الأمة التونسية؟
أقام الزعيم بورقيبة دولته على أن تونس هي الأمة التونسية منطلقًا من أنها ليست عربية أي ليست من جسم الأمة العربية الكبير بما يجعلها ضمنًا منفصلة عن جسم الأمة الإسلامية الأعظم، فالرابط اللغوي الثقافي العربي وإن أقره الدستور وفي المدرسة إلا أنه لم يشكل عنده أساسًا لبناء هوية قطرية ضمن أمة كبيرة توحدها اللغة، واللغة كانت دومًا أساسًا ثابتًا في بناء الأمم المتجانسة، وإذ وضعت اللغة العربية كرابط ثانوي فإن الإسلام ليس ضروريًا للتأسيس، وقد صرف جهدًا كبيرًا لترسيخ هذه الفكرة بواسطة جهازه الأيديولوجي (الثقافة والإعلام والمدرسة).
لقد كرر الزعيم دومًا أن باريس أقرب إليه من القاهرة ولذلك جعل أفئدة التونسيين تهوى إلى باريس لا إلى الشرق العربي، وقدم اللغة الفرنسية في التعليم والإدارة وبنى الاقتصاد على السياحة قائلاً إن على التونسيين تعلم الحضارة من السياح، حتى إنه فرض على التونسيين ما لم تفلح فرنسا في فرضه من ذلك إيقاف التعليم الديني بجامع الزيتونة الذي كان قد تحول إلى جامعة وتفكيك الأحباس (الأوقاف) وتأميمها باسم بناء الوحدة الوطنية التي لا يجب أن تخترقها المدارس المتعددة.
وإذا كان بناء الوحدة الوطنية يتطلب توحيد المدرسة فعلاً (وهو أمر يقره الكثيرون) فإن استبعاد اللغة العربية وتلقين تعاليم الدين الإسلامي إلا في حدود دنيا كان مضرًا بهذه الوحدة لأن طلب الانتماء إلى العربية وإلى الإسلام ظل يذكر بنفسه في كل مناسبة عبر العنف السياسي والاحتجاج المدني المتواصل (انظر كتابنا بشأن عملية قفصة العسكرية الصادر بتونس سنة 2015).
لقد بنى الزعيم جهاز حكم لكن المواطن تحت هذا الجهاز لم يفلح في تعريف نفسه فلا هو باريسي خالص ولا هو عربي خالص ويعيش أزمة إيمان وعقيدة لا يعرف كيف يعالج فقه حياته اليومي ولا يفلح أن يكون علمانيًا حسب المواصفات الباريسية.
قامت الأمة التونسية في ذهن الزعيم أولاً ثم تسربت إلى بعض أنصاره، وظل هذا موضوع صراعًا في تونس واستثمرت فيه الأحزاب المعارضة باستمرار، فظلت شرعية الزعيم مهزوزة وظل سؤال الهوية مطروحًا لا يعالج، لكن الشرخ بين التونسيين اتسع.
وصل التونسيون إلى أفق القرن الـ21 شعبين منفصلين، شعب يجد هواه في باريس وشعب يخفق قلبه للقاهرة ودمشق وتسكن فلسطين وقضيتها وجدانه الحميم
في فجر ثورة 17 ديسمبر 2010 عاد سؤال الهوية وسؤال الانتماء وانفجر الصراع بين الأهواء المتناقضة، هيمن الفرح بالحريات فأجل السؤال لفترة قصيرة لكن عند العودة إلى برنامج التأسيس عاد الحديث إلى مسألة الهوية بعمق وحِدّة جعلت منه سؤالاً حارقًا وسبب ذلك تعميقًا للشرخ بين التونسيين واعتقد أنه مؤهل للاتساع وقد يتحول إلى سبب نزاع أهلي لا يمكن التنبؤ بنهايته.
سؤال الهوية أعمق من الاستثمار السياسي الظاهر
تجري منذ الثورة (والحقيقة أن المعركة أقدم من ذلك) حرب ضروس داخل وزارة التربية والتعليم بين تيار الهوية وتيار التحديث، يبدو السؤال في ظاهره سياسيًا بين تيار إسلامي وعربي وتيار فرانكفوني، لكن هذا هو غبار المعركة أما المعركة فأعمق وحلّها ليس في كتاب مدرسي يحاول التوفيق بين متناقضات ليستمر العمل بالتعليم في الحد الأدنى.
