يبدو العالم اليوم أمام تحدٍّ من نوع آخر يكاد يهدد كل جوانب الحياة ويقلب موازينها، تكثر الكوارث الطبيعية وتسجّل درجات الحرارة أرقامًا قياسية، وتشتعل الغابات في أنحاء مختلفة لم تعرف النيران سابقًا، وتذوب الجبال الجليدية الشاهقة ويختفي أثرها بعد قرون طويلة، وتختفي أجزاء واسعة من مدن وحواضر عريقة كما يحدث الآن في مدينة درنة الليبية جراء إعصار دانيال المدمّر، هذه المشاهد التي اعتدنا رؤيتها في أفلام الخيال العلمي، وحذّر منها علماء المناخ منذ سنوات، أصبحت واقعًا مقلقًا يفرض نفسه على 8 مليارات إنسان على هذه المعمورة.
ليس العالم بحديث عهد بمصطلح التغير المناخي، لكنه بدأ يتعرّف إلى أهواله -إن صحّ التعبيرـ فعليًّا خلال السنوات الأخيرة، عندما بدأت تقتحم حياتهم لتعكّر صفوها واستقرارها، فبحسب تقديرات منظمة الأرصاد الجوية، تضاعف عدد الكوارث الطبيعية 5 مرات خلال نصف قرن، ويلقى 125 شخصًا حتفه يوميًّا بسبب الكوارث الناتجة عن التغير المناخي.
ومع تفاقم آثار التغير المناخي وزيادة حدّتها تتأثر أعداد أكبر من السكان، ما يخلق موجة نزوح داخلية وأخرى عابرة للحدود نحو مناطق أكثر أمنًا، نناقش في هذا التقرير جوانب الحياة التي تأثرت بفعل التغير المناخي، وما نتج عنها من هجرات جماعية.
كيف أثّر التغير المناخي بالبشر
الموسم الصيفي الحالي كان بمثابة تحذير فعلي لما قد يواجهه العالم بسبب التغير المناخي، فبينما كان الناس يخططون لقضاء الإجازات والترويح عن النفس بعد شتاء قاس، اصطدمت أمانيهم بأقسى موجات الحرارة شدّة في العالم، وكانوا على موعد مع ظواهر استثنائية.
كان موسمًا خاصًّا بتحطيم الأرقام القياسية، فحصل شهر يونيو/ حزيران 2023 على لقب “يونيو الأكثر سخونة على الإطلاق”، وفقًا لتحليل درجة الحرارة العالمية التابع لوكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا)، فيما كان أول أسبوع في شهر يوليو/ تموز الماضي الأسبوع الأكثر حرارة على الإطلاق في العالم أجمع، ما دفع الدول إلى تحذير سكانها من مخاطر هذه الموجات.
إذ أطلقت مناطق مختلفة في جنوبي وغربي الولايات المتحدة الأمريكية تحذيرات عبر الإنترنت وقنوات التلفزيون، من أن مستويات حرارة “خطيرة” قد تضرّ بصحة ثلث السكان -نحو 110 ملايين شخص-، كما حذرت وسائل الإعلام إيطالية من درجات الحرارة العالية التي ستؤثر على 16 مدينة.
لم تقتصر موجات الحر التي حصدت أرواح ما يقارب الـ 60 ألف شخص العام الماضي على الدول الغربية فحسب، بل امتد تأثيرها إلى كل أنحاء الأرض، فتأثرت دول عربية بظاهرة القبّة الحرارية ـوهو تمركز لمرتفع جوي في طبقات الجو العليا-، فتجاوزت درجات الحرارة في العراق عتبة الـ 50 درجة مئوية، وحذّرت السلطات من ارتفاعها معلنة تعطيل الدوام الرسمي وخفض ساعات العمل في المؤسسات الحكومية، وفي المغرب العربي أدّى ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية إلى اندلاع حرائق في كل من تونس والجزائر والمغرب، أتت على مساحات واسعة من الغطاء الحرجي.
كما تكافح اليونان بدعم أوروبي لإطفاء الحرائق المشتعلة في عدد من غاباتها منذ عشرات الأيام، والتي وُصفت بأنها من “الأعنف” في القرن الـ 21، إذ قتلت 20 شخصًا حتى الآن وحرمت الآلاف من منازلهم.
