في سوريا فقط دائماً يتم إحياءُ القديم فقد عادت إلى الواجهة المناطق الآمنة في سوريا كمشروع جديد قديم مبنيٌ على رغبةِ الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي عطل العجلة الدبلوماسية الروسية التي كانت تسير بِخُطى متسارعة لقطف ثمار حملتها العسكرية ووضع يدها على كامل الجغرافية السورية بشكل منفرد يتبع لها جميع اللاعبين كأفراد ثانويين بحيث لا يُتخذ قرار بشأن سوريا إلا عبر بوابة موسكو
إصرار ترامب على تنفيذ وعوده التي أطلقها بحملته الانتخابية دفعته لقبول مقترح المناطق الآمنة من قبل نائبه مايك بنس إذ ليس ترامب هو صاحب الفكرة فقد كان رافضاً لها إلا أن بنس طرح إحياء هذه الفكرة لتُحقق عودة أمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط وتضع حداً للتفرد الروسي والغطرسة الإيرانية في المنطقة، إذ أن قسماً كبيراً من الجمهوريين مستاءٌ جداً من التفرد الروسي بالمنطقة
المناطق الآمنة في سوريا كما ذكرنا ليست بجديدة ويجب التنويه هنا أنها رغبة سورية بالدرجة الأولى منذ 2012 عقب استفراد النظام بقتل أبناء شعبه فبدأ يفتتح مسلسل التهجير القسري باقتلاع الجذور العربية من سوريا بالتعاون مع الحليف الأول له في طهران، ولنا أن نذكر هنا أن اتفاقاً قد جرى بين الأسد شخصياً مع ملالي طهران لإحداث تغيرٍ ديمغرافي عبر أداوت القتل والإجرام والإبادة الجماعية بحجة محاربة الإرهاب في أواخر 2012.
بدأ النظام وإيران وبضوء أخضر أمريكي بصناعة الذريعة الإرهابية وانتاجها في الساحة السورية لتكون فاتحة الطريق للتغير الديمغرافي
بالعودة للمنطقة الآمنة فإن أول من تبنى رغبة السوريين الجارة تركيا التي احتضنت ثلاثة ملايين سوري وكان موقفها آنذاك أكثر حدةً وصرامة في إسقاط نظام الأسد فهي قدمت لإدارة أوباما عدة مقترحات عن المنطقة الآمنة وأرادت ان تكون المنطقة مركزَ ثقلٍ للجيش الحر ونقطةَ انطلاقٍ لتحرير كامل المناطق السورية وهي بهذه الرؤية كانت ستحقق ضمان الأمن القومي بأسرع وقت ممكن وتنهي ملف الهجرة إلى أوربا وتحقق استقرار أمني في السياسية الداخلية والخارجية التركية والأهم الخلاص من خطر الأكراد في الشريط الحدودي التركي السوري.