انكشف أن التونسيين ونتيجة لما فعله الزعيم لم يعودوا متفقين بشأن هوية البلد ومستقبله
لقد انكشف أن التونسيين ونتيجة لما فعله الزعيم لم يعودوا متفقين بشأن هوية البلد ومستقبله، ومن هنا خطر الاحتراب الأهلي الماثل (وما العلاج بالتوافقات السياسية إلا مراهم)، فرغم ما ظهر في أول الثورة من انسجام عاطفي كبير بين فئات مختلفة اجتماعيًا إلا أن كل طرف شرع في (أو عاد إلى) تأليف روايته لهوية البلد والروايتان متناقضتان.
تقوم رواية/ سردية التحديث على نفس العناصر التي ألف بها بورقيبة أمته وحاول فرضها، ومن هذه العناصر ذكرًا لا حصرًا:
– تمجيد تاريخ قرطاج التي تصير في الرواية إمبراطورية ديمقراطية متغلبة ومبدعة في التجارة والزراعة ولم تنهزم في الحروب.
– القفز من تاريخ قرطاج إلى تاريخ بورقيبة أي المرور الطائر فوق كل تاريخ الاستيطان الروماني وخاصة فوق التاريخ الإسلامي البغيض الذي يصير في هذه الرواية استعمارًا عربيًا، ومن أجل تأثيث هذه الفترة الفارغة (في الرواية) يتم تمجيد الحضارة (هكذا) البربرية وزعيمتها الكاهنة وغض الطرف عن الحروب التي خاضها البربر مع قرطاج (لم يتم استعمال كلمة الأمازيغ في تونس إلا بعد الثورة)، كما يتم غض الطرف عن الهزائم الحربية التي أودت بقرطاج، (وعلى سبيل التندر نذكر بأن أنصار بورقيبة يحتفلون كل سنة بهزيمة حنبعل أمام شيبيون القائد الروماني في معركة زاما التاريخية التي انتهت بحرق قرطاج).
– بناء مشروع الأمة على فكر الزعيم الفذ وإلغاء كل جهد خلاف جهده، وضمن هذا الجهد الخارق يتم إعلاء نمط المجتمع التونسي الذي يتكلم الفرنسية ويكتب بها ويعيش آخر موضات الفكر والفن الباريسي في مواجهة الفكر الإسلامي المتخلف واللّغة العربية الميتة ويتم في نفس الرواية إكبار القرب من باريس والبعد عن القاهرة (حدثت معركة مع الناصرية زمن التأسيس لا تزال آثارها ماثلة في السياسات والأفكار).
يؤلف هذا الخطاب رواية (سردية) كاملة يسميها النمط المجتمعي التونسي المتميز بتقدميته على التخلف العربي عامة وعلى أساسها يجاز القول إن الإسلاميين (وضمنيًا العروبيين) ليسوا تونسيين لأنهم يطرحون مشروعًا متخلفًا، وبالتالي يجب منعه من الظهور والعمل أو المجادلة في الهوية التونسية الراسخة ضمن الفكر البورقيبي.
وعلى سبيل الاستغراب نذكّر أن تيار التحديث (الذين يسمون في تونس بحراس النمط) يساندون في هذه الفترة بالذات من كل الشرق نظام الانقلاب المصري ونظام بشار (جزار صيدنايا) وحفتر الليبي استنصارًا بهم على تيار الإسلام السياسي عامة وعلى ممثله التونسي خاصة، وفيما عدا ذلك لا يرحب هذا التيار بأي شيء قادم من الشرق العربي فهو في الأصل مصدر التخلف.
خطاب الهوية ومحمله الاجتماعي؟
من يدافع عن النمط التونسي ومن يعاديه من التيارات السياسية والفكرية؟ ومن يزعم الدفاع عن الهوية العميقة للبلد؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تكشف ارتباكًا كبيرًا في المواقع والاختيارات بما يدل على حيرة أكبر تخترق النخب وتشتت الشعب بين خطابات متناقضة وهذا أهم ميراث تركه الزعيم ولم يفعل خليفته الانقلابي إلا أن عمقه بأسافين عميقة استعمل فيها أجهزة الدولة لفض نقاش فكري وسياسي.
