مدينة واحدة ومنقسمة في شرقها وغربها، وعاصمة مقدّسة للمسلمين عامة، وبؤرة صراع في القضية الفلسطينية، يطوّع الاحتلال كل إمكاناته وعلاقاته ليضمّها رسميًّا إلى الداخل المحتل، ويعاملها كما يعامل حيفا ويافا وعكا كمدن مستعمرة بالكامل وداخل حدود دولة “إسرائيل” المصطنعة، إلا أن شرارة حربٍ تندلع كلما حاول تغيير الوضع القائم فيها، لأنها ببساطة: القدس.
خلال حرب عام 1948، احتلت قوات الاحتلال 84% من القدس، فيما سيطرت الأردن على ما تبقّى من القدس التي تضم البلدة القديمة والمسجد الأقصى وحائط البراق وأحياء القدس العربية، وانقسمت القدس من حينها بين شرقية وغربية، وأعاد الاحتلال السيطرة على الجزء الشرقي منها عام 1967.
كان هذا وضع القدس: بين إعلان كامل الاحتلال والسيادة الإسرائيلية على غربها، بينما يعاني الجزء الشرقي من عدم اعتراف بوضعية المقدسيين فيه، فلا هوية فلسطينية يحملونها، ولا تعترف فيهم “إسرائيل” كما هو الحال مع فلسطينيي الداخل المحتل، وإنما تواصل الاستيطان في أراضيهم، وتمنع وصول الفلسطينيين في الضفة المحتلة إليها.
منذ احتلالها، استولت المنظمات الاستيطانية وسلطات الاحتلال على ممتلكات الفلسطينيين في الأحياء الشرقية من القدس، وأقامت تجمعات استيطانية فيها، وتتركز المستوطنات المقامة في المناطق الفلسطينية من القدس الشرقية فيما يعرَف بمنطقة “الحوض المقدس”، الذي يضم الحيَّين الإسلامي والمسيحي في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح والطور (جبل الزيتون) ووادي الجوز وراس العامود وجبل المكبر، وقد صادقت حكومة الاحتلال على بناء ألفَين و635 وحدة استيطانية بالقدس المحتلة عام 2022.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يبحث “نون بوست” في وكيلَين أساسيَّين لتنفيذ المخططات الاستيطانية في القدس، وإحلال أكثر من 230 ألف مستوطن في القدس الشرقية وحدها: بلدية القدس التابعة لسلطات الاحتلال، واللجنة الوزارية لقضايا منطقة القدس الكبرى.
وضع استثنائي
بعيدًا عن الاحتلال، تعرَّف البلديات بأنها مؤسسات خدماتية لتطوير الخدمات والمرافق والبنية التحتية، وخدمة الجمهور في الحدود الواقعة ضمن مناطق البلدية، لكن الأوضاع في القدس مختلفة تمامًا، حيث تتبع البلدية للاحتلال وتعمل برئاسة إسرائيليين على تنفيذ مخططات الاستيطان.
بدلًا من تقديم البلدية الخدمات للجمهور المقدسي في الجزء الشرقي من القدس، تكرّس خدماتها لتهجيرهم وطردهم والتضييق عليهم، ويقع في القدس الشرقية المحتلة 28 حيًّا فلسطينيًّا ضمن منطقة ما يسمّى بحدود بلدية القدس، هذه البلدية التي يرفض المقدسيون في المدينة المشاركة في انتخابها.
إضافة إلى عدم إصدار التراخيص، يستخدم الاحتلال وسيلة أخرى لتقليص مساحات الأراضي المخصصة للمقدسيين، وهي إعلان “حدائق وطنية” بهدف كبح البناء والتطوير بشكل شبه مطلق
بعد احتلال الضفة الغربية والجزء الشرقي من القدس، ضمّ الاحتلال نحو 70 ألف دونم من أراضي الضفة إلى نفوذ بلدية القدس، وطبّقت فيها القانون الإسرائيلي مخالفة بذلك القانون الدولي، وتجاوزت الأراضي التي ضمّها الاحتلال بكثير مساحة شرقي القدس (التي امتدّت على نحو 6 آلاف دونم فقط)، إذ اشتملت على ما يقارب 64 ألف دونم إضافية معظمها أراضٍ تتبع لـ 28 قرية فلسطينية تقع في الضفة الغربية، وبعضها يتبع لبلديتَي بيت لحم وبيت جالا.
بعد ضمّ الأراضي، ألغى الاحتلال الخرائط الهيكلية الأردنية التي كانت سارية في المناطق التي ضمّها للجزء الشرقي من القدس، وأنشأ فراغًا تخطيطيًّا، وأعدّت بلدية القدس خرائط هيكلية لجميع الأحياء الفلسطينية في شرقي القدس، وكانت ميزتها الأبرز المساحات الشاسعة التي جرى تخصيصها كـ”أراض ذات إطلالة” يُمنع فيها البناء، ووصلت نسبتها عام 2014 إلى 30%، فيما تخصِّص هذه الخرائط للسكن فقط نسبة 15% من مساحة الجزء الشرقي من القدس.
بكلمات أخرى، إن وجود فراغ تخطيطي وعدم وجود خرائط تفصيلية للأحياء الفلسطينية في الجزء الشرقي من القدس يعني عدم إصدار تراخيص بناء، وهو ما تمارسه سلطات بلدية الاحتلال من عدم إصدار تراخيص بناء للفلسطينيين إلا بشكل نادر، وأن 13% من مساحة “القدس الشرقية” مسموح نظريًّا للفلسطينيين البناء فيها، بينما يسمح للمستوطنين بالبناء على 35% من مساحتها، بالإضافة طبعًا إلى “القدس الغربية” المفتوحة كليًّا لهم فقط.
صادقت بلدية الاحتلال في القدس على تسمية الشوارع في البلدة القديمة والجزء الشرقي من القدس بأسماء عبرية ذات دلالات توراتية، وذلك لتعزيز سيطرة الاحتلال عليها
إضافة إلى عدم إصدار التراخيص، يستخدم الاحتلال وسيلة أخرى لتقليص مساحات الأراضي المخصصة للمقدسيين، وهي إعلان “حدائق وطنية” بهدف كبح البناء والتطوير بشكل شبه مطلق، إذ لا يمكن البناء في هذه الحدائق، وترى منظمة بتسيلم أن إقامة الحدائق هو “تحقيق لأهداف سياسية وإنشاء تواصل جغرافي بين مساحات خالية من السكّان الفلسطينيين، بدءًا من البلدة القديمة وصولًا إلى المستوطنات المخطّط إقامتها في منطقة E1، وفي موازاة ذلك زيادة الوجود اليهودي في شرق المدينة”.
وفي عام 2022، هدمت بلدية الاحتلال 84 منزلًا في “القدس الشرقية” بحجّة عدم الترخيص، كما تلجأ وزارة داخلية الاحتلال وبلدية القدس إلى سياسة سحب هويات المقدسيين بحجّة تغيير مركز الحياة من خلال وزارة الداخلية ومؤسسة التأمين الوطني، وذلك بهدف تقليص أعداد الفلسطينيين في مدينة القدس الشرقية.
كما تُظهر مخططات المدن الإسرائيلية “الحدائق الوطنية”، التي تطوّق البلدة القديمة مع تخصيص حوالي 60% من جبل المكبر كمساحات خضراء، على أنها محظورة على الفلسطينيين، وهو ما يعني هدم ما لا يقل عن 20 ألف منزل فلسطيني في “القدس الشرقية”.
بالتوازي مع ذلك، صادقت بلدية الاحتلال في القدس على تسمية الشوارع في البلدة القديمة والجزء الشرقي بأسماء عبرية ذات دلالات توراتية، وذلك لتعزيز سيطرة الاحتلال عليها، خاصة البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك والأماكن والمقدسات المسيحية، وتحويلها إلى مرجعية وإدارة إسرائيلية.
وبعد اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2017 بالقدس عاصمة موحدة لـ”إسرائيل”، بدأت بلدية الاحتلال في القدس خطة “تسوية الحقوق العقارية”، وذلك بهدف حرمان الفلسطينيين في الشتات أو حتى في الضفة الغربية من حقهم في ميراث ممتلكاتهم في القدس المحتلة، ما يمهّد الطريق للاحتلال للاستيلاء على تلك الممتلكات، بحجّة أنه لم يتم توثيق ملكيتهم بشكل صحيح حسب الإجراءات، وبالتالي يكون إعادة تفعيل قانون أملاك الغائبين مستوجبًا للاستيلاء “رسميًّا” على ممتلكات الفلسطينيين.
