قال نائب وزير الخارجية الروسي، ألكسندر جروشكو، الأربعاء 6 سبتمبر/أيلول 2023، إن تركيا وافقت من حيث المبدأ على تولي أمر إيصال مليون طن متري من الحبوب الروسية إلى بلدان إفريقيا بسعر مخفض وبدعم مالي من قطر، مضيفًا في لقاء جمعه بالصحفيين “تم التوصل إلى جميع الاتفاقات من حيث المبدأ”.
أضاف جروشكو “نتوقع في المستقبل القريب الدخول في اتصالات عملية مع كل الأطراف للانتهاء من كل الجوانب الفنية الخاصة ببرنامج عمليات التسليم هذه”، فيما قال المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري: “نحن بصدد إبرام اتفاق لتزويد إفريقيا بالغذاء مجانًا، والإمدادات ستبدأ في غضون أسبوعين أو ثلاثة وليس شهرين أو ثلاثة”.
يأتي هذا التحرك بعد انسحاب موسكو من اتفاق تصدير الحبوب الموقع مع كييف والمعروف إعلاميًا بـ”البحر الأسود” في يوليو/تموز الماضي، الذي كان يسمح لأوكرانيا بشحن الحبوب من موانئها على البحر الأسود لدول العالم بعد التداعيات الكارثية للحرب الروسية الأوكرانية.
استهداف دول إفريقيا دون غيرها بالحبوب في الوقت الذي رفض فيه الجانب الروسي تمديد اتفاق التصدير الموقع قبل ذلك مع أوكرانيا، رغم الضغوط الدولية والمناشدات الإنسانية، فتح الباب أمام تفسيرات عدة لهذا التوجه وسط اتهامات مباشرة لموسكو بمحاولة ابتزاز دول القارة السمراء وفق المعادلة السياسية: القمح مقابل الولاء.. فهل ينجح بوتين في تمرير تلك المعادلة مع الأفارقة؟
تبرير الانسحاب
احتضن قصر “دولمة بهجة” التاريخي بمدينة إسطنبول التركية، في 22 يوليو/تموز 2022، مراسم التوقيع على وثيقة “مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية”، بين وزيري دفاع تركيا خلوصي أكار وروسيا سيرغي شويغو، ووزير البنية التحتية الأوكراني ألكسندر كوبراكوف، وذلك في حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
الاتفاق لاقى حينها استحسانًا كبيرًا لدى الأوساط الدولية التي فسرت تلك الخطوة بأنها بادرة حسن نوايا من موسكو بعدما وصل نحو 37 مليون شخص إلى مرحلة من “الجوع الشديد” بسبب تبعات الحرب، وفق برنامج الأغذية العالمي الذي حذر من أن هذا الرقم قابل للزيادة إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
لكن بعد عام واحد فقط، أعلنت موسكو انسحابها من الاتفاق ورفض تجديده، وفي 17 يوليو/تموز الماضي قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “لقد انتهى بالفعل اتفاق ممر الحبوب، وتم إيقافه. ستعود روسيا فورًا إلى الاتفاقية بمجرد تنفيذ شروطها، فلم يتم الوفاء بالقسم المتعلق بروسيا في الاتفاقية”.
القرار كان صادمًا للجميع لما قد يترتب عليه من تفاقم لأزمة الأمن الغذائي العالمي لا سيما في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الحبوب الروسية الأوكرانية التي تشكل قرابة ثلث الإنتاج العالمي من الحبوب، الأمر ازداد خطورة مع التغيرات المناخية القاسية التي ألقت هي الأخرى بظلالها القاتمة على خريطة الغذاء في العالم.
تعرضت موسكو وحكومة بوتين حينها لانتقادات لاذعة، إلا أن الأخير سعى إلى قلب الطاولة عبر تصريحات حاول من خلالها إلقاء الكرة في ملعب الغرب وأنه المسؤول عن فشل هذا الاتفاق ووضع العراقيل أمامه، في المقابل إظهار موسكو في صورة الملاك المتمسك بالاتفاق واستمراره، وفي لقائه بالقادة الأفارقة المشاركين في أعمال القمة الإفريقية الروسية التي أقيمت في سان بطرسبرغ يومي 27 و28 يوليو/تموز 2023، قال بوتين إن الغرب هو المسؤول الأول عن عدم تمديد الاتفاق.
