لا يزال ملف التطبيع مع الاحتلال الصهيوني يشكّل هاجسًا للجزائر، بالخصوص بالنسبة إلى الدول المحيطة بها، لذلك لا تتردد في انتقاد أي خطوات يمكن أن تصبَّ في هذا الإطار، وهو ما عبّرت عنه بشأن ما تم تداوله حول إمكانية تطبيع تونس وليبيا، في مساعٍ لعدم وصول الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم بين المغرب والاحتلال، فهل تستطيع التطمينات التي قدمتها طرابلس وتونس أن تضع حدًّا للهواجس الجزائرية؟
لم تعد العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي اليوم تتعلق بالتنديد ودعم القضية الفلسطينية اللامشروط الذي التزمت به الجزائر طيلة السنوات الماضية، إنما أصبحت تتعلق بخطر تراه على حدودها الغربية، وتتخوف أن يصبح أيضًا على الجانب الشرقي من حدودها.
قلق جزائري
في الأسابيع الماضية، شكّل موضوع التحاق تونس بقائمة الدول العربية المطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي قلقًا في الجزائر، حتى إن لم تعبّر عنه الحكومة علنًا في البداية، وذلك بعد زيارات متوالية لمسؤولين في الإمارات، عرّابة التطبيع الحديث مع الكيان الصهيوني، إلى الجارة الشرقية.
عبّر عن هذا القلق رئيس حركة البناء الوطني المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين في الجزائر، عبد القادر بن قرينة، مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي، والذي يشارك حزبه في الحكومة، محذّرًا من تطبيع وشيك بين تونس والاحتلال الإسرائيلي برعاية إماراتية، وجاء تحذير بن قرينة بعد أن زار تونس الشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان وزير الدولة في الإمارات، والتقى مع رئيسها قيس سعيّد.
قال بن قرينة حينها: “أتمنى من الدولة الجزائرية، بل أجزم أن عينها مفتوحة بعد الزيارات المشؤومة لتونس مؤخرًا من أجل شراء التطبيع، وقد يكون قريبًا وقريبًا جدًّا، وأعني ما أقول”.
وأضاف أن الإمارات أرادت أن تشتري مطارًا عسكريًّا في موريتانيا من أجل الغرض نفسه، مردفًا في هذا الإطار: “لم نرَ تكذيبًا من السلطات الموريتانية أن مسؤولًا رفيعًا في موريتانيا زار الكيان الصهيوني مؤخرًا من أجل هذا المطار، حيث سيكون مموّلًا من الدولة الخليجية، ويكون فيه الكيان الصهيوني”.
سبق لصحيفة “الخبر” الجزائرية أن تحدثت عن ضغوط إماراتية رهيبة تتعرض لها موريتانيا لتنضم إلى قائمة المطبّعين، خاصة أن وزير الدفاع الموريتاني التقى مسؤولين إسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة في زيارة أشرفت عليها الإمارات.
في حال طبّعت هذه الدول الثلاث مع الاحتلال الإسرائيلي، ستصبح الجزائر محاطة من كل جانب مع دول تقيم علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء حدودها الجنوبية
زاد التوجُّس من تطبيع بين تونس ونواكشوط مع الاحتلال الإسرائيلي، جراء ما نقلته عدة وسائل إعلام حول لقاء جمعَ بين وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، في العاصمة الإيطالية روما.
وقال كوهين: “تحدثت مع وزيرة الخارجية الليبية عن الإمكانات الكبيرة للعلاقات بين البلدَين، فضلًا عن أهمية الحفاظ على تراث اليهود الليبيين، بما يشمل تجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد”، مضيفًا أنهما “ناقشا العلاقات التاريخية بين البلدَين، وإمكانية التعاون بين الدولتَين و”المساعدات الإسرائيلية” في القضايا الإنسانية والزراعة وإدارة المياه”.
وتابع كوهين قائلًا: “نحن نعمل من أجل التواصل مع المزيد من الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، بهدف توسيع دائرة السلام والتطبيع مع “إسرائيل””.