اللجنة الوزارية لقضايا منطقة “أورشليم القدس الكبرى”
قدمت لجنة وزارية تعنى بشؤون القدس تسمّى “لجنة غافني” مقترحًا إلى حكومة الاحتلال عام 1973، يعني بضرورة التفوق اليهودي في القدس، وأنه لا ينبغي السماح لنسبة السكان العرب بأن تتجاوز %26 مقابل 73% لصالح السكان اليهود.
تبنّت حكومة الاحتلال هذه التوصية الصادرة عن اللجنة الوزارية، ولاحقًا أكّدت جميع حكومات الاحتلال عبر اللجنة الوزارية لشؤون القدس على ذلك الهدف، باعتباره مبدأً موجِّهًا لسياسة التخطيط البلدي، وأساس الخطط الديموغرافية والحضرية التي تضعها الوزارات الحكومية.
الخطة الخمسية تشمل استثمارات في قطاعات مختلفة، منها قطاع التربية والتعليم بقيمة 800 مليون شيكل، ووظيفته الأبرز أسرلة وتهويد المناهج التعليمية
تجدد تشكيل اللجنة الوزارية برئاسة مئير باروش، في عام 2022، وقد أُحيلت إليها مهامها بإحياء ما يسمّى “القدس كعاصمة لإسرائيل”، والعمل على تطوير ورفاهية سكانها اليهود، والمسؤولية عن السلطات التي تخدم المدينة المحتلة.
توالت الخطط لاستيطان القدس الشرقية وتهويدها، حتى صادقت حكومة الاحتلال في أغسطس/ آب 2023 على الخطة الخمسية الثانية تحت عنوان “تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية في القدس الشرقية”، بقيمة تصل إلى 3.2 مليارات شيكل (838 مليون دولار)، بزعم “تطوير شرق القدس للأعوام 2024-2028”.
الخطة الخمسية وغيرها من الخطط التي يهدف إليها الاحتلال في القدس، تُعنى بأمر واحد: “كيف أمحي الوجود العربي في القدس، وأوحّد القدس كعاصمة إسرائيلية؟
ووفقًا لقرار حكومة الاحتلال، فإن الخطة الخمسية تشمل استثمارات في قطاعات مختلفة، منها قطاع التربية والتعليم بقيمة 800 مليون شيكل ووظيفته الأبرز أسرلة وتهويد المناهج التعليمية، وقطاع التوظيف في التنمية الاقتصادية بقيمة 506 ملايين شيكل “لدمج الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي”، وقطاع البنية التحتية بقيمة 833 مليون شيكل للدمج العمراني بين شرقي وغربي المدينة بما يعزز الزحف الاستيطاني.
وقطاع التخطيط القانوني وتصميم المباني العامة بقيمة 132 مليون شيكل لاستكمال سرقة ونهب الأراضي وتسجيلها كأملاك غائبين أو بأسماء ملّاك يهود مزعومين، وجمعيات استيطانية، وقطاع خدمات المقيمين بقيمة 900 مليون شيكل لتوسيع السيطرة المجتمعية على المقدسيين، إلى جانب السيطرة الأمنية بزيادة عدد أفراد القوات ومفتشي البلدية، وإضافة كاميرات مراقبة وإنشاء مراكز أخرى لقوات الاحتلال.
الخطة الخمسية وغيرها من الخطط التي يهدف إليها الاحتلال في القدس، تُعنى بأمر واحد: “كيف أمحي الوجود العربي في القدس، وأوحّد القدس كعاصمة إسرائيلية؟”، من خلال زيادة المستوطنات وعدد المستوطنين، وهدم بيوت المقدسيين ودفعهم إلى الرحيل، وفرض ضرائب باهظة عليهم ومنعهم من البناء وعدم الاعتراف بأي حقوق وصولًا إلى “أورشليم الكبرى”.