يعتقد البعض أن حملة خطاب تميز النمط التونسي هم من الأرستقراطية القديمة الحضرية التي اختلطت كثيرًا بالمستعمر الفرنسي، وأن خطاب الهوية خطاب صادر من عمق الشعب الريفي المفقر، وهذا خطأ كبير
يعتقد البعض أن حملة خطاب تميز النمط التونسي هم من الأرستقراطية القديمة الحضرية التي اختلطت كثيرًا بالمستعمر الفرنسي وأن خطاب الهوية خطاب صادر من عمق الشعب الريفي المفقر، وهذا خطأ كبير، فالأمر هنا مختلف عن الصراع التقليدي الذي كان سائدًا قبل الاستعمار، مدينة ضد ريف أو حضر ضد بدو أو حواضر ضد قبائل، انكسرت هذه الثنائية مع التحول إلى اقتصاد السوق، فتراجعت أرستقراطية المدن وخرجت من دائرة القرار الاقتصادي لكنها تبنت سلوكًا محافظًا ومنغلقًا (معاديًا لليسار وللإسلاميين في نفس الوقت)، ثم ظهرت طبقة جديدة وخاصة بعد السبعينيات ليس لها مشاريع ثقافية أو فكرية وإنما هي صائدة ثروات بكل السبل بما فيها بل بالأساس بسبل فاسدة خارج القانون، وهي طبقة من الأثرياء الجدد تأكل أكثر مما تفكر.
في فترة السبعينيات خاصة استشرت أيديولوجيا اليسار الحركي (الثوري) الذي تبنى أطروحات التحديث العلماني خاصة في المسألة الدينية واللغوية (القومية)، حملة هذا الفكر في غالبهم منحدرين من الأرياف والمدن الصغرى والأحياء المحيطة بالعاصمة أي ممن ارتقى بالتعليم إلى الوظيف العمومي والمهن الحرة (محاماة وطب)، لم تتمسك هذه الفئات بالثقافة الشعبية المنتمية إلى هوية عربية إسلامية تقليدية (غير محينة ولا متجددة) فطعنت في شرعية استمرارها (كنصرة الدارجة على الفصحى) لكنها لم تفلح في تقديم بديل يرضي حملة الهويات التقليدية فحصلت قطيعة دفعت اليسار إلى موقع هجين وغريب فهو منحدر من طبقات شعبية (أصول فقيرة) ويحمل نظريًا هموم هذه الطبقة اجتماعيًا ويناضل لإنصافها لكنه يعادي ثقافتها الأصيلة ويحاربها فيغترب عنها، فينتهى رديفًا لطبقة الأثرياء الجدد يدافع عن ثقافتهم المستحدثة التي يمكن القول إنها “لا ثقافة”.
في هذا المشهد يظهر الإسلاميون بأطروحات التجديد الإسلامي (البعض يرى أن ذلك أمر طبيعي ومنطقي في ظل تغييب الإجابة عن سؤال هوياتي عميق تم طمسه) التي تبلورت خاصة في الشرق، والإسلاميون مثل اليسار قادمون من نفس المنحدرات الاجتماعية وارتقوا بالمدرسة إلى ما يمكن وصفه بالطبقة الوسطى (فهم عمليًا جسم اجتماعي واحد مع اليسار) لكنهما في عداء ثقافي غير قابل لأية مصالحة.
المسارات السياسية لما بعد السبعينيات جعلت طبقة الأثرياء الجدد وفئات اليسار الثقافي خاصة (فئة خصوصية داخل اليسار تربت داخل الحزب الشيوعي التونسي وعلى هامش الجامعات الفرنسية وقليل منها يجيد اللغة العربية أو يحبذ استعمالها وهم حراس النمط الأرثوذكسيين فعلاً) واليسار الحركي عامة تتحالف ضد الإسلاميين وتوظف أجهزة الدولة ضدهم خاصة بواسطة رجل أمن جاهل وجشع ليس له رزق من الثقافة.