ولكن الرئيس السابق أوباما وقف حجرة عثرة أمام المطلب التركي بل ساهم أوباما في زعزعة الأمن الداخلي التركي وأطلق يد روسيا بالمنطقة واشتعلت النار من جميع الجهات المحاطة بتركيا وهي على ما يبدو غاية الرئيس الأمريكي أوباما فتفسير سياسية المنع والنأي بالنفس مع الإدارة من الخلف وتهديد تركيا من الداخل والخارج أصبحت غاية أمريكية لأن المهمة الأساسية لم تكتمل وهي تدمير سوريا وتهجير شعبها ونهب خيراتها وثرواتها واتضح جلياً تداعيات سياسية أوباما فعندما حوصرت تركيا بالمخاطر انتقلت من موقف داعم للثورة السورية إلى موقف وسيط بين المعارضة وموسكو خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة
ومع قدوم ترامب وتحقيق نوع من التوازن بين تركيا و واشطن وإيران عادت العجلة الدبلوماسية تعمل على قدمٍ وساق وفي مقال سابق كنت قد ذكرت ماذا لو غير ترامب قواعد اللعب وبالفعل إن عودة الحديث عن المناطق الآمنة من قبل ترامب هي دليلٌ على استيائه من سلفه أوباما بإدارة الملف السوري وإعطاء وكالة سورية لموسكو وإطلاق يد إيران في المنطقة مقابل الحصول على الاتفاق النووي والذي وصفه ترامب بالاتفاق الخاطئ كما أن التفرد الروسي في سوريا لم يعد يحتمل من قبل بعض الجمهوريين المناهضين لسياسية أوباما، وإذا ما أراد ترامب عودة الهيبة الأمريكية فلا بُد من أن يحقق وعوده بالمناطق الآمنة سيما أن من سيدفع التكلفة الاقتصادية جاهزين حيث رحبت السعودية والإمارات بالفكرة وعلى ما يبدو هم جاهزون إلى دفع كامل التكاليف مقابل تنفيذ ترامب وعوده بردع إيران من المنطقة
لكن ليس كل ما يُقال يُصدق فما ظهر من حرب إعلامية بين واشطن وطهران يبقى في محض الكلام ومن يدري هناك احتمالٌ وارد أن تُبقي أمريكا إيران بُعبعاً أمام دول الخليج لاستنزافها
الحديث اليوم بات أقرب للتنفيذ عن ثلاثة مناطق آمنة في شرق الفرات وفي مناطق درع الفرات وفي جنوب سوريا تحت إشراف الأردن التي بدأت مؤخراً بتوجيه ضربات لتنظيم الدولة داعش في السويداء والمناطق الحدودية القريبة منها
والتساؤل الأهم ما الذي يُخبئ للشعب السوري من وراء المناطق الآمنة وهي ما تبدو اليوم واضحةُ المعالم على الأرض وقد تتحول إلى ملامح تقسيم نفوذ بشكل غير مباشر
وهو الأقرب للواقع الحالي في سوريا، فلنا أن نحذر من الخطر القادم من الغرب لأننا نرى بوضوح التحرك التركي في الشمال وإدارة روسيا لما عرفت بسوريا المفيدة إضافةً إلى الرعاية الأمريكية لمناطق شرق الفرات ودعم الأكراد، وحتى ترامب قدم دعماُ لقوات الأسد متبعاً بذلك نهج أوباما وبلا أدنى شك فأن ترامب يُخفي عدائه للمسلمين فهو برغبة المناطق الآمنة يريد وقف تدفق الهجرة وحجز السوريين السنة بمربع صغير وربما تكون إدلب هي المرتع الأخير لأهل السنة وقد يتم إبادتهم بمنطقتهم الآمنة فترامب لا يهتم للشعب السوري الذي نال من الظلم مالا أذنٌ سمعت ولا خطر على بال بشر
سوريا ليست بحاجة لمناطق آمنة مجتزأ تخضع لوصاية رباعية، نريد سوريا كلها آمنة مع خروج كافة المجرمين منها وبالأخص المليشيات الطائفية الإيرانية، سوريا بحاجة إلى تطهير كامل من كل دخيل وقف ضد ثورة العزة والكرامة ودعم الطاغية في دمشق
لا بد من العودة إلى سكة جنيف وتطبيقهِ بشكلٍ كاملٍ فهو الحل الأول والأخير لسوريا وبغيره لن تكون هناك لا مناطق آمنة ولا غيرها وإن فُرضت علينا فلن يكون في سوريا استقرار خاصة في المناطق التي لن تكون مشمولة بتلك الخطط الخبيثة من قبل دول إدارات الصراع
على الحكومات المستبدة أن تدرك أن هذه الثورة لن تنكفئ لأي حل غربي وخاصة أنكم تتفردون بمصيرنا من دون حتى الرجوع للشعب السوري وعلى المعارضة السورية أن تكفَّ عن إصدار بيانات القلق والتنديد وأن تعيد النظر بكامل برامجها قبل الذهاب إلى قاعاتٍ ومؤتمرات فارغة لم يخرج منها حتى الآن سوى الكذب الروس والعجز الدولي واقتضاب المزيد من أراضي وادي بردي وإدلب وحلب.