الهبوط الأمريكي ضمن النظام العالمي الجديد الآخد في التشكل كان متوقعًا فهو في تقدير البعض ومنهم الراحل محمد حسنين هيكل بدأ منذ اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، عند التمام يبدأ النقصان ولم تكن أمريكا لتفلت من آراء ابن خلدون عن مراحل صعود واندثار الإمبراطوريات.
إلا أن الاختلاف كان في مدى الهبوط وكيفية إدارته، كما أن تسريع الهبوط المتوقع فى عهد ترامب لا يكفي للتنبؤ بسمات المرحلة القادمة في النظام العالمي، هذه المرحلة التي تشهد تحولات القوة من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب ومن الدولة إلى الميادين العامة ومن الجيوش النظامية الكبيرة إلى الفاعلين من غير الدولة من الحركات المسلحة التي أخذ بعضها طابع حركات التحرر الوطني ومقاومة الإمبريالية، كما تشهد صعود الحركات اليمينية القومية الشعبوية في أوروبا وأمريكا، والتي ستشكل بابتعادها عن العولمة وميلها إلى العزلة الدولية مكونًا مهمًا في النظام العالمي الجديد (حركة البريكست في بريطانيا نموذجًا).
يعطينا انفصال بنغلاديش عن باكستان لمحة مهمة عن البراجماتية في السياسة الخارجية الأمريكية
الهبوط لا يعني الرحيل عن المنطقة، بل قد يصاحب الهبوط زيادة الوجود العسكري أو استخدام مفرط للقوة العسكرية، كما أن الرحيل يعني ببساطة أن تترك إسرائيل لتواجه مصيرها مع العالم العربي (المتهاوي بالطبع)، أو أن تكون إسرائيل نفسها ضمن حقائب الرحيل، وهو شيء من الفانتازيا السياسية.
الاعتقاد بأن هبوط القوة الأمريكية وحده هو سبب النكبات الملمة بعالمنا العربي تفسير جزئي غير دقيق، لا يمكن استبعاد البراجماتية في الفكر السياسي الأمريكي، لأنها كانت ببساطة أساس قيام الدولة الأمريكية بديلًا عن اللغة والتاريخ، المصلحة هى من وحدت الشعب الأمريكي وقامت عليها فكرة السوق لتتوسع الدولة الأمريكية مستبطنة الفكر البراجماتي مجددًا على الأرض والبحر.
متى ثبتت منفعة الأخلاق والمبادئ المعتنقة ثبتت خيريتها، المبدأ الذي تترتب عليه نتائج مضرة هو غير خير، فلنجرب ثم نعتقد، الأخلاق والمثل ليست قبلية تعتنق بغض النظر عن النتائج، هكذا كان جون ديوي ووليم جميس وغيرهم من رواد الفلسفة البراجماتية ينادون.
يعطينا انفصال بنغلاديش عن باكستان لمحة مهمة عن البراجماتية في السياسة الخارجية الأمريكية، فلم تكن أمريكا لتستفز باكستان (العراب المهم في الانفتاح على الصين) وتوافق على المطلب البنغالي سنة 1971، مهما علت حدة أصوات حقوق الإنسان، بل إنها رفضت إدانة باكستان على الانتهاكات الإنسانية، لكن ما إن تحقق هدف الانفتاح على الصين، حتى تحقق انفصال بنغلاديش وإعلانها دولة مستقلة.
من المنطقي أن نلمح ارتباطًا بين الفلسفة البراجماتية ومبدأ القيادة من الخلف الذي اعتنقه أوباما، فحيثما يوجد احتمال التورط والاستنزاف يوجد الحذر والتوجيه من بعد وتشتد دوافع المصلحة الذاتية متجاهلة نداءات المبادئ والشعارات.
يعود أصل هذا المفهوم إلى الراحل نيلسون مانديلا، غير أننا نرى أنه استلهام لمبدأ “الفتنمة” الذي أرساه نيكسون والذي بموجبه انسحبت القوات الأمريكية تدريجيًا من فيتنام ودعمت بناء جيش فيتنامي يتصدر الواجهة وفي نفس الوقت يكون لها النفوذ والسيطرة عليه.
نرى أيضًا أن مبدأ القيادة من الخلف يرتبط بكون الولايات المتحدة قوة بحرية هائلة (تالاسوكراتيا) تسيطر على طرق المواصلات البحرية، وبالتالي فهى تترك أمر القوات البرية لحلفائها كما في ليبيا (عند إسقاط القذافي) وسوريا واليمن والعراق، وتدعمها دبلوماسيًا واستخباراتيا وعسكريًا عن طريق القواعد العسكرية والطائرات دون طيار.
يعتمد تأثير دونالد ترامب في السياسة الخارجية المرتقبة للولايات المتحدة على قدرته على تركيز سياسات الدفاع والعلاقات الدولية والأمن القومي في البيت الأبيض مثل ما فعل سلفه الذي أغضب الكونجرس والبنتاجون
نفس البراجماتية تفسر توجه أمريكا نحو الشرق الآسيوي، ضمن نيتها حصار الصين عبر استراتيجية المرتكزات التي تعتمد على ثلاث دول، تركيا وباكستان وإيران، وربما يكون الاتفاق النووي مع الأخيرة له علاقة بتلك الاستراتيجية.
في جميع الأحوال يعتمد تأثير دونالد ترامب في السياسة الخارجية المرتقبة للولايات المتحدة على قدرته على تركيز سياسات الدفاع والعلاقات الدولية والأمن القومي في البيت الأبيض مثلما فعل سلفه الذي أغضب الكونجرس والبنتاجون، كما أننا لا نعلم مدى النفوذ الذي ستمتلكه أمريكا في المنطقة في الفترة المقبلة، بعدما رأينا جلوس روسيا وتركيا وإيران بمفردهم للحل في سوريا، وبعدما رأينا الجفاء الخليجي الأمريكي نتيجة عدة عوامل أهمها الاتفاق النووي مع إيران وحكم القضاء الأمريكي بإدانة السعودية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر.