لم تكن حادثة اغتيال الأمين العام لحزب الله في محافظة البصرة باسم الصافي، إلا قمة الجبل الجليدي الذي يُرى من بعيد، بينما يتغور حجمه الحقيقي عميقًا تحت الماء، فالمدينة تعاني من تسلُّط المليشيات المختلفة وأحزاب السلطة والعصابات المختلفة على مقدرات وخيرات أهلها.
وتعيش عمليًا حقبة أمراء الحرب، وتنتشر فيها تجارة السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة بشكل واسع، والدولة غير قادرة على فرض سلطتها على المدينة ولا حماية المواطنين فيها، وتراها تحثُ موظفيها بحمل السلاح وتصدر رخص لهم بذلك، لعجزها عن حمايتهم من تهديدات تلك القوى المتصارعة.
ما حقيقة الذي يحدث في البصرة؟
تتصاعد عمليات الاغتيال في محافظة البصرة منذ نحو شهر، وأدت إلى مقتل 6 شخصيات بارزة منذ بداية العام الحالي، وحقيقة ما يحدث في مدينة البصرة هو ما قامت به الأحزاب السياسية والمليشيات المتنفذة من تقاسم لمؤسسات الدولة كلٌ حسب حجمه وقوته ليتم الانتفاع بمواردها دون النظر للمصلحة العامة، متعذرين بعذرٍ هو أقبح من ذنبهم، كون تلك المحافظة المسؤولة عن معظم دخول الدولة العراقية من العملة الصعبة الآتية من تصدير النفط، لا ينالهم منها شيء، وهم بالتالي يجدون لأنفسهم الحق بنهب مقدرات المحافظة دون رقيب، تاركين مواطنيها يعانون أشد المعاناة من صعوبة الحياة.
تقاسمت الأحزاب المتنفذة وميليشياتها أرصفة المواني، فكل ميليشيا أو حزب يبني محلات عائدة له على أرصفة المواني العراقية، لكي يتاجر من خلالها لحسابه الخاص، دون تدخل من الحكومة، وطال النهب النفط الخام العراقي وتهريبه عبر تلك الأرصفة لدول الجوار أو بيعه لمن يشتري بالمياه الإقليمية، ناهيك عن استخدام تلك الأرصفة لتصدير المخدرات التي تتدفق بكميات هائلة من إيران
وتقاسمت الأحزاب المتنفذة وميليشياتها أرصفة المواني، فكل ميليشيا أو حزب يبني محلات عائدة له على أرصفة المواني العراقية، لكي يتاجر من خلالها لحسابه الخاص، دون تدخل من الحكومة، وطال النهب النفط الخام العراقي وتهريبه عبر تلك الأرصفة لدول الجوار أو بيعه لمن يشتري بالمياه الإقليمية، ناهيك عن استخدام تلك الأرصفة لتصدير المخدرات التي تتدفق بكميات هائلة من إيران، تلك الجارة التي استطاعت تحويل مدينة البصرة إلى مدينة مستهلكة ومصدرة للمخدرات، خلال الأربع عشرة سنة من تاريخ نفوذها في البلد.
إن هذه النشاطات المشابهة لنشاطات المافيا، من الطبيعي أن تنشئ الصراعات بينهم، التي تؤدي لاغتيال وتصفيات الشخصيات المتنافسة، والذي يزيد من تلك الأعمال، هو فساد الأجهزة القضائية والأجهزة التنفيذية وتورطهم معهم، فالذي يثبت عليه الجرم بالمخدرات مثلًا، يمكنه أن يحول تهمته من تجارة المخدرات إلى متعاطٍ لها، بمبلغ لا يتجاوز الـ25 مليون دينار، وهو مبلغ تافه للذي يتعامل بتلك التجارة، وينفذ بذلك من العقاب، والأمر ينطبق على باقي الجرائم، فكل جريمة لها سعرها المتعارف عليه في عالم الجريمة هذه.
ذلك ما يتداوله الناس في أحاديثهم، والذي يزيد الطين بلَّه، أن تورط القيادات الأمنية مع نشاطات تلك العصابات والمليشيات، يتسبب بغياب للأمن بشكل مخيف، ففي حادثة اغتيال باسم الصافي وهو المتهم بقضايا تصفية وقتل للعديد من المدنيين في البصرة، ألمحت مصادر من حزبه إلى تورط بعض قادة الأجهزة الأمنية في البصرة باغتياله، حدث ذلك بعد أقل من يومين على تحذير الصافي لقادة الأجهزة الأمنية من التعرض لنشاطات عناصر حزبه في البصرة.
