ترجمة حفصة جودة
يمتلك راشد غمام عينَين متعبتَين لشخص لم ينم منذ أيام، ليبدو كأنه أكبر من عمره الحقيقي، يتحدث راشد (38 عامًا) عن أخيه كأنه موجود، ولم يفقد الأمل مطلقًا في أنه ما زال على قيد الحياة.
قرر نادر أن يترك مدينة مهدية في تونس عن طريق تلك الرحلة الخطيرة في عرض البحر المتوسط للالتقاء بشقيقه الأكبر في روما بإيطاليا، فصعد على متن قارب يوم 25 أغسطس/ آب، لكن لم يخبر أحدًا بخطته.
في التاسعة والنصف مساءً يوم 26 أغسطس/ آب، تلقى راشد مكالمة هاتفية من والدته في مهدية، تخبره أن شقيقه نادر عبرَ البحر المتوسط وهو في لامبيدوزا، وقد علمت ذلك عندما تلقت مكالمة من أصدقاء نادر.
في صباح اليوم التالي، دقّ هاتف راشد مرة أخرى بينما كان خارج المنزل، كان الاتصال من أحد أصدقاء نادر في إيطاليا، وقد قال إنه لم يجد نادر في لامبيدوزا مثلما كانوا يعتقدون.
في منتصف الليل، وصلت مكالمة أكثر رعبًا: “اتصل بالنجدة فورًا يا راشد”، لم يصل نادر إلى لامبيدوزا مطلقًا، ما زال في عرض البحر، أما أصدقاؤه الذين كانوا معه على القارب فقد تمكنوا أخيرًا من الوصول إلى راشد.
يقول راشد: “اتصلت بخدمة الإنقاذ الإيطالية من منتصف الليل حتى الرابعة صباحًا منتظرًا أي رد”، عندما تمكّن أخيرًا من الوصول إلى أحدهم في الرابعة صباحًا، كان الرد محبطًا، فقد قالوا: “ليس بإمكاننا أن نفعل أي شيء لشقيقك، يجب أن تتصل مرة أخرى من لامبيدوزا”، فذهب إلى هناك في اليوم نفسه.
لأجل الشقيق الحبيب
في لامبيدوزا، أرسل راشد استغاثات أخرى وحاول الوصول إلى منطقة رسو السفن حيث يوجد الوافدون الجدد، فقد كان يرغب في الحديث مع الأشخاص الذين كانوا في نفس القارب مع شقيقه.
لم تسمح له الشرطة بالدخول، لكنه تمكن بطريقة ما من الحديث مع أحد الأفراد الذين كانوا على القارب، يقول راشد: “لقد نفد منهم الوقود على بُعد 17 ميلًا من لامبيون (جزيرة قرب لامبيدوزا)”، ونتجية لذلك ظل القارب ثابتًا في موضعه لمدة يوم ونصف، وفي تلك الأثناء اندلع شجار ما.
يقول راشد: “كان هناك شجارًا، حيث هدد رجل يحمل سكينًا بعض الناس، وكان هناك صبي يتوسل إلى الرجل ألا يقتله، فرماه الرجل في البحر حيًّا، ويبدو أن نادر جُرح وأُلقي به في البحر أيضًا لأنه دافع عن الصبي”.
يبدو حب راشد لشقيقه واضحًا على كل قسمات وجهه وعلى جسده الذي يغلّفه القلق، كان التواجد في لامبيدوزا أمرًا مريرًا وحلوًا في الوقت نفسه لراشد الذي وصل إلى تلك المنطقة قبل عامَين كمهاجر غير شرعي، وذلك بعد أن انهارت شركة البناء التي يملكها أثناء جائحة كوفيد-19.
لم يكن راشد يملك خيارات أخرى، وقد شقَّ طريقه من لامبيدوزا إلى أحياء روما الشمالية حيث يعيش الآن، ويدرس خدمات الطيران، ويعمل في الخبز والتنظيف لكسب عيشه.
تعلم راشد التحدث بالإيطالية بشكل جيد للغاية، وكان من المفترض أن ينهي دراسته خلال أيام قليلة، لكن يقول الآن بكل يأس: “لا أريد الدراسة أو العمل ولا أريد أن أفعل أي شيء، لا أريد سوى أن أعلم ما حدث مع شقيقي؟”.
تحدث راشد كثيرًا مع نادر عن الحياة في إيطاليا، بينما كان الشاب الصغير يرغب في الرحيل من تونس أملًا في أن يعثر له شقيقه على عمل في إيطاليا يومًا ما، لكن نادر ملَّ من سماع شقيقه يطلب منه الصبر.
تجعّد وجه راشد اللطيف وارتجف صوته عندما تذكر كيف تعاملت السلطات الإيطالية مع حياة شقيقه كأمر تافه لا قيمة له، يقول راشد: “السلطات الإيطالية بلا إنسانية، لقد تعاملت الشرطة معي بشكل سيّئ للغاية، وأغلقوا جميع الأبواب في وجهي، لكن لحسن الحظ هناك أيضًا أشخاص طيبون”.
الأمر المثير للدهشة أن راشد لم يكن غاضبًا من السلطات بقدر حزنه على أخيه وافتقاده له، يقول راشد إن الناس في بلدتهم المهدية يحبون نادر كثيرًا، فهو يقف دائمًا بجانب أصدقائه، وأول من يساعد الناس عند حاجتهم إلى ذلك.