ووصل التغير المناخي إلى حد التطرف، حين تحولت الحرائق المدمرة إلى أمطار وفيضانات في أنحاء القارة الأوروبية، بينما انقلبت الآية في الدول الاسكندنافية، فبعد فترة جفاف طويلة جاءت العواصف والأعاصير لتحل مكانها، فاختبر الاسكندنافيون ظواهر نادرة نسبيًّا في أرضهم، حتى وصفوا الأمر بأنه “كارثي ومخيف”، فاُقتلعت الأشجار وأُغلقت الطرقات ودُمّرت المنازل، وغُمر بعضها بمياه الأمطار والفيضانات، ما دفع الصليب الأحمر إلى التدخل وتقديم المساعدة للعالقين وإمدادهم بالمأوى والطعام والشراب.
وفي الصين، تعاني مناطق واسعة من شدّة الظواهر الجوية بسبب التغير المناخي، إذ شهدت أمطارًا غزيرة كانت الأقوى منذ 140 عامًا، وبحسب تقارير إعلامية تشهد أنظمة مواجهة الفيضانات أكبر اختبار لها في الصين منذ فيضانات عام 1996.
وتؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى جفاف الأنهار، وتشكّل ظاهرة التصحُّر ما يهدد الأنشطة الزراعية والموارد الطبيعية، وتلفت هاندان أوجون، المهندسة البيئية في جامعة بارطن التركية، إلى أن “الجفاف هو أخطر أنواع الكوارث الطبيعية المحددة، لأنه يبدأ بشكل بطيء للغاية ويؤثر على مساحات كبيرة جدًّا”، مشددة على أن “الغابات ليست فقط مصدرًا للأكسجين، بل تمتص انبعاثات الكربون الضارة، وتوفّر الهواء النظيف، وتجذب الأمطار، فضلًا عن حمايتها للتنوع البيولوجي”.
لن تقف عواقب التغير المناخي عند هذا الحد، بل ستتخطى ذلك لتتسبّب في أزمة غذاء عالمية، إذ أكدت الأمم المتحدة أن العالم يواجه أزمة حادة في إمدادات الأغذية، وأن “مشكلة ارتفاع درجات حرارة الأرض وزيادة حدة ورقعة الجفاف تهدد الأمن الغذائي في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية”.
وأوقفت الهند، وهي أكبر منتج لنبتة الأرزّ، الشهر الماضي التصدير لتوفير حاجات الطلب المحلي، بعد تضرر محاصيلها بالأمطار الموسمية غير الاعتيادية.
الهجرة المناخية
نظرًا إلى الأحداث الكارثية التي تعصف بالمناطق الأكثر تأثرًا بالتغير المناخي، تبدو حقيقة تحولها إلى أماكن غير صالحة للحياة البشرية أمرًا لا مهرب منه، ستؤدي استحالة الحياة في تلك المناطق التي يغلب عليها الطابع الريفي إلى انتزاع ملايين الأشخاص من موطنهم الأصلي، وحرمانهم من مصدر رزقهم المتمثل غالبًا بالزراعة.
ويقول إبراهيم أوزدمير، مستشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إن نحو 1.2 مليار شخص معرضون لخطر النزوح قبل عام 2050 بسبب الكوارث المتعلقة بالتغير المناخي، غالبيتهم ينحدرون من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعاني بالفعل حاليًّا من حالات الطوارئ المناخية، والجفاف الشديد.
ومن جهتها، وثّقت منظمة الهجرة الدولية أن التغيرات المناخية تسبّبت في تشريد 305 آلاف شخص عام 2022 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بزيادة تقدر بنسبة 30% عن العام الذي سبقه، مؤكدة أن التغيرات المناخية تعيد تشكيل أنماط الهجرة في كل مكان.
وتشير تقديرات أخرى تعزز الطرح السابق أن حوالي 90 مليون شخص اضطروا إلى الفرار من منازلهم بسبب الكوارث الناجمة عن التغير المناخي، وارتفع هذا الرقم في عام 2022 ليصل إلى 100 مليون، وكانت قد تسبّبت الفيضانات في نزوح 33 مليون شخص في باكستان فقط العام الماضي، بينما تضرر ملايين آخرين في أفريقيا من الجفاف والتهديد بالمجاعة.
ويتوقع العلماء أن تصبح بنغلاديش، الدولة التي يعيش ثلث سكانها على طول ساحل منخفض، غير صالحة للسكن، إذ من المرجّح أن يغادر أكثر من 13 مليون بنغلاديشي البلاد بحلول عام 2050، وفي الولايات المتحدة الأمريكية نزح 1.2 مليون شخص بسبب الظروف القاسية والحرائق والعواصف والفيضانات في عام 2018، وبحلول عام 2020 ارتفع هذا العدد إلى 1.7 مليون شخص.
وتؤكد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن المخاطر المتأتية عن زيادة حدة وتواتر الظواهر الجوية القاسية التي تنتج عن التغيرات المناخية، تتسبّب في رحيل أكثر من 20 مليون شخص وسطيًّا من بيوتهم، وانتقالهم إلى مناطق أخرى في بلدانهم كل عام.
وذكر تقرير صادر عن مجموعة البنك الدولي أن “تغيُّر المناخ الذي يعدّ أحد عوامل الهجرة التي تزداد قوة يومًا بعد يوم، قد يجبر 216 مليون شخص في ستة من مناطق العالم على الارتحال داخل حدود بلدانهم بحلول عام 2050″، وينبّه من نشوء بؤر ساخنة للهجرة الداخلية الناجمة عن تغيُّر المناخ بحلول عام 2030.
الهجرة نحو المدن.. مشكلة وليست حلًّا
تحدّق المخاطر المتعلقة بالتغيرات المناخية بالدول الفقيرة والغنية على حد سواء، لكنها تكون أشد فتكًا ووقعًا على الفئة الأولى، ويصف مجلس حقوق الإنسان ذلك بأن “التغير المناخي يطرح تهديدًا وجوديًّا لسكان الدول الجزرية الصغيرة والبلدان الساحلية المنخفضة، ولملايين من الناس الذين يعيشون الجوع في أفريقيا وممّن لم يساهموا في أسبابه إلّا قليلًا”.
وفي حين يفضّل السكان المتأثرين بالتغيرات المناخية النزوح إلى مناطق أخرى داخل بلادهم، إلا أنهم يضطرون إلى مغادرتها بعد فترة بسبب ما يحصل من تكدس سكاني وضغط على البنى التحتية في المدن، ويحذر الباحثون في مجال الهجرة من أن ذلك سوف يؤدي إلى تجمع الناس في الأحياء الفقيرة، التي تغذي الفوضى والتطرف في ظل شحّ المياه والكهرباء، كما أنهم سيكونون عرضة للفيضانات أو غيرها من الكوارث، فعلى سبيل المثال يتوقع أن يصل نحو 1.7 مليون شخص من المناطق الأكثر حرارة وجفافًا إلى مكسيكو سيتي.
رغم أن ظاهرة الهجرة نحو المدن تبدو حلًّا بديهيًّا لملايين المتضررين من التغيرات المناخية، إلّا أنها تنذر بمشاكل أخرى أشار إليها البنك الدولي بتقريره عبر الإحصائيات التي قدمها، إذ ذكر أنه بحلول منتصف القرن سيعيش 67% من سكان العالم في المناطق الحضرية، وفي غضون عقد واحد فقط سيعيش نحو مليارَي شخص في العالم بالأحياء الفقيرة، ويكمن الخطر في أن 96% من النمو الحضري المستقبلي سيحدث في بعض المدن الأكثر هشاشة في العالم، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
“لاجئون” أم “مهاجرون”؟
لا تعترف المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين بتسمية “لاجئو المناخ”، لأولئك الذين فرّوا من قسوة التغيرات المناخية، رغم الإحصائيات التي تشير إلى أن أعدادهم أكبر بكثير مقارنة باللاجئين من النزاعات أو الحروب.
ويرى خالد السيد حسن، الخبير الاقتصادي والسكاني السابق بالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، أن القانون الدولي غير مجهّز لحماية المهاجرين بسبب المناخ، إذ لا توجد حتى الآن اتفاقيات قانونية ملزمة بدعم المهاجرين بسبب المناخ، وتقتصر الحماية القانونية على اللاجئين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم بسبب العنف السياسي.
