخيرة وميلها نحو الانزواء قدر الإمكان عن الغرب وتدشين تكتلات موازية تميط اللثام عن الكثير من التساؤلات الخاصة بهذا التناقض.
من المرجح أن يؤدي غياب شي على وجه الخصوص إلى تقليص أهمية منصة مجموعة العشرين المنقسمة بالفعل#قمة_العشرين #الصين #روسيا https://t.co/knaX1V0uNd
— DW عربية (@dw_arabic) September 6, 2023
بات من الواضح أن الصين تحاول قدر الإمكان خلق نظام جديد مواز بشكل أو بآخر للنظام الليبرالي الذي يسيطر عليه الغرب، ويحول بقية دول العالم – بما فيها القوى الكبرى – إلى تروس تدور في عجلة الإستراتيجية الأمريكية تحديدًا، ومن ثم فإن تدشين تكتلات بديلة من الممكن أن يفتت هذا النظام الذي تهيمن عليه واشنطن ومعسكرها، وفق الرؤية الصينية.
خلال السنوات الماضية حولت بكين بوصلتها نحو بلدان الشرق الأوسط ودول الخليج والقارة الإفريقية، كما عمقت شراكاتها مع حلفائها التقليديين في المعسكر الشرقي، روسيا وإيران على وجه التحديد، بجانب توسيع نفوذها في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، في توجه جديد يحاول من خلاله الصينيون خلق البديل للنظام العالمي التقليدي الذي يرسخ لعالم أحادي القطبية.
وبمنطق برغماتي بحت، ترى بكين أنها لن تستطيع الهيمنة بشكل أو بآخر على مجموعة العشرين في ظل وجود الولايات المتحدة، ما يعني أنها لن تستطيع خدمة أهدافها ومصالحها بشكل كامل، عكس التكتلات الأخرى التي تتصدر فيها المشهد وتستعرض عضلاتها وقواها الإقليمية والدولية، وهو ما تسعى لتحقيقه مؤخرًا.
مواجهة النفوذ الغربي
تهدف إعادة الهيكلة التي تجريها بكين على سياستها الخارجية إلى كسر الهيمنة الأمريكية ومواجهة النفوذ الغربي المترسخ في صورة التكتلات الكبرى كمجموعة العشرين وغيرها، وعليه فإن إجهاض تلك التكتلات وإضعافها يعني بشكل أو بآخر كسر هذا النفوذ وتفتيته.
رغم احتمالية أن تنفرد واشنطن خلال قمة نيودلهي القادمة بتعزيز حضورها ونفوذها لدى الدول النامية من خلال طرح محفزات ومغريات لهم تقارع بها ما تقدمه بكين، فإن الأخيرة ترى أن بغيابها بجانب موسكو، ستصبح القمة بلا قيمة، أو على الأقل لن يتم تمرير أي من القرارات المتوقع تمريرها بشأن حزمة الملفات العالقة.
"عقلية الحرب الباردة مازالت تقض مضجع عالمنا".. الرئيس الصيني يدعو لتعزيز العلاقات مع الدول النامية، وأن تلعب دول بريكس دورا في حل النزاعات في المناطق الساخنة pic.twitter.com/PcUsV1gryZ
— قناة الجزيرة (@AJArabic) August 24, 2023
ويؤمن المعسكر الشرقي في معظمه بأن الولايات المتحدة وأوروبا يوظفون تلك التكتلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية الكبرى لخدمة أجنداتهم التوسعية وبسط الهيمنة على الخريطة الدولية، وأن المشاركة في تلك التكتلات من قوى المعسكر الشرقي بمثابة تعزيز لتلك الهيمنة وتقديمها للغرب على طبق من ذهب بالمجان.
الرسالة الأبرز التي يود الصينيون والروس إيصالها من خلال غياب زعمائهم عن الحضور في تلك القمة، هي التأكيد على أن العشرين والسبع وغيرها من تلك التكتلات تحولت إلى أداة بيد الإدارة الأمريكية توظفها لخدمة طموحاتها، وأن الاستمرار في تلك الإستراتيجية أمر مرفوض، ما قد يدفع بعض الدول الأعضاء لإعادة النظر في توجهاتها خشية تفكك هذا التكتل جراء احتمالية تلويح كل من الصين وروسيا بالانسحاب أو التحول تدريجيًا إلى عصا بأيدي الأمريكان بما يهدد سيادتهم واستقلاليتهم.
