هل يبقى الإنسان على ما هو عليه منذ الولادة وحتى الممات، أم تكون هوية الإنسان قابلة للتغيير و الجرح والتعديل ليبقى ما هو ثابتًا في الإنسان خلال تلك الفترة هو اسمه فحسب؟، ربما تواجه الهوية الإنسانية أسئلتنا الفلسفية عن كينونتنا، من نحن بالفعل؟ وربما يكون هذا السؤال هو أحد أبرز الأسئلة التي اجتهد الفلاسفة في الإجابة عنه من وجهات نظر مختلفة، فقد وُلد مع ولادة علم الفلسفة الشرقية والغربية، فما هي الهوية الإنسانية بالفعل؟
الهوية الإنسانية ببساطة وبشكل عام هي علاقة تعريف الأشياء من خلال “النفس”، أي ما يميز الشيء ويجعله فريدًا في كينونته، إلا أن الأمر ليس بتلك البديهية، ذلك لأن الأشياء تتغير ولا تبقى على حالها، ولأنها عندما تتغير بالفعل، تتحوّل إلى شيء مختلف تمامًا عما كانت عنه من قبل، لذا اختلف تعريف الفلاسفة لمفهوم “الهوية الإنسانية” من فيلسوف إلى آخر، إليك جولة سريعة فيما قاله الفلاسفة عن الهوية.
كان للفيلسوف الألماني “غوتفريد لايبنتس” في القرن السابع عشر رأي في مسألة الهوية عندما كان جدل الفلاسفة في ذلك الحين حول كيفية كون هوية الشخص ملائمة لما يفعله، أي كيف تكون هوية الطبيب متطابقة ومتسقة تمامًا مع هويته الشخصية، أو هل كل ما يفعله الإنسان بحكم ظروف عمله أو بيئته المحيطة يتسق بالفعل مع هويته الشخصية؟ كان رأي “غوتفريد” يفسر النظرية التالية في علم الفلسفة؛
تطابق الهوية وهي نظرية وجودية تنص على أنه لا يمكن أن يكون هناك شيئين أو كيانين منفصلين عن بعضهما البعض ويشتركان بجميع الخصائص.
غوتفريد لايبنتس
إلا أن الفلاسفة المعاصريين كان لهم رأي آخر في ذلك، فكان مثال التماثيل المنحوتة برهانًا لهم على نظريتهم المختلفة عن نظرية “تطابق الهوية”، حيث أن التماثيل المنحوتة من الطين في رأي “غوتفريد” لها نفس الخصائص وبالتبعية يكون لها نفس الهوية، إلا أن هوية الطين وهوية التمثال المنحوت منه لا يظل لهما نفس الخصائص إن تم تشكيل ذلك التمثال إلى شكل آخر، أو إذا تم تحطيمه على سبيل المثال، لأن في تلك الحالة ستظل هوية الطين واضحة المعالم، إلا أن هوية التمثال قد تغيّرت كليًا وتحولت إلي هوية أخرى ذات خصائص أخرى، لذا برز من هنا مفهوم التمييز بين الخصائص الأساسية والخصائص العرضية أو غير الجوهرية.