لكن حسم معركة الهوية لم يتم بالقتل، فظل السؤال معلقًا في انتظار عودة الإسلاميين فلما أعادتهم الثورة عاد السؤال وعاد الصراع: أي ما هوية للمجتمع التونسي التي يمكن الاتفاق حولها؟
الحسم القانوني الذي حصل في نص الدستور لم يكن مقنعًا لأحد فهو أقرب إلى التوافق السياسي (الذي يدير معركة قصيرة) منه إلى التوافق الثقافي العميق والمطلوب
الحسم القانوني الذي حصل في نص الدستور لم يكن مقنعًا لأحد فهو أقرب إلى التوافق السياسي (الذي يدير معركة قصيرة) منه إلى التوافق الثقافي العميق والمطلوب (المثير للسخرية في الأمر أن الصراع انتهى حيث أراد الزعيم المؤسس أي صيغة الفصل الأول من الدستور التي طمست سؤال الهوية منذ البداية ولم تعالجه).
عودًا على بدء
تونس لا تعرف نفسها والتونسي يجيب بشكل انتقائي عن سؤال الهوية، يصر اليسار على نمط تحديث ثقافي لائكي فرنسي بالخصوص (لا مجال هنا للخوض في أنماط اللائكية الغربية المختلفة) فالنمط الفرنسي هو الذي يغري النخب التي تعلن تبني البورقيبية، أما الإسلاميون المشغولون أولاً باندماج سياسي ينهي الإقصاء فيناورون سياسيًا على حساب مشروعهم الأول، فيما يحشر العروبيون أنفسهم داخل جسم اليسار السياسي حتى إنهم يتهاونون في الدفاع عن اللغة العربية وهي إحدى عناوين مشروعهم الثقافي والسياسي.
التونسي يعلن عروبته إذا فتح الحديث عن فلسطين لكنه يرفض تعريب المدرسة، ويبرر الانفتاح (ضمنيًا يعتقد أن عربيته قاصرة دون العلم والمعرفة) اللائكي عندما يتعلق الأمر بالتدين والتعبد، والتونسي يصبح إسلاميًا محافظًا (ليس فقط مسلمًا) عندما يستشعر تحررًا أخلاقيًا في أسرته (ضمنيًا يعتبر الحرية بوابة فساد أخلاقي)، وهكذا يهرب من تحمل نتائج الانتماء إلى جهة محددة (نمط ثقافي واضح)، فلا هو عروبي مسلم بالكامل ولا هو علماني لائكي بالكامل، إنه يركب هوية من قطع مختلفة ويرتجل الإجابة دون إقناع بما يذكر دومًا بمشروع الزعيم الأول الذي يخطب من فوق منبر عقبة بالقيروان عن ضرورة الإفطار في رمضان لتحفيز التنمية الاقتصادية.
هل كان الزعيم المؤسس يريد هذه النهاية لدولته ومشروعه؟
التونسي الآن وهنا مخترق بخطابات متناقضة يتخير منها الأنفع في اللحظة، يمكن لهذه الخلطة أن تفسر لنا الكثير من سلوكه السياسي اليومي كالهجرات الحزبية واستسهال الهجرة القانونية وغير القانونية إلى حيث توجد أسباب رزق أو سهولة أن يحرم تونسي تونسيًا آخر من الانتماء لأنه مختلف عنه في التفكير، وربما يفسر لنا المغالاة اليومية في إعلان الانتماء إلى الوطن لتغطية سهولة التعامل مع أعدائه حيث يمرح السفراء المختلفون طولاً وعرضًا في البلد دون أن يردعهم أحد أو يشعرهم بسيادة البلد واستقلاله بل يرحب بهم البعض في المدارس والساحات ويتبادلون معهم صور السلفي بفرح غامر.
هل كان الزعيم المؤسس يريد هذه النهاية لدولته ومشروعه؟ ليست هذه جردة في النوايا ولكنها قراءة في النتائج، لقد كان سؤال الهوية والانتماء مطروحًا قبل الاستقلال وقام الزعيم بفرض إجابته وطمس أراء مخالفيه فتأجلت الإجابة الشافية حتى اللحظة واثمرت احتمالات حرب أهلية ماثلة الآن في أفق قريب)أكثر مما أثمرت هوية دولة مستقرة ومرضية للمجتمع، ولنا عودة إلى تفريعات أخرى للنتائج.