اتهم الرئيس الروسي حكومات الغرب باحتكار الحبوب المصدرة من أوكرانيا، لافتًا إلى أن أكثر من 48 مليون طن من القمح، ما يعادل تقريبًا 70% من الحبوب الأوكرانية التي صدرت بموجب الاتفاق، تذهب للدول الأوروبية الثرية، فيما يذهب الفتات إلى البلدان الفقيرة المحتاجة في إفريقيا وغيرها، مؤكدًا أن دولة فقيرة مثل السودان لم تتلق إلا 3% فقط – أو أقل – من شحنات القمح.
#بوتين: الغرب منع تنفيذ الجزء المخصص لروسيا في اتفاقية تصدير الحبوب#العربية pic.twitter.com/HRbxmanTs8
— العربية (@AlArabiya) September 4, 2023
مغازلة الأفارقة
رغم الانسحاب من الاتفاق، أعلنت موسكو أنها ستصدر مليون طن متري من الحبوب إلى بلدان إفريقيا، إما بسعر مخفض وإما بالمجان في ظل الدعم المالي القطري لتلك الصفقة التي تستهدف في المقام الأول مغازلة الأفارقة، الحكومات والشعوب، والعزف على وتر معاناتهم المستمرة بسبب نقص الغذاء المتفاقم.
بوتين خلال قمة سان بطرسبرغ الإفريقية الروسية قدم حزمة من الوعود للقادة الأفارقة المشاركين، لافتًا إلى أن بلاده ستقدم عشرات آلاف الأطنان من الحبوب في غضون فترة قصيرة لا تتجاوز الشهور، وأنها ستحاول تنفيذ ذلك رغم العقوبات الغربية المفروضة عليها عبر بعض الوسطاء، في إشارة إلى تركيا وقطر.
حاول الرئيس الروسي تغيير قواعد اللعبة الغذائية في القارة الإفريقية، مخاطبًا الشعوب الإفريقية بتجاهل الحبوب الأوكرانية بل والقادمة من الغرب كذلك، والاعتماد على الحبوب الروسية التي ستكون البديل الأكثر جاهزية لسد رمق الأفارقة، مطمئنًا إياهم بوفرة الإنتاج وزيادة معدلات التصدير، حيث صدرت روسيا العام الماضي فقط 60 مليون طن من الحبوب، أكثر من 65% منهم من القمح.
كما تعهد بوتين خلال هذا اللقاء بتقديم القمح لبعض البلدان الإفريقية الفقيرة بالمجان، وهي كما أسماها: بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا، حيث خصص لها ما بين 25 – 50 ألف طن من الحبوب لكل دولة خلال الأشهر الأربع المقبلة.
اللافت في هذا التناقض بين الانسحاب من الاتفاق واستهداف الأفارقة فقط بتمديد تصدير الحبوب، أن روسيا تسعى بخطوات متسارعة إلى تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، مستغلة تراجع الحضور الغربي والرفض الشعبي له، هذا بخلاف الضربات التي تلقاها خصومها الاستعماريون الغربيون كفرنسا على سبيل المثال في النيجر والغابون وبوركينا فاسو وتشاد ومالي.
الحبوب مقابل الولاء
في نهاية يوليو/تموز الماضي أي بعد أيام قليلة من الانسحاب من اتفاق الحبوب مع أوكرانيا شنت القوات الروسية هجومًا عنيفًا على ميناء أوديسا الأوكراني وبعض الموانئ التي كانت تعتمد عليها كييف في تصدير الحبوب، الخطوة التي أماطت اللثام عن الأهداف الحقيقية من وراء عملية الانسحاب وأسقطت الأقنعة المزيفة التي طالما حاول الروس ارتدائها في أثناء مخاطبة الرأي العام العالمي إزاء هذا الملف.
وبعيدًا عن التفسيرات العدة لقصف تلك الموانئ، لكنها تأتي في المقام الأول في إطار قطع الطريق أمام العالم بشأن تصدير الحبوب الأوكرانية، الأمر الذي يحول روسيا إلى اللاعب الأبرز في هذا المضمار، ما يساعدها على ممارسة وتعميق سياسة الابتزاز المتمرسة فيها منذ عقود طويلة.