وأشارت مصادر أخرى إلى أن الصراع بين الأجنحة الأمنية وحزب الله العراقي في البصرة وصلت إلى ذروتها أخيرًا، في تنازع حقيقي على السلطة على تلك المدينة، جاء بعد تلك الحادثة، محاولة قتل فاشلة لمدير مؤسسة تابعة للمجلس الأعلى الإسلامي في ميسان، ثمَّ إصابة شخصين يعملان في مجلس محافظة البصرة، بإطلاق ناري في منطقة الحيانية، لتجعل التوتر الأمني في محافظات جنوب العراق يصل إلى أعلى المستويات، الأمر الذي يؤشر على خلافات عميقة بين تلك الأحزاب والمليشيات على تقاسم النفوذ والمنافع الاقتصادية في المدينة.
أما العصابات والمليشيات التي لم تَنَل حظًا كافيًا في تقاسم موارد هذه المحافظة المنكوبة، فتمهن المهنة القديمة الجديدة، مهنة الاختطاف والمساومة على المخطوفين، وأصبح أمرًا شائعًا داخل هذه المحافظة، بينما فضلت مليشيات أخرى، تجارة تهريب المشروبات الكحولية إلى المدينة، وكل ذلك يتم بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، وما أعمال تفجير أماكن بيع الخمور وأماكن الدعارة، إلا تعبير عن التنافس بين تلك المليشيات الراعية لتلك التجارة.
والمضحك بالأمر أن المليشيات والأحزاب التي تقوم بتلك الأعمال تدعي أنها إسلامية التوجه، مما جعل الناس والشباب يعزفون عن الدين بسببهم، ويتمنون أن يحكمهم علمانيون ليس لهم علاقة بالدين، وجعل كثير من الشباب يعزفون عن الدين ومعتقد التشيع الذي يعتنقه أولئك المجرمين، ووصل الأمر ببعضهم إلى الإلحاد، وبعضهم بدأ يترحم على حقبة نظام صدام، على الأقل لم تكن الجريمة بزمنه منتشرة إلى هذا الحد.
وبعض مثقفي مدينة البصرة حمَّل تدهور الوضع الأمني للعشائر، فبعد غياب الأجهزة الأمنية من المدينة وانتشار السلاح بشكل واسع بين تلك العشائر، جعلها ترجع في حل مشاكلها إلى الطرق البدائية التي عفى عنها الزمن، باستخدام السلاح والقانون العشائري والفصول العشائرية البدائية، التي تجانب الحق في الكثير من أساليبها، الأمر الذي جعل مناطق البصرة وأريافها تتحول إلى كانتونات مغلقة، لكل عشيرة منطقتها التي تسيطر عليها، لا يحق لأحد أن يدخلها دون أذنها، لترجع المدينة وأريافها إلى قيم ومفاهيم مجتمع الغابة بامتياز، ولن تستطيع الدولة فرض سلطة القانون عليها، لامتلاك تلك العشائر لكم كبير من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وصل الحال بالناس هناك، أن يَصِفوا تلك المليشيات والأحزاب والعشائر “بدواعش الشيعة”، نتيجة لأساليبهم الوحشية التي يمارسونها في القتل والسلب والنهب وتغيب القانون
ووصل الحال بالناس هناك، أن يَصِفوا تلك المليشيات والأحزاب والعشائر “بدواعش الشيعة”، نتيجة لأساليبهم الوحشية التي يمارسونها في القتل والسلب والنهب وتغيب القانون، ففي الوقت الذي تمتلئ جدران المدينة بصور قتلى أبناء المدينة المساكين في المعارك التي تخوضها بهم إيران على أهل السنة في العراق وسوريا، نجد أهاليهم يعانون الأمرين من سطوة نفس تلك الجهات التي زجت بأبنائهم في أتون تلك المعارك، ذلك ما كافأت إيران به الشيعة العرب.
وهناك جهات ميليشياوية أخرى، تدَّعي الحرص على الدين ومحاربة الرذيلة، مثل الخمر وارتياد مقاهي الشباب وبيع أجهزه الموسيقى! فهم بدلًا من أن يتخذوا الدعوة والإصلاح سبيلًا للحد من تلك المفاسد (إذا ما جزمنا بأن جميعها مفاسد) فإنهم يقومون بتفجير تلك المناطق وقتل روادها، وهذا ما حدث في تفجير مقهى شبابي يرتاده الشباب، وتفجير بيوت بدعوى ممارسة الرذيلة فيها، وكأن لا حل لتلك الشرور إلا بالتفجيرات والاغتيالات، بل إن كثيرًا من المواطنين البصريين يحمّلون أسباب تردي أوضاع البصرة صراحةً، لحزب الدعوة وكتلة الأحرار وحزب الفضيلة والمجلس الأعلى، إضافة إلى المليشيات المتنفذة في المدينة بمختلف تسمياتها.