توتر العلاقات مع الهند
تعاني العلاقات الصينية الهندية من توترات بين الحين والآخر خلال السنوات الأخيرة، بسبب النزاع الحدودي بين البلدين منذ عقود، الذي تسبب باندلاع العديد من المواجهات المسلحة على طول الحدود الشاسعة في منطقة الهيمالايا، ما أدى إلى تعكير الأجواء بين الجارتين، خاصةً بعد عضوية الهند في مجموعة “كواد” الرباعية التي تضم أستراليا واليابان والولايات المتحدة، وهو الكيان الذي يراه الصينيون محاولة لاحتواء نفوذهم داخل آسيا.
دومًا ما تتبادل الدولتان الاتهامات بشأن التآمر والتخطيط وحشد الدعم الإقليمي والدولي لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في ساحة صراع الحدود والنفوذ بينهما، ولذلك ترى بكين في احتضان نيودلهي لقمة العشرين فرصة للترويج لموقفها ورؤيتها فيما يتعلق بالنزاع مع الصين في محاولة لكسب الدعم الدولي، وهو ما لا يريده الصينيون.
بالتالي، فإن عدم حضور الرئيس الصيني سيجنبه الكثير من الضغوطات المحتملة التي من الممكن أن تمارسها الهند عليه خلال القمة، كما أنه سيعفيه من الرد على الكثير من التساؤلات التي قد تسبب له حرجًا أمام الرأي العام خاصة فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الملفات الحساسة.
وحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، عن مسؤول غربي يشارك في الاستعدادات لقمة العشرين في الهند، فإن غياب الرئيس الصيني عن القمة “سيشكل ضربة لرئاسة الهند الحاليّة للتجمع متعدد الأطراف ووضع قمة نيودلهي”، بجانب أنه “يهز مكانة مجموعة العشرين باعتبارها منتدى القيادة العالمية البارز، وسط انقسامات عميقة بين أعضائها”، فيما يرى مراقبون أن هناك قناعة كبيرة لدى الهنود بأن “الصين تريد إفساد الحدث الهندي في وقت يشهد احتكاكًا ثنائيًا بشأن الحدود المتنازع عليها بين البلدين”.
وعلى الجانب الآخر نفى وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار المزاعم التي تشير إلى مسؤولية بلاده عن عدم حضور الرئيسين، الصيني والروسي، مضيفًا في مقابلة له مع وكالة (إيه إن آي) للأنباء، أن هناك جهودًا دبلوماسية تجري الآن من أجل التوصل إلى توافق بشأن إعلان للقمة المقبلة.
وأجاب ردًا عن سؤال عما إذا كان سبب غياب بوتين وشي عن القمة هو الانزعاج من الهند، قائلًا: “لا.. لا أعتقد أن الأمر متعلق بالهند بأي حال.. أعتقد أنه أيًا كان القرار الذي سيتخذانه فهما يعلمان الأصلح. لكن لا أرى إطلاقًا الأمر بالطريقة التي أشرت إليها”، أما عن تأثير هذا الغياب على البيان الختامي للقمة فقال “نتفاوض حاليًّا.. لم يبدأ العمل بعد”.
في ضوء المؤشرات الأولية بشأن فشل الاجتماعات التمهيدية التي سبقت انعقاد القمة في التوصل إلى أرضية من التفاهمات المشتركة، في ضوء اتساع الهوة بين الدول الأعضاء، جراء تباين وجهات النظر بشأن الملفات الجدلية، بجانب غياب اثنين من أكبر قادة المجموعة، فإن قمة نيودلهي على الأرجح لن تقدم جديدًا، وستخرج ببيان مقتضب يفتقد للاتفاق وحسم القضايا المهمة كما حدث في القمم السابقة، لتواصل الخريطة العالمية مسارها نحو إعادة التموضع في ضوء المستجدات التي تشهدها الساحة، وحتمًا ستخلق نظامًا عالميًا مغايرًا.