لا يمكن لأي تحليلٍ لديناميات القوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن يتجاهل ضرورة وجود نظامٍ إقليمي، ولفهم أسباب الفراغ الإقليمي الحالي يتطلب الأمر دراسة أسباب انهيار النظام الإقليمي في المقام الأول، وتبِعات ذلك الفشل، بما في ذلك الانتفاضات الشعبية في أنحاء العالم العربي.
وبالإمكان الإجابة على سؤال من يمتلك القوة في المنطقة فقط حين يصبح هذا السؤال جزءاً من النقاش حول النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، والذي أُفضِّل أن أُسمِّيه منطقة الشرق، وذلك نظراً لوَقْعِ هذه الكلمة على الشعوب التي تعيش هنا، سواء كانوا العرب، أو الإيرانيين، أو الأكراد، أو الأتراك.
جذور انهيار النظام الإقليمي القديم
ساهمت الأحداث بدءاً من حربي العراق، مروراً بالحرب على الإرهاب، وصولاً إلى موجة الانتفاضات في الدول العربية، في تهيئة الأرض لانهيار النظام العربي القديم. وإذا ما نحِّينا جانباً العوامل الخارجية، فإنَّ التدهور كان تدريجياً حتى سرَّعت الانتفاضات العربية، التي لطالما كانت جذورها البنيوية موجودة، وتيرة عملية التداعي.
ولا يعني انتهاء النظام القديم أنَّ الحرس القديم لم يعد نشطاً في المنطقة. بل على العكس، لا تزال النظم الاستبدادية والدول البوليسية بكافة مشاربها هي المُهيمنة على صيغ الحكم في المنطقة.
لكنَّ شيئاً أعمق قد تغيَّر، فقد تداعت العقلية السياسية التي كان يقوم عليها ذلك النظام القديم، وترفض الذهنية السياسية الجديدة السائدة الآن في أنحاء المنطقة أن يحكمها رفات هذا الماضي، وهذا يجعل أسس هذه النُظم الاستبدادية أكثر هشاشةً من أي وقتٍ مضى.
لكنَّ النظام القديم لم يستسلم بعد لنظامٍ جديد. إنَّنا نمر عبر مرحلةٍ انتقالية مليئة بعدم اليقين والتحديات. وإذا ما استثنينا العقود القليلة الأولى التي تلت نهاية حقبة الاستعمار، والتي تمتَّعت فيها الحركات المناوئة للاستعمار بتأييدٍ واسع، فإنَّ نظام الدولة العربية دائماً ما عانى من افتقارٍ شديدٍ إلى الشرعية.
في الشرق الأوسط، لم تبن فكرة الدولة على أساس أن تكون دولة لمواطنيها، تستجيب لرغباتهم واحتياجاتهم؛ على العكس من ذلك، كان ما يجمع الدولة والشعب هو حالة من العداء. وشكَّل هذا الانقسام الثنائي بين الدولة والمجتمع جوهر أزمة الشرعية. فقد أدَّى ذلك النقص في الشرعية الجماهيرية بالدول إلى السعي وراء البقاء من خلال تكوين تحالفاتٍ دولية وبناء أجهزة أمنٍ قوية.
وبالإضافة إلى تاريخ التدخل الغربي، والإرث الاستعماري، وبروز دور القوى الغربية في المنطقة، مهَّد افتقار النخب المحلية للشرعية الطريق أمام الغرب بصورةٍ أكبر لممارسة دورٍ مؤذٍ في المنطقة، وهو ما أدَّى إلى اختزال تلك النخب إلى مجرد لاعبين في نظام دولةٍ ذي مركزية غربية.
وتُوِّج ذلك بمزيدٍ من التفتيت للمنطقة، وبتعميق أزمة الشرعية داخل الدول، وبمزيدٍ من التباعد بين هذه الدول ومجتمعاتها.
وقد ساهم فشل الدولة أيضاً في انهيار النظام السابق، إذ لم يكن نظام الدولة غير شرعي في نظر الشعب فحسب، بل كان الحُكَّام كذلك غير أكفَّاء وعاجزين عن توفير المطالب الأساسية، سواء من أجل الاستقرار الأمني أو الاقتصادي.
تتبنى روسيا سياسة التعامل الانتقائي في المنطقة؛ ففي الوقت الذي تنخرط فيه بعمق في سوريا، تتجنب روسيا عن وعي نفس المستوى من الانخراط في أزمات أخرى
ومن اليمن إلى العراق، ومن سوريا إلى مصر، أصبحت الدولة أداةً في يد الزُمرة الضيقة، التي تشكَّلت على أساس الهُوية، والأيديولوجية، أو مصالح معينة. وبقدر ما اختزلت تلك النُخب نفسها في كوْنها مُمثِّلةً لهُوياتٍ تقليديةٍ محدودة، بقدر ما تقوضت التصوُّرات السياسية المتعلقة بالمواطنة.
ومكَّن ذلك الهُويَّات التقليدية الأخرى، الطائفية، والإثنية، أو الدينية، من أن تحل محل الهُويَّات السياسية، وأصبحت المصدر الرئيسي للانتماء والولاء.
وعلى نحوٍ مماثل، حلّٓ معنى الدولة في النظام، وحلّٓ معنى النظام بدوره في النخبة أو الحزب الحاكم. وصار هذا الحلول قائماً في سوريا، ومصر، وليبيا، والعراق، ما جعل نظام الدولة هَشَّاً.
لكن من جانب آخر، فإن هذه المعادلة تظهِر لنا أيضاً المخرج من هذه الأزمة بإبراز ما ينبغي علينا تجنُّبه. فإذا ما كانت الدولة تُجسِّد مصالح حزبٍ، أو نخبةً حاكمة، أو أيديولوجيةً معينة، أو عائلةً، فإنَّ أي تغييرٍ في أيٍّ من هذه الجماعات سيكون له تأثيرٌ مباشر في بنية الدولة ذاتها.
وفي حين أنَّ النظام القديم قد يكون في مرحلة لفظ أنفاسه الأخيرة، فإنَّ النظام الجديد لم يَلُح بعد في الأفق. ويبدو من المُرجَّح أن تستمر هذه الفترة الانتقالية لبعض الوقت قبل أن تُمهَّد الأرض لنظامٍ جديد. وفي غضون ذلك، سيكون موضعة وتلمس الملامح الناشئة لهذه الفترة أمراً مهماً لفهم طبيعة النظام الإقليمي الذي لم يُولَد بعض.
الفترة الانتقالية: الاتجاهات الناشئة
ترتبط ملامح الفترة الانتقالية الحالية بصورةٍ وثيقة بتطوُّر الانتفاضات العربية.
أولاً، جاءت هذه الانتفاضات نتيجةً للصراعات الاجتماعية السياسية والاجتماعية الاقتصادية. في بداياتها، كانت هذه الانتفاضات مُحدَّدةً بوضوحٍ بالمطالب السياسية. لكنها بقدر ما استمرت لفترات أطول وبقدر ما تعسكرت، بقدر ما تغيَّرت من كونها صراعاً لتحقيق مطالب سياسية إلى كوْنها صراعاً للهُويَّات السياسية المُتنافسة. وقد حَدَّ هذا البُعد الطائفي/العِرقي من أن تنضم لهذه الانتفاضات كافة الأطياف، وتفتَّت التحالفات الأساسية حول المطالب السياسية.
ثانياً، ولدت الانتفاضات العربية من رحم السياق الداخلي. ومع ذلك، فقد تطورت هذه الانتفاضات، وتأثرت وتشكلت بشكل أكثر من قبل اللاعبين الإقليميين والدوليين، خصوصاً منذ أواخر عام 2012، وبدايات عام 2013، التي شهدت تشكل تطور الربيع العربي بشكل أساسي من قبل الصراع الإقليمي والدولي على السلطة. ويعد المأزق السوري أوضح مثال على هذا الاتجاه.