وفي ظل غياب البيئة القانونية التي تحمي مهاجري المناخ، يكونون عرضة لانتهاك حقوقهم، إذ لا توفّر لهم مسارات آمنة وميسورة التكلفة، ويحرَمون من حقهم في الحياة الآمنة سواء من خلال أنظمة مراقبة الحدود العقابية أو التهميش والاستغلال، خاصة للمهاجرين الذين دخلوا بطرق غير نظامية، بينما يبقى قسم كبير منهم عالقًا في مناطق لا يستطيعون الوصول منها إلى مسارات هجرة آمنة.
يُضاف إلى سلسلة معاناة الدول النامية من التغير المناخي، أن الولايات المتحدة والدول الغربية ترفض الترحيب بالمهاجرين المتضررين من ذلك، حتى إن واشنطن رفضت التوقيع على معاهدة عالمية للهجرة عام 2018، وهي الاتفاقية الأولى من نوعها التي تعترف بالمناخ كسبب للنزوح في المستقبل.
وانتقد مستشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أوزدمير سياسات أوروبا بما يخص مهاجري المناخ، قائلًا إنه “بدلًا من أن تعمل الدول الغربية التي توصف بأنها متقدمة بإصلاح سياسة الهجرة، يهدر الاتحاد الأوروبي مليارات اليوروات على الجدران والأسيجة الحدودية، أي ما يعادل نحو 12 من جدار برلين”.
فتح الحدود.. خطوة نحو النجاة من الأزمة
يتناول كتاب “قرن البدو: كيفية النجاة من الاضطرابات المناخية” لكاتبته جايا فينس، الحلول التي من شأنها أن تجعل العالم مكانًا أكثر أمانًا وأن تنقذه من أكبر تحدٍّ قد يواجه البشرية، من خلال تسليط الضوء على الفوائد التي سيحقّقها المهاجرون في بلاد اللجوء بعد فكّ القيود على حركة الحدود.
تقول الكاتبة إن “الهجرة الجماعية المنظمة من الممكن أن تساعد في حل العديد من أكبر المشاكل التي يواجهها العالم، والحد من عدد الأشخاص الذين يعيشون في الفقر والدمار المناخي، ومساعدة اقتصادات الشمال على بناء قوتها العاملة”.
فإلى جانب معاناة أفريقيا من أزمة تغير المناخ وتوجُّه سكانها نحو الهجرة الجماعية، لا تزال تشهد نموًّا سكانيًّا كثيفًا نسبيًّا، إذ تشير التوقعات أن يتضاعف عدد السكان في أفريقيا 3 مرات بحلول عام 2100، ما يعني أن أعداد المتضررين من التغيرات المناخية سيتزايد بشكل كبير وستتفاقم الحاجة إلى الموارد الطبيعية في أرض تفتقر إليها، في الوقت الذي تواجه فيه معظم بلدان الشمال العالمي أزمة في معدل النمو السكاني، إذ لا ينجب الناس سكان القارة العجوز ما يكفي من الأطفال لدعم تحقيق التوازن الديموغرافي.
تؤكد الكاتبة منطقية الحلول المقدمة في طرحها من خلال الإحصائيات التي تشير إلى مدى إنتاجية المهاجرين الدوليين، إذ تذهب التقديرات إلى أن المهاجرين الدوليين الذين يشكّلون 3.6% من سكان العالم يساهمون بحوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي أكثر ممّا كانوا سينتجونه في بلدانهم الأصلية.
ويرى الخبير الاقتصادي في مركز التنمية العالمية في الولايات المتحدة، مايكل كليمنس، أن “تمكين حرية الحركة من شأنه أن يضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أن ما سينتج عنه من تنوع ثقافي سيحسّن الابتكار”.
لا يجب أن تبقى أزمة كهذه تهدد الوجود البشري على رفوف الساسة تنتظر أن يُزاح الغبار عنها، فبدلًا من البحث عن الحياة في كواكب أخرى، من الأجدر الحفاظ عليها في الكوكب الذي احتضن البشرية منذ البداية.