حينما صغت هذا المصطلح “العلمجة” لم يكن الأمر اعتباطيًا أو صدفة بل كان وليد ظروف قاهرة ألمت بالعلم و المجتمع معا، وهو الأمر الذي جعل عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران منذ ثلاث سنوات يقول بموت المجتمعات في كتابه الموسوم “نهاية المجتمعات”، حيث بات لا مكان للاجتماعي في وقتنا الراهن، بسبب موت المؤسسات الاجتماعية وعلماء الاجتماع معا.
فدورهما اصبح ضعيفا ومشتتا حسبه.. خاصة ما أظهرته التغيرات السياسية والاجتماعية مؤخرا في بلدان عربية ( الربيع العربي ) من هشاشة و خور دور علم الاجتماع من جهة والحركات الاجتماعية من جهة أخرى، ما أودى حسبه الى موت المجتمعات، بيد أنني لا أؤيد فكرته تلك تمام التأييد، و إن كنت اتفق معه بأن دور الاجتماعي بات باهتا إلا انني أرى من جهة مقابلة في تلك الأوضاع والتقلبات والتغيرات المجتمعية فرصة لعلم الاجتماع حتى يقود خطام المجتمعات.
سيطرت الفلسفة السياسية في عصر ما قبل الصناعة على الحياة السياسية و الاجتماعية و المجتمعية عموما، سيطر كذلك الاقتصاد فيما بعد في عصر الصناعة، و اليوم في عصر ما بعد الصناعة ( ما بعد الحداثة ) تظهر مساحة فارغة لن يستطيع ملئها علم سِوى علم الاجتماع
فكما سيطرت الفلسفة السياسية في عصر ما قبل الصناعة على الحياة السياسية و الاجتماعية و المجتمعية عموما ، سيطر كذلك الاقتصاد فيما بعد في عصر الصناعة ، و اليوم في عصر ما بعد الصناعة ( ما بعد الحداثة ) تظهر مساحة فارغة لن يستطيع ملئها علم سِوى علم الاجتماع ! في ضَل ما أسميه ب ” علمجة الحياة ” ، بل أن هذه التغيرات الجديدة منذ بدايات الربيع العربي و ما لحق بمجتمعاتنا من تداعيات مجتمعية للحراك السياسي ، تتطلب بالفعل حضورا قويا و فعالا لعلماء الاجتماع في بلداننا حتى يقفوا عند هذه التغيرات بالدراسة و التحليل و التنميط .
غير أننا نجد اليوم ، تراجعا لدور علم الاجتماع في فهم و تفسير الحقيقة الاجتماعية و أخص بالحديث مجتمعاتنا العربية الاسلامية، لسببين :
أولاً: عائد إلى النظرية في حد ذاتها، وارتباطها بالايديولوجيا الأجنبية، ما يجعل المؤسسات الاجتماعية خاضعة لعقل وآلية الآخر، استراتيجيا وعمليا معا!
ثانيًا: يعود إلى علماء الاجتماع والمتخصصين فيه، حيث ركنت العقول الى وكن الآخر فباتت تأتمر بأمره دون تمحيص ولا غربلة.. ولا إبداع ذاتي يحقق استفاقة و نهضة مجتمعاتها!
و لهذا وجب علينا حقا النهوض بعلم العمران البشري كما سماه المؤسس الأول العربي المسلم عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر (وهو ما يقابله علم الاجتماع الغربي الذي ظهر في القرن التاسع عشر ) فنفسر الحقائق الاجتماعية انطلاقا من واقعها الاجتماعي المحلي كما فعل ابن خلدون ! و ليس كما يفعل اليوم عرابدة الفكر الغربي في جامعاتنا المكلومة.. خاصة و أن موجات الإلحاد و ” الزندقة الفكرية ” قد تفشت و فاحت في جامعاتنا العربية الاسلامية فعدنا لا نجد ريحا لأصالة العلم الرزين والرصين، سوى كثرة الحطاط الفكري المتناثر بين جدران الجامعات، وعلى شفاه المتقولين علميا.. في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما يكون إلى إقامة نظرية جادة تحاكي و تشاكل واقعنا المحلي بكل خصوصياته الدينية والثقافية والجيوسياسية والاقتصادية.
غير متناسين ولا غافلين بهذا الخصوص، ذلك الدور الذي لعبه المفكر و عالم الاجتماع المصري احمد سمير نعيم رحمه الله رغم اختلافي معه في بعض المسائل تخص الأيديولوجيا الفكرية إلا أنه كان صَاحِب قضية، فهو الذي ناضل بعلم الاجتماع ومن أجل عِلْمُ الاجتماع معا، محاولا فهم وتحليل الأوضاع الاجتماعية للمجتمعات العربية برؤية محلية انطلاقا من الذات العربية.
وفي الوقت الذي شدد فيه عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم على أهمية و ضرورة أن يفسر كل ما هو اجتماعي إلا بالاجتماعي ، و هو الأمر الذي نراه صائبا الى حد ما ، إلا أنني لا أجد حرجا في القول بضرورة أن يفسر كل ما هو ( حياتي ) بالاجتماعي!
أي أن علم الاجتماع بامكانه تفسير كل ظواهر الحياة ذات الصِّلة به ، فقد نفسر السياسي بالاجتماعي كما قد نفسر الاقتصادي بالاجتماعي وهكذا.. فكل مظاهر الحياة المجتمعية اليوم يظهر عليها جليا و بوضوح لافت طغيان البعد الاجتماعي، ومرد ذلك إلى كون المجتمعات اليوم تعيش حالة من الغليان جعلت من البعد الاجتماعي بارزا وبقوة ، و لهذا أرى أن زمننا اليوم هو زمن علم الاجتماع بحق.
السياسة باتت تحركها الشعوب وسلطة الرأي العام كما أن اقتصاد اليوم بات تحركه المعلومات و سلطة المعرفة
فالسياسة باتت تحركها الشعوب وسلطة الرأي العام كما أن اقتصاد اليوم بات تحركه المعلومات و سلطة المعرفة ، و هنا يظهر طغيان البعد الاجتماعي على الحياة المجتمعية ، و هو الأمر الذي أراه جليا بأنه لا الفلسفة السياسية اليوم ولا الاقتصاد قادران على استيعاب الحراك السياسي و الاقتصادي دون تشخيص و تحليل و استشراف الاجتماعي ، ليكون علم الاجتماع بذلك هو العلم المطالَب اليوم بقيادة العقل المابعد حداثي حتى يضطلع بدوره الحقيقي و الرائد في تفسير حركة التاريخ بكل حيثياتها و أبعادها و تداعياتها .. و هو ما أسميته ب ” العلمجة ” .