ثالثاً، فاقت تبعات هذه الانتفاضات الأسباب التي أدت إليها، فقد أدت عسكرة الانتفاضات العربية في سوريا واليمن وليبيا إلى الكثير من التأثيرات الخارجية المدمرة، التي تتراوح بين تدفق اللاجئين، إلى الراديكالية بكل أنواعها، وأهمها نموذج داعش. وقد أدى هذا إلى تغيير الموضوع المركزي في الجدل بشأن المنطقة، فلم نعد نناقش الأسباب التي أدت إلى هذه الانتفاضات، وإنما أنفقنا أوقاتاً رهيبة، وطاقة وموارد في معالجة تبعات عملية تغيير أجهضت، وبالتالي نتج عن هذا التغيير في الموضوع محل التركيز إلى إطالة عمر الأنظمة الدكتاتورية، ومن ثم ترسيخ الأسباب الكامنة وراء الانتفاضات العربية.
إنَّ العوامل الكامنة وراء زوال النظام القديم، وملامح الفترة الانتقالية الحالية تشير إلى المسائل التي سوف يحتاج أي نظام إقليمي مستقبلي محتمل أن يعالجها
رابعاً، أصبحت الميليشيات ومناطق النفوذ هي من يشكل الحقائق الجديدة في المنطقة. فقد أدى تحول الانتفاضات العربية في ليبيا وسوريا واليمن إلى حروب أهلية إلى نتيجتين أساسيتين: هيمنة الميليشيات المعتمدة على الهوية أو المصالح على المشهدين الأمني والسياسي، وبات من غير المرجح القضاء على هذه الميليشيات على المدى القصير، بل الأمر الأكثر ترجيحاً أنَّه في المستقبل ستكون هناك حاجة إلى توازن ما بين الإقصاء والإدماج لهذه المليشيات.
ونتيجة لذلك، ظهرت مناطق النفوذ، ومرة أخرى، سوريا هي أوضح مثال على هذا الأمر. يشكل النظام، والمعارضة، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وداعش أربع مناطق نفوذ صلبة. هذه المناطق تستجيب هي الأخرى للحسابات وصراعات النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. هذان الاتجاهان سوف يكون لهما تداعيات على أي نظام إقليمي سوف يقام في فترة ما بعد انتهاء الأزمة.
نظام إقليمي جديد
إنَّ العوامل الكامنة وراء زوال النظام القديم، وملامح الفترة الانتقالية الحالية تشير إلى المسائل التي سوف يحتاج أي نظام إقليمي مستقبلي محتمل أن يعالجها.
أولاً، لما كانت الصراعات الإقليمية قد اكتسبت أبعاداً هوياتية قوية، فإنَّ أي نظام إقليمي محتمل ينبغي له أن يتعامل مع هذه القضية. يحتاج العقد الاجتماعي لفترة ما بعد الأزمة أن يلبي المطالب المتعلقة بالهوية، سواء كانت عرقية أو طائفية.
ثانياً، لا ينبغي أن يكون الانفصال أو الدولة المركزية الأساس العملي لهذا النظام الجديد، إذ إنَّ ديناميكية مطالب الهوية، ونشوء مناطق النفوذ، والحدود الداخلية في البلدان المليئة بالأزمات، تجعل من النموذج السابق لنظام شديد المركزية أمراً لا يمكن تبنيه، وكذلك فإن الحلول الانفصالية لن تكون حلا هي الأخرى، ولن تؤدي إلا إلى بذر المزيد من المصائب للمنطقة.
وبالنظر إلى هذا الخليط من الخرائط الديموغرافية، وهذا الترابط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للعناصر المختلفة في البلاد المعنية، فليس من السهل تطبيق مشروعات انفصالية خالصة. إنَّ الذي فاقم المظالم لم يكن الحدود السيئة وإنما السياسات السيئة.
يبدو أنَّ الصيغة الأكثر قابلية للعمل من النموذجين الانفصالي أو المركزي تتمثل في عقد اجتماعي يضمن كل حقوق وحريات المجموعات الهوياتية المختلفة، أفراداً وجماعات، مصحوبة بنقل السلطة على أساس الوحدات الإدارية لا خرائط الهوية، ونقل السلطة من المركز إلى الأقاليم.
ثالثاً، نشوء نخب سياسية شرعية نيابية هو أمر ضروري لنجاح هذا النظام الإقليمي الجديد. وهذا الأمر مهم على وجه التحديد عند التعامل مع تهميش السنة، خصوصاً في العراق وسوريا.