يضيف راشد: “لقد ساعدَ أصدقاءه في زواجهم، ساعدهم في بناء منازلهم لأنه مهندس بناء، والآن توقفت الحياة في البلدة بأكملها، 10 آلاف شخص ينتظرون خبرًا عن نادر”، أما والدة راشد فتتصل به عدة مرات في اليوم.
يقول راشد: “كان نادر بارًّا بوالدَينا، تتصل أمي طوال الوقت وتسألني إذا كنت وجدته، وتقول لي: “لا تعد دون أخيك”، هذه الكلمات تمزقني”.
يعاني الوالدان من صدمة وكثيرًا ما يذهبان للوقوف بجانب بعضهما أمام البحر الذي ابتلع طفلهما ويبكيان، يقول راشد: “لم أرَ والدي يبكي من قبل، هذه أول مرة أراه فيها كذلك”.
شكر راشد جميع من ساعدوه على استرجاع ما حدث على القارب، والصحفيين الذين التقوا به وكل من قدم له مساعدة، لكنه عازم على مواصلة البحث لاكتشاف ما حدث لنادر.
إعادة تشكيل المأساة
قال إيمانويل ريكيفاري، مفوض الشرطة في بلدة أغريجينتو في صقلية قرب لامبيدوزا: “إن السلطات الإيطالية فعلت كل ما بوسعها في مسألة العثور على نادر”، كما زعم أن شهادة راشد تتعارض مع ما قاله الناس الذين كانوا على القارب، لكنه رفض الإفصاح عن أي شيء بشأن التحقيقات الجارية، ولم يقل سوى أن فريق الإنقاذ لم يرَ أحدًا في المياه.
شعر راشد بالإحباط وتساءل: “كيف لم يذكر الناس على القارب أن أخي كان في البحر عندما وصل فريق الإنقاذ؟ لكنني أعلم أخي جيدًا وهو سبّاح ماهر، لذا طلبت منهم توفير قارب أو مروحية للبحث عنه لأنني أعتقد أنه ما زال على قيد الحياة، لكن السلطات الإيطالية لم تستمع إليّ، وأخبروني أن أذهب إلى أغريجينتو وتقديم بلاغ”.
“لقد طردني الجميع وأخبروني أن أعود إلى المنزل أو أن أذهب إلى العمل، يبدو أن السلطات الإيطالية لا تقدّر حياة المهاجرين”، لكن ركّاب القارب كانوا يغيرون قصتهم باستمرار، ما جعل راشد يشك في أنهم خائفون من شيء ما أو من شخص ما قد ينتقم منهم أو من عائلاتهم في تونس.
يشعر راشد بالقلق أيضًا على حياته، لأن الأشخاص المسؤولين عن اختفاء أخيه ما زالوا هناك، أما الأشخاص الذين شهدوا على ما حدث لأخيه فقد أرسلوهم في أنحاء إيطاليا حتى لا يستطيع الوصول إليهم.
“سوف أتحدث مع المحامي لأعرف الحقيقة، أين شقيقي؟ لماذا اختفى وحده من بين 90 شخصًا؟ لماذا يخشى جميعهم التحدث أيضًا؟”، يقول راشد.
تمكن راشد من الحديث مع اثنين من أصدقاء نادر ممّن كانوا على القارب، لكن من خلال حاجز حديدي لأن السلطات لم تسمح له بالحديث معهما بشكل مباشر، ومن خلال الحديث معهما تمكّن من وضع جدول زمني غامض.
عندما توقف القارب فترة في المياه، جاء نادر إلى أصدقائه غاضبًا ومتوترًا لأنه هناك مشاجرة على أحد طرفَي القارب، وبينما لم يعلم الجميع ما حدث تمامًا شاهدوا صبيًّا صغيرًا يجري في جميع أنحاء القارب ويصرخ: “أرجوك، لا! ألقني في المياه لكن لا تقتلني”.
كان نادر متأكدًا من أن الصبي خائف من شخص أكبر قتل أحدهم على المركب ويتوعّد الصبي، وتصارعوا في قاع المركب في فترة ما، وفقًا لشهادة أصدقاء نادر.
لاحظ الأصدقاء وجود بقعة من الدماء على رقبة الصبي، واعتقد نادر أن هذا الدم غالبًا من يد الرجل الكبير الذي يعتقدون أنه قاتل، وبينما كان الصبي يجري في اضطراب لم تتحمّل أعصاب نادر ما يحدث وقفز في المياه، فقفز أصدقاؤه خلفه بعد أن أدركوا أن القارب ليس آمنًا تمامًا.
أُلقي بالصبي في المياه بعد فترة قصيرة، لكنه أُنقذ وفُصل عن الرجال الثلاثة الذين كانوا في المياه، وبعد السباحة معًا لساعتَين في البحر، قال أصدقاء نادر إنه بدأ في السباحة بعيدًا عنهم قائلًا لهم: “لن تنجحوا في ذلك سأغرق إذا بقيت معكم”، وطلب أن يسبح كل واحد منهم في اتجاه مختلف.
جمع راشد هذه الشهادات المأساوية في حالة من الحزن الشديد، وكان يبكي ويدعو الله أن يظهر هذا الرجل القاتل في مركز لامبيدوزا، فربما حينها يظهر أخوه، لكن مع مرور الأيام يصعب التشبُّث بالأمل.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية