جميل أن ينعم التونسيون بمناخ من الحرية ونسيم من الديمقراطية بفضل دماء الشهداء الذين سقطوا ذات شتاء قبل 6 سنوات، برصاص غادر أطلقه حفنة من المجرمين بأوامر من قيادات أكثر إجرامًا منهم، لكن من المؤسف أن تُفهم هذه الحرية بالخطأ ويصبح بعض جلادي الأمس أبطالاً اليوم، يدلون بدلوهم في كل القضايا التي تمر بها البلاد بين الفينة والأخرى والتي لا تكاد تحل إحداها حتى تخلفها أخرى.
مئات الشهداء والجرحى قدموا أرواحهم ودماءهم فداء شعب بأكمله، تزامنًا مع خروج آلاف الثائرين للتعبير عما يجول بداخلهم وللمطالبة بالعدالة والتنمية والحرية والعيش الكريم وإسقاط دولة البوليس الذي كان يستعمله الرئيس المخلوع لحكم البلاد بالحديد والنار، حتى أصبحت مقولة “اسكت فإن للجدران آذان” وردًا يوميًا يردده كل متجرئ على نقد النظام الأسبق.
في تلك الفترة التي لا يمكن للتونسي نسيانها مهما حاول البعض إلهاءنا بسفاسف الأمور عنها، انتهكت أعراض وروّع النساء والأطفال، لا لشيء إلا لأن أبناءهم أو أحد المنتمين لعائلاتهم كانوا قد شاركوا في الاحتجاجات التي قضت مضاجع بن علي وزبانيته، حتى إن الرجال جرّوا إلى المراكز الأمنية جرّا لكي يتلذذ جلاد الأمس بتعذيبهم.
بعد أن حرقت جموع المتظاهرين عددًا من المراكز الأمنية وانفلتت الأمور ولم يقدر “الكرتوش الحي” والغاز المسيل للدموع والقناصة على إعادة الأمور إلى نصابها، أضحى عدد من الأمنيين الفاسدين قيادات كبرى وصغرى غير مطمئنين في أسرابهم ولا في ديارهم، فأصبحوا يلتجئون إلى منازل المدنيين للاختباء إلى حين هدوء الأوضاع، فكان لهم ما أرادوا، حيث حماهم التونسيون ومنعوا حرق منازلهم والقصاص منهم، رغم أن كثيرين من أبناء بلدهم ومن عائلاتهم قضوا برصاص بعض هؤلاء.
بعد 14 من يناير وحين هدأت الأمور وبدأت الأوضاع تتحسن تدريجيًا وتعود إلى نصابها، خرج عدد من الأمنيين في مظاهرات تضامنية مع “ثورة الياسمين” للتعبير عن ندمهم لأنهم كانوا عصى الجلاد الغليظة، فقبل الشعب “توبتهم” وتوحد معهم في حربه على الإرهاب على أمل النهوض بالبلاد وبناء تونس الغد، ولكن.
الفاسدين عادوا إلى تدوير العجلة والتدخل في الحياة السياسية، فأنشأوا نقابات حادت عن وظيفتها الأساسية، يتصدرها عدد من المشبوهين منهم من هو داخل السجن اليوم، وهو ما أثر سلبًا على إرساء “أمن جمهوري” صدع رؤوسنا السياسيون بالحديث عنه وإرساء مقوماته.
لن نعدّد هنا ما قامت به عديد من النقابات الأمنية التي يلف غموض كبير تشكيلها وتمويلها والأطراف الواقفة خلفها، حتى إن الأمنيين يتهامسون فيما بينهم ويلمزون من يقودونها، لكن لا يمكننا أن نواصل الحديث عن هذا الموضوع الشائك دون ذكر حادثة طرد “الرؤساء الثلاث” من ثكنة العوينة عام 2013، وهم على التوالي رئيس الدولة منصف المرزوقي ورئيس الحكومة علي العريض ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر، وهي الحادثة التي كشفت للرأي العام عن خطورة بعض النقابات الأمنية المسيّسة على الانتقال الديمقراطي في البلاد.
الحادثة التي دقت ناقوس الخطر وأسفرت عن إيقاف عدد من الأمنيين عن وظائفهم، حاول عدد من النقابيين تبريرها وإلباسها لباس الاحتجاج العادي، في حين أصدرت أحزاب معارضة ومشاركة في الحكومة وقتها بيانات استنكار وتنديد بما حدث.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد أقل من 3 سنوات، خرج مئات الأمنيين في مسيرة غاضبة للمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى ترديد شعارات سياسية تطالب بطرد رئيس الحكومة حبيب الصيد قبل أن يقتحموا قصر الحكومة ويتسلقوا بعض جدرانه، في حادثة دفعت وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة لاتخاذ إجراءات ردعية عاجلة وفتح بحث تحقيقي بشأن ما حدث.
إن تدخل الأمنيين وخاصة النقابيين منهم في الشأن السياسي أمر واضح للعيان، فالبيانات التي تفوح منها رائحة السياسة لم تتوقف طول السنوات التي أعقبت 14 يناير، كما أن دعوة العديد منهم عبر حساباتهم الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي لتصفية بعض معارضي سياساتهم المشبوهة، واتخاذهم هدفًا للرماية في ثكنات التدريب، والصمت العجيب للنيابة العمومية وعدم اتخاذ الإجراءات الضرورية من قبل وزارة الداخلية، دفع عديد من المراقبين إلى إطلاق صيحة تحذير من خطورة تداخل الأمني والسياسي في تونس وهو ما قد يؤثر سلبًا على السلم الأهلي والانتقال الديمقراطي الهش.
للعمل النقابي شروط وضوابط جدير بمن رفع السلاح لحماية البلاد أن يعرفها وألا يتجاوزها، لا أن ينتهكها غير مبالٍ بعواقبها، لكن الطمع في إرضاء الأحزاب والأطراف النافذة في الدولة وصمت الأجهزة السيادية الرسمية، قد زاد الطين بلة والمريض علّة، حتى إن الانتهاكات والاعتقالات خارج إطار القانون والتعذيب داخل مراكز الإيقاف قد عادت إلى سابق عهدها رغم تحذير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية من ذلك.
أصبح من حق الأمنيين المشاركة في الانتخابات المحلية (البلدية) التي ستشهدها تونس في القريب العاجل، مما أحدث تباينًا في ردود الأفعال خوفًا من عودة سيطرتهم على المشهد السياسي
الآن أصبح من حق الأمنيين المشاركة في الانتخابات المحلية (البلدية) التي ستشهدها تونس في القريب العاجل، مما أحدث تباينًا في ردود الأفعال خوفًا من عودة سيطرتهم على المشهد السياسي، ولكن رغم ذلك فمن المؤكد أنهم مواطنون درجة أولى لهم الحق في المشاركة دون أي طمع في تنغيص الانتقال الديمقراطي الهش، وهذا ما يهدف إليه بعض المصوتين بنعم خلال جلسة المصادقة على القانون الانتخابي في البرلمان قبل أسابيع.
في الأخير نقولها للمسؤولين علهم يعون هذا جيدًا، إن الأيادي المرتعشة لا تصنع التاريخ ولو كانت هناك دولة تحترم نفسها لتصدت لكل محاولات التخريب والرجوع بالشعب إلى الوراء، لكن صراع الأقطاب والنفوذ وتقسيم المقسم وتجزئة المجزئ سيبقى يجر البلاد إلى مستنقع الفوضى وسواد قانون الغاب الذي أبى البعض إلا تطبيقه على شعب أعزل لا حول له ولا قوة.