وكانت القارة الإفريقية، التي تحولت مؤخرًا إلى قبلة القوى الاستعمارية والاقتصادية الكبرى لما تحتضنه من ثروات تعدينية وطبيعية تمثل ضلعًا أساسيًا في اقتصاد المستقبل، على رأس ضحايا موسكو الجدد، وهو ما يحاول بوتين إسراع الخطى بشأنه، وذلك إعلاءً لمعادلة: الغذاء مقابل الولاء.
الكاتب المتخصص في الشأن الاقتصادي مصطفى عبد السلام، يرى أن روسيا بضرب صوامع القمح الأوكراني بالمدافع والقنابل إنما تمارس أبشع أنواع الابتزاز ضد الفقراء، على حد قوله، لافتًا إلى أن استهداف إفريقيا تحديدًا بتقديم الحبوب بأسعار مخفضة وبالمجان إنما هو في الحقيقة توظيف لمعاناة شعوب تلك البلدان وتوظيف أزمتهم الغذائية والاقتصادية لتوسيع النفوذ الروسي هناك.
بوتين: يجب تصدير الحبوب الروسية إلى كل العالم بشكل عادل وأن تكون الأسعار عادلة. الحبوب يجب أن تذهب إلى تركيا أولاً ثم يجري إرسالها إلى الدول الفقيرة التي تحتاج إليها pic.twitter.com/P0RUTgw909
— TRT عربي (@TRTArabi) September 4, 2023
وأوضح عبد السلام في مقال له أن موسكو تحاول من خلال تلك الإستراتيجية ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول تشويه صورة الغرب، أمريكا وأوروبا، لدى الشعوب الإفريقية من جانب، وتلميع صورتها من جانب آخر، لافتًا إلى أن الخطاب الرئيسي لبوتين في قمة سان بطرسبرغ يتمحور حول أنه “لا أحد من القوى الكبرى يهتم بالفقراء والمعدمين في العالم، فالولايات المتحدة تلقي القمح في البحار والمحيطات خوفًا من تراجع سعره في الأسواق العالمية، وتحرم الفقراء منه”، وفي المقابل ستكون روسيا هي البديل الأكثر فائدة للأفارقة.
ربما تعكس التطورات الأخيرة التي شهدتها القارة الإفريقية لا سيما في منطقة الساحل والغرب بعض الأهداف التي نجحت موسكو في تحقيقها من خلال تلك الإستراتيجية التي تهدف من خلالها إلى شراء ولاء حكومات دول القارة مقابل الدعم الغذائي والعسكري، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال تصريحات الانقلابيين في النيجر والغابون، التي جاءت في مجملها في صالح موسكو مقارنة بالخطاب العدائي إزاء المعسكر الغربي.
ثمة تغيرات جديدة حوتها مقاربات روسيا في إفريقيا خلال الآونة الأخيرة، على رأسها تعزيز النفوذ المتصاعد بطبيعة الحال، استفادة من مستجدات المشهد التي تصب في صالح موسكو بطبيعة الحال، بجانب مساعي الروس تصدير الأزمة وخلق ساحات معارك جديدة في الداخل الإفريقي بما يخفف الضغط على الساحة الأوكرانية، وهي المقاربة التي إن لم تحقق نجاحًا في الوقت الراهن لكن المؤشرات في مجملها تشير إلى أنها تسير فيها بخطوات مقبولة.
من الممكن أن تحرز روسيا في الوقت الراهن أهدافًا سريعة في مرمى الأفارقة عبر معادلة الغذاء مقابل الولاء، مستفيدة من فوضوية المشهد الحاليّ، غير أن تلك المعادلة لها شروط وتواجهها تحديات عدة وإلا سينقلب السحر على الساحر كما حدث مع فرنسا وغيرها، هذا بخلاف أنها ذات كلفة عالية وقد تتطلب تضحيات كبيرة ربما لا تقوى موسكو عليها في المستقبل في ظل معاركها المفتوحة على أكثر من جبهة.. فإلى أي مدى يمكن للروس الاعتماد على تلك السياسة؟