رابعاً، من العناصر الأساسية الأخرى قيام تصالح أيديولوجي على مستوى المنطقة بين الإسلاميين والعلمانيين/ القوميين، وتصالح مبني على الهوية بين السنة والشيعة، وبين الأكراد والعرب، والأتراك والإيرانيين.
على الولايات المتحدة أن تتحالف مع شعوب المنطقة، بدلاً من الأنظمة التي عفى عليها الزمن، والتي ما زالت تحاول التمسك بالسلطة
خامساً، لا بد من إيجاد توازن في القوى بين اللاعبين الأصليين، وإيران، وتركيا، والسعودية. بخصوص هذه النقطة، فإنَّ الفجوة الضخمة بين العقليتين الإيرانية والسعودية تعد أحد موانع نشوء أي نظام إقليمي.
بينما تعتقد إيران أنها تفوز في المنطقة، وهو ما يشجعها على اتخاذ المزيد من السياسات التوسعية، فإنَّ السعودية تشعر أنها تفقد أرضاً لصالح إيران، وهو ما يدفعها إلى اتخاذ سياسات مقاومة دفاعية. هذه الفجوة في الإدراك مدمرة للإجماع الإقليمي الضروري.
هنا تحديدا، لطالما أساء الغرب فهم المظالم الإقليمية فيما يخص إيران ، أو رفض أخذها في الاعتبار.
بالنسبة للغرب، فإنَّ المسألة الإيرانية قد اختزلت في احتواء برنامجها النووي. ومن المفارقات أنَّ هذا الأمر قد سر إيران، إذ كلما زاد اختزالها إلى الملف النووي، زادت قدرة سياساتها الإقليمية النزاعية على التخفي.
وفي المقابل، بالنسبة للقوى في المنطقة، فإنًّ المسألة الإيرانية متعلقة بسياساتها الإقليمية أكثر من تعلقها بطموحاتها النووية.
لقد ولّٓدت سياسات إيران التوسُّعية، من سوريا إلى اليمن، ومن لبنان إلى العراق إلى الخليج، وجيوش ميليشياتها، مشاعر القلق. في الحقيقة، لو أنَّ كبح برنامج إيران النووي يسمح للغرب بالاعتراف بالأثر الضار بسياسات إيران الإقليمية، فهو إذاً تطور مرحب به، وإذا قررت الإدارة الأميركية الجديدة أن تواجه مغامرات إيران الإقليمية، فمن المرجح أن تجد الكثير من الحلفاء الإقليميين.
الطريق إلى المستقبل
انتهى عصر الهيمنة الإقليمية، سواءً هيمنة القوتين العظيمتين سابقاً، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، أو هيمنة الولايات المتحدة وحدها عقب الحرب الباردة، وأي محاولة لفرض حالة من الهيمنة الإقليمية في العالم العربي، أو حتى التظاهر بها، سيكون مصيرها الفشل.
وبانتهاء عصر الاستقرار السلطوي في العالم العربي، فإن القوى خارج إقليم العالم العربي والشرق الأوسط عليها التفكير فيمن سيكونون المستهدفين الأساسيين بسياستها الخارجية.
تحديد هذا الأمر أصبح مُلِحاً أكثر من أي وقتٍ مضى. ففي خلال عصر الاستقرار السلطوي، كانت الإجابة على هذا السؤال سهلةً إلى حدٍ ما. إذ كانت القوى الخارجية تتعامل مع دول العالم العربي باعتبارها تابعةً لها، وطبيعة العلاقة بين القوى الخارجية وبين دول المنطقة كانت شكلاً من التبعية غير المتبادلة. وفي هذا السياق، كانت طبقات المجتمع الأهم بالنسبة للقوى الخارجية هي نخب السياستين الخارجية والأمنية، وخاصةً المؤسسات العسكرية، وليس المجتمع ككل.
ولكن عصر الاختيارات السهلة قد ولَّى. والآن، الوضع أصبح أكثر تعقيداً. وهذه القوى الخارجية، وأولها الولايات المتحدة الأميركية، لن يكون عليها فقط اختيار حلفاء من بين دول المنطقة، ولكنَّها أحياناً أيضاً ستضطر إلى الاختيار بين الدول وبين المجتمعات نفسها. وهذا سوف يكون الوضع خاصةً في الدول التي تمثل فيها الدولة مصالح ورؤى إحدى أقليات المجتمع، أو شريحة واحدة منه، أو مجموعة أفراد بعينهم.
ساهم فشل الدولة أيضاً في انهيار النظام السابق، إذ لم يكن نظام الدولة غير شرعي في نظر الشعب فحسب، بل كان الحُكَّام كذلك غير أكفَّاء وعاجزين عن توفير المطالب الأساسية، سواء من أجل الاستقرار الأمني أو الاقتصادي
ففي هذه الحال، سيكون من الصعب التوفيق بين مصالح النظام ومصالح المجتمع، إذ تكون في مواجهة بعضها البعض. وعلى القوى الخارجية حينها الإجابة على السؤال التالي: من يجب أن تستهدف سياستنا الخارجية في المنطقة أو في دولةٍ ما بعينها؟ وإلى أي مدى سوف تكون تلك القواعد المستهدفة قادرةً على تحقيق مصالحنا؟ وإلى متى؟ وهنا تصبح السيكولوجية السياسية الجديدة لدى شعوب المنطقة طرفاً في المعادلة، وتجعل من التحالف مع النخب الحاكمة التي لا تحظى بالشرعية الكافية أمراً مكلِّفاً وغير مبرر. فالاستثمار والتعاون مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة لن يحقق الاستقرار، أو الأمن، أو الرخاء في المنطقة. وأي تحالفٍ معها يجب أن يكون مبنياً على فهم أن الأسباب الكامنة وراء ثورات العالم العربي مازالت لم تُعالَج، وبالتالي فإنَّ الأنظمة الاستبدادية في المنطقة تتسم بالهشاشة، ومستقبلها مبهم إلى حدٍ كبير.
وبالتالي، على الولايات المتحدة أن تتحالف مع شعوب المنطقة، بدلاً من الأنظمة التي عفى عليها الزمن، والتي ما زالت تحاول التمسك بالسلطة. ويجب عليها أيضاً معرفة أنَّه في محاولتها للحصول على ولاء هذه الأنظمة الاستبدادية، ستواجه الولايات المتحدة معركةً شاقة، نظراً لأن روسيا والصين، منافسيها الحاليين، سوف يكونان أكثر تساهلاً مع دعم هذه الأنظمة الاستبدادية، لأن ذلك يعكس القيم التي تحكم سياستهما المحلية.
وبينما ينهار حالياً النظام الإقليمي في المنطقة، والذي كان متمركزاً حول الولايات المتحدة، وخاصةً البنية الأمنية الإقليمية فيه، فهذا لا يعني أن أية قوة، إقليمية أو دولية، ستحل بالضرورة محل الولايات المتحدة الأميركية.
روسيا وحتى الصين يمكن أن يكونا لاعبين في السياسة الإقليمية وإلى حد ما تعتبر روسيا لاعب دولي كبير، ولسياساتها انعكاسات كبيرة على المناطق الساخنة في الإقليم، وسوريا هي المثال الأكثر وضوحاً في هذا الشأن. إلا أنَ روسيا تفتقر إلى العناصر الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية والثقافية التي تحتاجها للعب دور القوة المهيمنة التي يقوم عليها النظام الإقليمي.
ويشير سجل التدخلات الروسية في المنطقة إلى أنَ روسيا ليس لديها سياسة على مستوى المنطقة بأكملها. إنها ترغب في وجود إقليمي راسخ ولكن على نطاق محدود؛ فالعبء السياسي والاقتصادي للعب دور القوة المهيمنة في منطقة مضطربة ثقيل جداً بالنسبة لروسيا.
لهذا السبب، تتبنى روسيا سياسة التعامل الانتقائي في المنطقة؛ ففي الوقت الذي تنخرط فيه بعمق في سوريا، تتجنب روسيا عن وعي نفس المستوى من الانخراط في أزمات أخرى.
