“لا أعتقد أن المضي قدمًا في توسيع الاستيطان يخدم السلام” بهذه الكلمات علّق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على التوسعات الاستيطانية الجديدة في فلسطين، والتي بمقتضاها أقر الكيان الصهيوني قانونًا يسمح بالسيطرة على الأراضي الخاصة المملوكة لفلسطينيين لحساب المستوطنين.
تصريحات ترامب أثارت جدلاً واسع النطاق سواء بين اليمين الإسرائيلي الذي كان أول الداعمين لترامب في حملته الرئاسية، أو بين الفلسطينيين والمهتمين بقضيتهم بصفة عامة، إذ حملت تناقضًا واضحًا في موقف الرئيس الأمريكي الجديد حيال دولة الاحتلال مقارنة بما كان عليه قبل دخوله البيت الأبيض، وهو ما دفع للتساؤل: هل تغير الموقف الأمريكي حيال تل أبيب؟ ولماذا؟
تغير لغة الخطاب
في حوار له مع صحيفة “إسرائيل اليوم” قال الرئيس الأمريكي الجديد إن سياسة التوسع الإسرائيلية في المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة ليست في صالح السلام مع الفلسطينيين، داعيًا الكيان الصهيوني “التصرف بعقلانية” في هذه المسألة.
ترامب حذر في حديثه من الاستمرار في سياسة الاستيطان لما قد تخلفه من عراقيل تعوق مسيرة عملية السلاح، قائلاً: “ثمة أراضٍ محدودة الآن، كلما توسعت إسرائيل في بناء المستوطنات قلت الأراضي المتاحة، أنا لا أومن بأن التوسع في الاستيطان يخدم عملية السلام، لكننا نختبر الخيارات كافة”، وتابع: أريد السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأعتقد أن السلام سيكون رائعًا لإسرائيل وليس فقط جيدًا.
تصريحات سيد البيت الأبيض الجديد، تتنافى بشكل كبير مع ما صرح به إبان حملته الرئاسية، حيث كان أول الداعمين لمشروع الاستيطان الصهيوني، كما أنه كان أول المنتقدين للإدارة الأمريكية السابقة بقيادة باراك أوباما، لمواقفها المناهضة للاستيطان، والذي تجسد في عدم استخدام حق الفيتو ضد مشروع قرار أممي يطالب إسرائيل بوقف المد الاستيطاني، وذلك قبل شهر من انتهاء ولايتها.
الرئيس الأمريكي الجديد يقول إن سياسة التوسع الإسرائيلية في المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة ليست في صالح السلام مع الفلسطينيين، داعيًا الكيان الصهيوني “التصرف بعقلانية” في هذه المسألة
تعهدات ترامب بالعمل على دعم الكيان الصهيوني حين وصوله البيت الأبيض، دفعت الكثير من المحللين إلى ترجيح مسألة تنفيذ وعود شرعنة الاستيطان من جانب، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
فبعد أن تعهد بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة في نوفمبر الماضي، تراجعت الإدارة الأمريكية عن تنفيذ هذا التعهد في الوقت الحاضر، حيث جاء على لسان ترامب في حواره مع الصحيفة الإسرائيلية أنه لا يزال في مرحلة دراسة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وهي مسألة أخرى أثارت جدلاً واسعًا مؤخرًا، مؤكدًا: “أفكر في الموضوع، وسنرى ما سيحدث، هذا ليس بالقرار السهل، لقد تم بحثه على مدى سنوات، لا أحد يريد اتخاذ هذا القرار وأفكر فيه بجدية”.
وفي المقابل اعتبر وزير القدس وشؤون التراث الوطني الإسرائيلي زيف إيلكين، بأن قرار نقل السفارة الأمريكية سيتم اتخاذه، على الأرجح، في مايو أو يونيو القادمين، قائلاً: “لقد تبنى الكونغرس الأمريكي في العام 1995 قانونًا يقضي بأن سفارة الولايات المتحدة في تل أبيب يجب أن تكون في القدس، العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل”.
وأضاف الوزير الذي يعمل رئيسًا للمكتب السياسي في حزب “الليكود” الحاكم، في حديثه لوكالة “تاس” الروسية أول أمس الخميس، أن “عمل هذا القانون يجري تجميده كل 6 أشهر بموجب أوامر خاصة لرؤساء الولايات المتحدة على مدى السنين العديدة الماضية، وجاء الأمر الأخير عن هذا الشأن في ديسمبر من العام 2016 بعد التوقيع عليه من قبل الرئيس السابق باراك أوباما، ملفتًا إلى أن القرار بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيتوقف على توقيع الرئيس ترامب على الأمر المماثل الجديد بعد انقضاء مدة 6 أشهر على إصدار المرسوم الأخير.
غضب ترامب من عدم استخدام الفيتو ضد وقف الاستيطان الصهيوني
لماذا هذا التغير الأن؟
العديد من التساؤلات طرحت نفسها بشأن أسباب هذا التغير في الخطاب الأمريكي تجاه الكيان الصهيوني، وما إن كان هناك فارقًا بين “ترامب” المرشح، و”ترامب” الرئيس، إلا أن المؤشرات تسير في اتجاه رضوخ الرئيس الأمريكي الجديد لحزمة من الضغوط التي مورست عليه وفق ما تقتضيه المصلحة الأمريكية العليا.
فكما أشار محللون فإن ما يسعى ترامب للقيام به يهدد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط وغيرها، ويجعلها في مرمى استهداف الجماعات المتطرفة، فضلاً عما يمكن أن ينجم عنه من خسارة واشنطن لكثير من حلفائها، ومن ثم كانت الضغوط التي دفعته إلى تأجيل تنفيذ ما تعهد به إبان حملته الرئاسية.
وجدير بالذكر أن خسارة ترامب معركته الأولى مع مؤسسات بلاده فيما يتعلق بمسألة قرار وقف الهجرة من بعض البلدان الإسلامية إلى أمريكا، وإجهاض القضاء الأمريكي لهذا القرار، كان آخرها ما حدث بالأمس حين أقرت محكمة استئناف فيدرالية أمريكية رفضها لمرسوم الرئيس الجديد بشأن الهجرة، يعد ضربة مؤلمة للإدارة الجديدة، ومؤشرًا سلبيًا على الصدام المبكر بين البيت الأبيض ومؤسسات الدولة السيادية.
ما يسعى ترامب للقيام به يهدد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط وغيرها، فضلاً عما يمكن أن ينجم عنه من خسارة واشنطن لكثير من حلفائها، ومن ثم كانت الضغوط التي دفعته إلى تأجيل تنفيذ ما تعهد به إبان حملته الرئاسية
إضافة إلى الانتقادات التي وجهت للرئيس الجديد سواء من الجمهوريين أنفسهم، أو من الديمقراطيين، فضلاً عن الجمعيات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، ولغة الاستهجان الأوروبية حيال قرارات ترامب “الحمائية” غير المدروسة والتي قد تلقي بظلالها القاتمة على المشهد العالمي برمته.
كل ما سبق دفع ترامب إلى إعادة النظر في مواقفه لا سيما حيال القضايا ذات الانقسام الدولي، كنقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، ووقف الهجرة من المسلمين، ومساعيه لفسخ الاتفاق النووي مع إيران، مما دفع بعض المقربين من دوائر البيت الأبيض إلى مواقف أو أهواء خاصة.
قلق فلسطيني
حالة من القلق والترقب انتابت القيادة الفلسطينية إزاء توجهات ترامب الجديدة، والتي يراها الفلسطينيون عنصرية في معظمها، داعمة للكيان الصهيوني على حساب عملية السلام بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي.
وبحسب ما نشرته وكالة “قدس برس” نقلاً عن وكالة الأنباء الأمريكية “أسوشييتد برس” فإن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، يتجاهل اتصالات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، عمدًا، منذ توليه منصب الرئاسة، في مقابل قيامه – ترامب – بالاتصال برئيس وزراء الكيان الصهيوني مرتين منذ دخوله البيت الأبيض.
الوكالة أوضحت أن عباس وبعض رجاله حاولوا التواصل مع ترامب أكثر من مرة لكن دون جدوى، محذرة من أن مؤشرات هذا التجاهل باحتمالية نية ترامب تبريد العلاقات بين البيت الأبيض والفلسطينيين، ستكون ضربة قوية بالنسبة للفلسطينيين.
التقرير نقل أيضًا عن صائب عريقات كبير المفاوضين في السلطة الفلسطينية قوله: “رجال السلطة يرسلون رسائل وبرقيات إلى الإدارة الأمريكية وما من رد في الجانب الأمريكي”، مما دفع مسؤولين فلسطينيين إلى التعبير عن قلقهم من دلالات هذا التجاهل، والذي يشير إلى تغيير واضح في توجه البيت الأبيض للفلسطينيين.
عريقات: رجال السلطة يرسلون رسائل وبرقيات إلى الإدارة الأمريكية وما من رد في الجانب الأمريكي
الرئيس الفلسطيني أبومازن خلال لقائه بالرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما
هل غير ترامب موقفه؟
حالة من الانقسام في الرؤى صاحبت تصريحات ترامب الأخيرة، فالبعض يراها رضوخًا تامًا للضغوط الخارجية والداخلية التي مورست عليه، ومن ثم فإن فكرة نقل السفارة أو دعم الاستيطان باتت مستبعدة، فليس من المعقول أن يصطدم الرجل بالمؤسسات السيادية لبلاده ويعرض أمن أمريكا للخطر ومصالحها للتهديد بسبب بعض المواقف التي قد تضر بالكيان الصهيوني أكثر من إفادته.
بينما يرى آخرون أن ما حدث لا يعدو كونه مناورة سياسية يثبت ترامب من خلالها التزامه بقرارات بلاده، واحترام أراء المعارضين له، إلا أنه ومع مرور الوقت وحين يتمكن من إحكام السيطرة على مقاليد الحكم، سيعود إلى تنفيذ تعهداته السابقة، حيث إن الكثير من المؤيدين له جماهيريًا يرونها في صالح الولايات المتحدة وليست ضدها كما يراها من هم في الجهة المقابلة.
ترامب وإن أرجأ فكرة نقل السفارة للقدس، فإن هذا لا يعني التخلي عن دعم دولة الاحتلال، حيث من المرجح أن يقدم لهم المزيد من المساعدات والمنح التي تضمن لها التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي على دول الجوار
أما بخصوص الرأي المتفائل بتلك التصريحات وأنها بداية الصدام مع الكيان الصهيوني، فيمكن القول إن ترامب وإن أرجأ فكرة نقل السفارة للقدس والاعتراض على سياسة التوسع الاستيطانية في الوقت الراهن، نتيجة بعض الضغوط هنا وهناك والتي قد تضر بمصالح واشنطن، فإن هذا لا يعني تخلي الرجل عن دعمه لدولة الاحتلال، فمن المرجح أن يقدم لهم المزيد من المساعدات والمنح التي تضمن لها التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي على دول الجوار، إضافة إلى ضمان عدم تعرضها لأي هجوم أو انتقاد أممي في المستقبل من خلال استخدام حق الفيتو.
كما أن زيارة رئيس وزراء الكيان الصهيوني لواشنطن خلال الأيام القادمة تعكس عمق العلاقات بين الجانبين، إذ من المقرر وبحسب خبراء فإن اللقاء المزمع بينهما سيتطرق إلى الحديث عن تأجيل نقل السفارة للقدس ومحاولة إقناع تل أبيب بهذه الخطوة، خاصة أنها ستأتي في صالح دولة الاحتلال في المقام الأول، إذ تقيها غضبة العرب والمسلمين حال تم تنفيذ هذا القرار، وتفقدها الكثير من حلفائها في المنطقة.
وكالة “رويترز” أشارت إلى أن اجتماع ترامب – نتيناهو سيتمحور حديثه حول محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتطويق عملياتها الإرهابية من جانب، ومواجهة إيران ومساعيها النووية من جانب آخر، ملفتة أن تلك المحاور ستكون محل اهتمام تل أبيب كما واشنطن، ومن ثم فالوقت ليس متاحًا الآن للتطرق إلى مسائل جديدة قد تزيد من التوتر في المنطقة، بما فيها مسألة نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، ومزيد من الخطط الاستيطانية.