تعتبر الخصائص الأساسية أو الجوهرية ببساطة بأنها حجر الأساس الذي يشكل ما نرى الأشياء عليه في الصورة النهائية، أما الخصائص العرضية، هي الخصائص التي من الممكن أن يفقدها أو يكتسبها الشيء أو الإنسان، ومن السهل هنا تحديد الخصائص العرضية من الأساسية، فالخصائص العرضية لا تنفي الأساسية، فإنسان بلا أطراف يظل كما هو إنسان، لذا لا تكمن الإشكالية في الخصائص العرضية، بل تتمحور في تحديد هوية الخصائص الأساسية، ولكن يبقى السؤال هنا، ما هي الخصائص الأساسية؟
نظريات فلسفية عن الهوية الشخصية
هل تتغير هوية الإنسان بمجرد خسارته لخصائصه الأساسية التي ساهمت في تكوين هويته؟، كان الجدال واضحًا بين الفلاسفة، حيث اعتبر الكثير منهم أن الإنسان في طور التغيّر دومًا، لذا يمكن تبديل وتغيير الكثير من خصائصه بمرور الزمن، ولكن كان رأي البعض يشير إلى أن هناك رابطة معينة بكل ما يتم استبداله أو تغييره في هوية الإنسان لا يمكن تفسيرها بشكل مادي أو ملموس، تعددت النظريات فيما يجعلنا نحن من نكون بالفعل، وكان منها ما يلي؛
نظرية الجسد: تعبر عن استمرار ثبات الهوية الشخصية لأن الإنسان يظل في نفس الجسد من الميلاد وحتى الممات
إلا أن العلم اعترض على النظرية السابقة، فرغم أننا نظل في نفس الجسد من الميلاد وحتى الممات، إلا أن خصائص الجسد الواحد في تغير مستمر، فخلايا الدم الحمراء في تغير مستمر، وخلايا الجلد كذلك، لذا ليس بالضرورة أن يكون الجسد الذي انولد به الإنسان، هو نفسه نفس الجسد ذو نفس الخصائص الأولى.
جون لوك
ولكن كان رأي الفيلسوف “التجريبي” “جون لوك” مختلفًا عما سبق، فهو لا يعتقد بأن الخصائص الأساسية تُستَمد من جسد الإنسان، أي عارض “لوك” تمامًا نظرية الجسد، فكانت رؤيته أن ما يشكل هوية الإنسان بالفعل كل ما هو غير مادي، مشيرًا بذلك إلى وعي الإنسان، وبحسب وجهة نظر “لوك”، لا يشكل الإنسان وعيًا واحدًا خلال مراحل حياته، بل أكثر من واحد، وبالتبعية طور “لوك” نظرية الذاكرة بعد ذلك، حيث يرى أن في كل ليلة ينام فيها المرء، يتذكر وعيه كيف كانت حياته الليلة الماضية إلخ، ومنها جاءت “نظرية الذاكرة”؛ التي مازلت الفلسفة الحديثة تأخذها في عين الاعتبار؛
تتشكل هوية الإنسان بمرور الوقت وتظل في حالة مستمرة بسبب ارتباطها بالذكريات التي يقوم الوعي بتسجيلها في لحظات مختلفة، لتكون تلك الذكريات في النهاية متصلة ببعضها البعض.
ماذا إن فقد المرء ذاكرته، أو من نكون نحن بالفعل قبل استطاعتنا تذكر ذكرياتنا بالفعل، هل نكون بلا هوية شخصية في تلك الحالات؟، كانت تلك إحدى الاعتراضات الكبرى على “نظرية الذاكرة”، وربطها اليعض بأنها لا تختلف كثيرًا عن “نظرية الجسد” في أن المرء يقوم بتشكيل وعيه من خلال جسده ليقوما في النهاية بتسجيل الذكريات.
في النهاية يبني المرء حياته في البيئة المحيطة به على وعد غير مصرح به، في أنه سيستمر كونه نفس الشخص تمامًا بدون تغيير، وعلى أساسه تبدأ العلاقات في التشكل، وتبدأ الدائرة تتسع، حينها يعدك مديرك أن يمنحك الوظيفة الفلانية مادمت تستمر في العمل على نفس المنهاجية التي تعمل بها الآن، وكذلك العلاقات الاجتماعية، تتشكل وتتكون على أساس من نحن عليه الآن، ولكن ماذا يحدث إن تغير كل ما سبق، ولم يستطع البعض الوفاء بوعودهم في أن يظلوا محتفظين بنفس الهوية بعد الآن، لذا فالهوية الشخصية بالفعل قضية محورية في كيفية اختيارنا للطريقة التي نقرر بأن نعيش بها حياتنا فيما بعد، ولازلت الفلسفة مستمرة في فك أغوار غموضية الهوية الشخصية.