ويبدو أنَ المنطقة بالنسبة لروسيا ليست غاية في حد ذاتها. بدلاً من ذلك، تستخدم روسيا المنطقة كوسيلة لتحقيق غايات أخرى – لتعزيز مكانتها على الصعيد العالمي أو استخدامها كورقة مساومة للضغط في بحر البلطيق وأوروبا الشرقية، للحد من توسع حلف الناتو شرقاً ولتجنب الثورات الشعبية على أراضيها.
لقد انتهى عصر الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من قبل قوة واحدة، تلك المنطقة التي تعاني من الاختراق أكثر من أي وقت مضى. حتى تكرار سياسة “مناطق النفوذ” التي شهدناها أثناء حقبة الحرب الباردة بين كلٍ من روسيا والولايات المتحدة هي الآن مسألة غير قابلة للتحقيق. ومن المحتمل جداً أن نرى قوى دولية كبرى تتدخل فقط بشكل انتقائي في المنطقة. على المدى القصير، هذا الأمر لا يبشر بالخير بالنسبة لإنشاء نظام إقليمي جديد، إذ سنرى نوعاً من الانحلال في النظام الإقليمي، مع استمرار انحلال الأنظمة الوطنية بشكلٍ لا هوادة فيه. ومع ذلك، على المدى الطويل، قد يُمَثِل هذا الأمر نعمة للشعوب في المنطقة، لأنه سيسمح لهم بأن يكونوا هم المحركين لمصيرهم وأصحاب المصلحة في الهيكلة الأمنية.
ساهمت الأحداث بدءاً من حربي العراق، مروراً بالحرب على الإرهاب، وصولاً إلى موجة الانتفاضات في الدول العربية، في تهيئة الأرض لانهيار النظام العربي القديم
ولا تختلف الصورة فيما يتعلق بالقوى الإقليمية، فعلى الرغم من المنافسات الإقليمية الشرسة، لن يهيمن على المنطقة أي فاعل منفرد؛ لذلك الخيارات بسيطة: إما أن يكون هناك نظام سياسي جماعي وهيكل أمني، أو لا يكون هناك شيء على الإطلاق. أي شيء من قبيل هذا النظام الإقليمي يجب أن يتعامل مع الاتجاهات التي تولَدت نتيجة للفراغ الراهن في المنطقة.
وأخيراً، ما يحدث في الشرق الأوسط لن يؤتي ثماره في غضون سنوات قليلة، إذ إنّٓ من المرجح أن تكون عملية مستمرة بين الأجيال، الأمر الذي يتطلب التخطيط والالتزام طويل الأجل من جانب الجميع، داخل وخارج المنطقة على حد سواء؛ فالصراعات الراهنة على السلطة في المنطقة من منطلق “المحصلة الصفرية”، كل شيء أو لا شيء، لا يخلق سوى أعداداً كبيرة من الخاسرين ليس بينهم أي فائز.
جميع المكاسب والخسائر تخمينية وقابلة للتغيير. في هذا السياق، يبدو أنَ الاعتراف أولاً بالتيارات الجديدة التي تُشكِل المجتمعات الإقليمية، ثم مواءمة السياسة الخارجية مع هذه الاتجاهات هو أفضل استثمار طويل الأجل للقوى المهتمة بالأمر.
في هذا الصدد، فإنَ اختفاء مفاهيم الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان وكرامة الإنسان لن تكون فقط مخالفة لجميع القيم والأعراف المعلنة للغرب، وإنما معادية لمصالحهم أيضاً.
ويُبيِن الاضطراب الإقليمي الحالي بوضوح أنَ الوضع السلطوي السابق في المنطقة كان سيقود حتماً للإخفاق؛ فلا مستقبل المنطقة، ولا أي نظام إقليمي يمكن تصوره، يمكن أن يقوم على مثل هذه البنية السلطوية.
ولن يُقٓر نظام إقليمي يقوم بوظائفه وعلاقات مثمرة متبادلة بين المنطقة والغرب إلا عندما تُحقق المنطقة الأهداف السامية لشعوبها، والتي تتمثل في الاستقرار الديمقراطي.