ما رأي المسؤولين لتردي أوضاع البصرة؟
اعتبر جبار الساعدي رئيس اللجنة الأمنية بمجلس محافظة البصرة، أن رفع الحواجز الأمنية من داخل مركز المدينة وضعف الجهد الاستخباراتي، أدوا لارتفاع معدل الجريمة، بينما يعزي عضو مجلس محافظة البصرة جمعة الزيني، تردي أوضاع البصرة إلى الأجهزة الأمنية في البصرة وبكل تشكيلاتها لافتقارها للتنسيق والانسجام بينهما (بمعنى أن الفوضى سيدة الموقف في إدارة الملف الأمني في المدينة)، لكن الشرطة وكذلك السياسيين في البصرة، يتهمون “مافيات ومليشيات مسلحة” تتنافس للسيطرة وفرض إرادتها على المحافظة النفطية المطلّة على الخليج العربي.
ومنهم من يعزي الأسباب لقلة عناصر الأمن من جيش أو شرطة، بسبب زجهم في المعارك الدائرة بالمناطق السنيَّة لمحاربة داعش، لكن ألم يكن من الأجدر أن يستعينوا بشباب المناطق السنيَّة لمحاربة داعش، على أن يفرغوا الجنوب من العناصر الأمنية؟ جاعلين مواطني المناطق الجنوبية يرزحون تحت ظلم الميليشيات والعصابات، أم أن لإيران والحكومة العراقية مأرب أخرى؟
هل إيران مستهدفة في البصرة؟
يُعدُّ الصافي أحد أبرز المقربين من النظام الإيراني، ويمتلك ذراعًا عسكريًا مسلّحًا في المحافظة، مما يجعل له اليد العليا في المحافظة لتصفية خصوم إيران وتسخير مقدراتها لصالح النفوذ الإيراني، فتجارة السلاح وتجارة المخدرات والسيطرة على المنافذ الحدودية للمحافظة، من أهم أولويات إيران في البصرة، التي يحافظ عليها الصافي بقوة.
لكن هذا الأمر يجعله في موضع تنافس مع باقي الميليشيات أو الجهات غير المرضي عنها إيرانيًا، حيث إن إيران تُدير عملية معقدة لتلك الأعداد الكبيرة من المليشيات والأحزاب التي تواليها وهي المسؤولة عن فض النزاعات بينهما، فهل يا ترى دخول ترامب على الخط جعل من بعض المليشيات والأحزاب تتجرأ على أدوات إيران البارزة في المحافظة؟ وهل يا ترى الإدارة الأمريكية انتبهت لهذا الصراع، وتحاول تأجيج لهيبه، ومن ثمَّ توجيه ضربة قوية للمصالح الإيرانية في العراق؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
هل للانتخابات المحلية القادمة دور في تردي الأوضاع؟
يعلل بعض المحللين السياسيين، أن تردي الأوضاع الأمنية في البصرة وباقي مدن الجنوب، بسبب خوض الأحزاب السياسية والميليشيات المسلحة، صراع سياسي وأمني مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، وسعي كل طرف لكسب الشارع الشيعي، للسيطرة على قيادة المحافظة، وذلك للمنافع المادية الهائلة التي سيحصلون عليها عند تسلمهم لقيادة المحافظة، خاصة إذا ما تمَّ تفعيل نظام “البترودولار”، إضافة إلى الهيمنة على المشاريع الحكومية والمنافذ الحدودية التي تدُرُّ موارد مالية ضخمة لهذه التنظيمات.
هل من استفاقة؟
كل تلك الشرور التي تُرتكب بحق أبناء هذه المدينة الطيبة وما زال بعض أبنائها يخدعون في كل مرة باسم الدين والولاء للمذهب، ليس من جهل، فالبصرة مدينة العلماء والمفكرين، ولكن يتم استغفالهم في الله والولاء للمذهب، في كل انتخابات يأتي الذين تقطُر أيديهم من دماء أبناء المحافظة، يتسولون أصواتهم ليفوزا بالمناصب التي تُمكنهم من التحكم في رقابهم، وهم أنفسهم من يسوقون أولادهم للموت بمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بحجة نصرة المذهب، والمذهب منهم براء، أليس فيهم من رجل رشيد؟
ليجهر بعلو صوته ويقول كفى للخداع وكفى لبيع مدينتنا وكفى لقتل أبنائنا وكفى لترويج السموم بين شبابنا، ألم يحن الوقت لتعرية أولئك المجرمين وإظهارهم على حقيقتهم، ألم يحن الوقت لطرد أولئك من حيث جاءوا من وراء الحدود، بلى لقد حان ذلك الوقت، وحان وقت الحساب، وإن غدًا لناظره قريب.