أحدثت هذه الأخبار احتجاجات شعبية واسعة في ليبيا، أرغمت رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة إلى التنصُّل من تصرف المنقوش وإقالتها، رغم أن عدة تحليلات اعتبرت هذا اللقاء لم يحدث دون استشارة الدبيبة بالنظر إلى القرب العائلي بين الطرفَين، فنجلاء المنقوش حرم نجل الدبيبة، وفق ما نقلت عدة تقارير إعلامية.
في حال طبّعت هذه الدول الثلاث مع الاحتلال الإسرائيلي، ستصبح الجزائر محاطة من كل جانب مع دول تقيم علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء حدودها الجنوبية التي كانت هي الأخرى على وشك التطبيع، بالنظر إلى توارد أنباء سابقة عن نية نظام الرئيس المنقلب عليه في النيجر محمد بازوم لإقامة علاقات مع تل أبيب.
تعهُّدات دبلوماسية
استدعت هذه الأخبار المتوالية حول تطبيع وشيك في تونس اتصالات جزائرية دبلوماسية حول حقيقة تغيُّر الموقف التونسي والليبي من الاحتلال الصهيوني، والالتحاق بالمهرولين نحو التطبيع.
أوفدت تونس إلى الجزائر في 16 أغسطس/ آب الماضي وزير خارجيتها نبيل عمار، بتكليف من الرئيس قيس سعيّد الذي بعث برسالة إلى نظيره عبد المجيد تبون، في زيارة اُعتبرت أنها جاءت بعد فتور غير علني في العلاقات بين البلدَين، حيث لم يزر الجزائر مسؤول تونسي منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
لم ترد تفاصيل كثيرة حول فحوى الرسالة التي بعث بها قيس سعيّد إلى نظيره الجزائري، غير أن وزير الخارجية أحمد عطاف كشف في ندوته الصحفية التي قام بها الأسبوع الماضي، أن من ضمن ما دار خلال اللقاء ملف التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وقال عطاف إن مبعوث الرئيس قيس سعيّد فنّد وجود أي نية للتطبيع في تونس، مضيفًا أنه “قيل لي شخصيًّا إنه سيُسَن قانون في تونس لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني”، وجاء هذا التأكيد من جديد على لسان سعيّد نفسه، في كلمة ألقاها خلال تسليم عدد من السفراء الجدد أوراق اعتمادهم الرسمية، حيث قال إن تونس “تجدد رفضها القاطع للتطبيع مع “إسرائيل“”.
المصالح والدعم اللذين تحتاجهما حكومة الدبيبة قد يجعلاها تتخلى عن كل محاولات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، بما أنها أصبحت ورقة محروقة وغير مربحة
وأكّد الرئيس التونسي أن “مصطلح التطبيع غير موجود لديه على الإطلاق”، مضيفًا أنه “رغم أن للدولة الفلسطينية سفراء، لا تنسوا الحق الفلسطيني المشروع، وأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل الأمة”، معتبرًا أن “الأمر الطبيعي أن تعود فلسطين إلى الشعب الفلسطيني”، ويدرس المجلس التشريعي التونسي حاليًّا إمكانية سنّ مشروع قانون يجرّم التطبيع مع “إسرائيل”.
أما بالنسبة إلى ليبيا التي عرفت رفضًا شعبيًّا واسعًا لمحاولات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، فقد التقى سفير الجزائر بطرابلس، سليمان شنين، الأحد الماضي نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي عبد الله اللافي، الذي أكد الموقف الليبي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، بالرفض الرسمي والشعبي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، من خلال التمسك بالمواقف الوطنية والقومية الراسخة بنصرة الشعب الفلسطيني ورفض التطبيع.
رغم أن التعهُّدات في ليبيا من الصعب الوثوق بها، بالنظر إلى حالة عدم الاستقرار السياسي، إلا أن المصالح والدعم اللذين تحتاجهما حكومة عبد الحميد الدبيبة قد يجعلاها في الوقت الحالي على الأقل تتخلى عن كل محاولات التطبيع مع الاحتلال، بما أنها أصبحت ورقة محروقة وغير مربحة، إضافة إلى أنها لا تريد خسارة داعم إقليمي مهم كالجزائر، التي لا تتردد في إعلان دعمها لحكومة الدبيبة كونها السلطة المعترف بها دوليًّا.
جبهة مغاربية
لم يعد قبول الأنظمة المغاربية بالتطبيع مع الاحتلال الصهيوني يشكّل هاجسًا للحكومة في الجزائر فقط، إنما أيضًا للأحزاب السياسية وبالخصوص المصنَّفة أنها إسلامية ووطنية، فبعد التحذيرات التي أطلقها رئيس حركة البناء الوطني عبد القادر بن قرينة، انضمت أحزاب أخرى إلى التنديد بهذه الهرولة نحو التطبيع.
دعا رئيس حركة النهضة الجزائرية، محمد ذويبي، هذا الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبون إلى “العمل على عقد لقاء قمة للدول المغاربية الرافضة للتطبيع من أجل تثبيت الموقف الموحّد، مهما كانت نوعية الضغوط والإغراءات تجاه المحاولات المتكررة للكيان الصهيوني للتسلُّل واختراق المنطقة، حفاظًا على حق الشعب الفلسطيني في التحرر وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”.
وجدد ذويبي “إدانة واستنكار ورفض حركة النهضة محاولة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، وشجب الدور الوظيفي لبعض الدول المطبّعة معه من أجل فرضه على بعض الدول الشقيقة في المغرب العربي، وبهذه المناسبة تتقدم الحركة بتحية إكبار وإجلال واحترام للشعب الليبي الذي أظهر انتماءه الأصيل لأمّته، ورفض كل الدسائس التي كانت تحاك ضده في السر لجرّه إلى مستنقع التطبيع”.
استطاعت الجزائر رفقة جنوب أفريقيا ودول أخرى تعليق عضوية الاحتلال الإسرائيلي في الاتحاد الأفريقي، وتسعى إلى إلغاء هذه العضوية بالكامل في الدورات المقبلة.
يأتي هذا التخوف الجزائري من اتساع رقعة المطبّعين في المنطقة العربية والمغاربية والأفريقية من موقفها المبدئي الرافض لأي تطبيع دون استقلال فلسطين، وقيام دولتها المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، إضافة إلى التهديد الذي لحقها من “إسرائيل” من الأراضي المغربية، فور إعلان الرباط تطبيعها مع الاحتلال الإسرائيلي، ففي أغسطس/ آب 2021 أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يائير لابيد، تصريحات استفزازية ضد الجزائر من مدينة الدار البيضاء المغربية.
وقال لابيد وقتها: “نحن نتشارك مع المغرب القلق بشأن دور دولة الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربًا من إيران وهي تقوم حاليًّا بشنّ حملة ضد قبول “إسرائيل” في الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب”.
وتروّج “إسرائيل” والمغرب ادعاءات حول علاقات خاصة بين الجزائر وإيران، رغم أن علاقات البلدَين شبيهة بعلاقة الجزائر بكثير من الدول المنضوية ضمن منظمة التعاون الإسلامي، بل إن الجزائر احتجّت في أكثر من مرة من محاولات تشييع تقودها طهران في الجزائر.
واستطاعت الجزائر رفقة جنوب أفريقيا ودول أخرى تعليق عضوية الاحتلال الإسرائيلي في الاتحاد الأفريقي، وتسعى إلى إلغاء هذه العضوية بالكامل في الدورات المقبلة.
من المؤكد أن مقاومة رياح التطبيع مع الاحتلال التي تجتاح المنطقة العربية في السنوات الأخيرة وضعت المنطقة المغاربية ضمن أهدافها الرئيسية، بالنظر إلى أنها ظلت لسنوات بعيدة عنها باستثناء المغرب، وهو ما تحاول الجزائر منعه بكل الطرق، كون التهديد الصهيوني لم يعد كما كان في السابق بعيدًا على حدود البحر الأحمر، إنما أصبح اليوم قرب الحدود الغربية للبلاد.